إنعام كجه جي/ aawsat- أناملهن الرشيقة لم تكن تصلح إلا للتقبيل. وفي الأعراف الفرنسية فإن الرجل المهذب يحيي المرأة بقبلة خفيفة على اليد. يد لذيذة مثل حلوى «أصابع العروس». فإذا كان لا بد لها من الانهماك بشغل من الأشغال الفنية فلن يناسبها سوى التطريز. قماش رقيق وخيط من حرير وكشتبان ذهبي. ماذا تريدين أكثر من كل هذا الدلال؟ ومن كانت تحب التشكيل فلتعجن الطحين بالماء وتصنع الخبز.
ثارت المبدعات الفرنسيات على عبودية الخيط والإبرة، أو الريشة والأصباغ، واختارت بعضهن اقتحام ميدان النحت. امرأة نحاتة؟ يا للهول. أي عارٍ ستجلبه على زوجها وأبنائها حين تعجن بيديها العاريتين الطين الخشن وتنقر الحجر القاسي؟ تعرّضت النحاتات الأوليّات لشتى أنواع المنع والتقريع والهجوم والاستهجان.
كان ذلك قبل أكثر من مائة عام. واليوم يجمع متحف الفنون الجميلة في مدينة رين، غرب فرنسا، عدداً من منحوتاتهِنّ في معرضٍ فريدٍ من نوعه. وهو فريدٌ لأن القائمين عليه مارسوا تمييزاً جنسياً في بلدٍ يرفع راية المساواة. فالفضاء الفني العام ملكٌ للجميع ولا يجوز استبعاد مبدعٍ بسبب جنسه، أي لأنه رجل. لكن ما يشفع لهذا التمييز أنه إيجابي حسن النية، لا يتعارض وقوانين البلاد، والهدف من المعرض «النسائي» تأدية التحيّة للنحاتات البارزات خلال القرن الماضي. وهنّ معدوداتٍ على أصابع اليدين، لم يتم الاعتراف بمواهبهن وبإنجازاتهن إلا في فترات متقدّمة.
لا يكفي أن تتفرّج على القطع الفنية المعروضة في صالات المتحف. أنت مدعوٌّ لمطالعة سيرة كلّ واحدةٍ من الفنانات، والتعرّف على الحواجز التي قفزت فوقها لنيل الاعتراف بإبداعها. كان النحت في منظور المجتمع عملاً رجالياً لا تقوى عليه النساء. مادته الصلصال والرخام والحجر والمعدن. وهو ليس مثل اللوحة التي تحتاج خامةً وفرشاةً وأصباغاً، بل لا بد من إزميلٍ ومطرقة وكتلٍ ثقيلة وجهدٍ عضلي.
ظلّت المرأة النحّاتة محرومةً من استلهام جسدها أو أجساد رفيقاتها في أعمالها. كان السومريون والفراعنة يشكّلون الحجر ويحفرون على الجدران ما تراه الأعين من جمال الخليقة. طيرٌ وسمك ودواب وبشر وشجر. لا يستثنون جنساً. ثم تعاقبت العصور وراح النحّاتون في القرون الوسطى يحولون الرخام إلى حوريّاتٍ متخفّفات من الثياب. لكن المرأة الفنانة كانت ممنوعةً من دخول هذا الفردوس ومطرودةً عند عتبته. الفن العاري للرجال فقط. كوني ملهمةً واسكتي. انظري إلى نفسك في المرآة وتجمّلي. لا تنحتي ما ترين.
وعندما تجرأت الرسامة إليزابيت فيجيه لوبران، في القرن الثامن عشر، على رسم وجهها فإنها لم تنجز مجرد «بورتريه»، بل اعتبر علماء الاجتماع أنها مارست حقاً سياسياً في التعبير عن الذات. أعجبها وجهها فانتخبته.
لا تتشابه أساليب الفنانات لكنها تشترك في أنها تعبّر عن الهوية النوعيّة لصاحباتها. أي «الجندر» بلغة هذا الزمان. ولعل كاميل كلوديل هي الأشهر، وحكايتها هي الأكثر مأساويةً. عشقت النحات الكبير رودان؛ فأفقدها الحبّ عقلها وغطّاها ظلّ المحبوب.
ومع انتصاف القرن العشرين تغيّرت المفاهيم وظهرت نكي دو سانفال. نحّاتةً متمرّدةً كرّست شغلها للاحتفاء بالحضور الأنثوي في مطلق حريته. منحوتاتٌ ضخمة راقصة بأضعاف الحجم الطبيعي وأجسادٌ معافاة تتباهى بامتلائها. نساءٌ يفرِدن أطرافهن متأهباتٍ للتحليق. وبخلاف خشونة الحجر وقتامة البرونز، صبغت الفنانة أعمالها بأكثر الألوان بهجةً وسطوعاً. تماثيلٌ منفلتة لا يمكن أن تُسجَن في المتاحف، نراها تخطف البصر في حديقةٍ عامة في توسكانيا، ومحطة قطارٍ في زيوريخ، ونافورةٍ في باريس. لم يخطئ دليل المعرض حين قال إنّ نكي دو سانفال «منحت النفوذ للنساء».
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.