الفيحاء نت/ مجلة رؤية سورية- في سوريا أدت الحرب التي نتجت عن اندلاع ثورة 2011 إلى وقوع ضحايا بمئات الآلاف كان أغلبهم من الذكور ما فتح الباب على مصراعيه للأنثى لتخرج نحو ميدان الحياة الذي كان يديره الرجل، حيث نجحت العديد من النساء في مجالاتٍ كان المجتمع يصنّفها ذكوريةً بامتياز.
وتشير إحصائياتٌ غير رسمية إلى بلوغ عدد الأرامل جرّاء الحرب زهاء مليون أرملة، ما يثير الكثير من التساؤلات حول مصير هؤلاء وكيف يتمكنّ من الحصول على المعيشة الملائمة لهنّ ولأطفالهنّ سواء في الداخل السوري أو في دول الجوار.
ومع مضي سنوات الحرب سنةً بعد أخرى، نجحت بعض السوريات في تحقيق تقدّمٍ ملحوظ على الصعيد المالي حيث زاد دخلهن المادي لأضعاف ما كان عليه في حال وجود الرجل؛ الأمر الذي يحمل الكثير من إشارات الاستفهام حول النظرة المجتمعية التي كانت تعتبر الأنثى (ضلعاً قاصراً) بحجّة أنها (ناقصة عقلٍ ودين).
حفنة بذورٍ أنتجت (مشتلاً)
تسقي الأربعينية “أم مروان” غراس المشمش – التي بذرتها العام الفائت – بعنايةٍ فائقة ، وحينما تنتهي من السقاية تحاول تفحّص مختلف النباتات المنتظمة في صفوفٍ طويلة في حديقتها المتاخمة للمنزل الواقع في بلدة خان الشيح بريف دمشق.
سنواتٌ عديدة مضت على الحادثة التي غيّرت مسار حياتها، لا تزال تذكر الحرب التي اندلعت في منطقتها المطلّة على العاصمة، ما قادها إلى النزوح مع أولادها الصغار تاركةً زوجها الذي آثر البقاء للدفاع عن مدينته ومن ثم سقط شهيداً على تربتها خلال إحدى المعارك.
تحرّك أم مروان معصميها مصدرةً صوتاً رناناً من أساورها الذهبية التي تبدو غالية الثمن “زوجك مات! زوجك قتل في المعركة! ما إن سمعت النبأ الأليم حتى انهارت قواي تمنيت حينها لو ألحق به، لكن في النهاية أدركت ألا فائدة من البكاء والعويل فعلي إطعام أربعة أطفال أكبرهم لم يبلغ العاشرة”.
لا يبدو الفقر على السيدة التي تتمتع بقوةٍ بارزة في شخصيتها. كلّ شيءٍ حولها يروي قصة نجاحٍ كبيرة لسيدةٍ ينظر إليها المجتمع ككائنٍ ضعيف وغير مكتمل النضج لدرجة عدم قدرته على مجرد العمل خارج البيت.
تحكي أم مروان بتصميمٍ واضح تجربتها الناجحة في جني المال بعيداً عن أيّ مساعدة “بعد مقتل زوجي بشهرين بدأت في هذا المشروع، في البداية حصلت على عشرات الغراس والشتلات الصغيرة لنباتاتٍ مثل البندورة والباذنجان والفليفلة، واليوم أدير مشتلاً كبيراً يدرّ عليّ ما يكفي ويزيد من المال”.
وتتابع “عشرات المزارعين يطرقون بابي كلّ يومٍ لشراء ما ينتجه مشتلي من غراس، إنهم يحصلون على التفاح والخوخ والمشمش والدراق، لدي تنوّع كبير في الإنتاج بما يناسب المحصول الصيفي والمحصول الشتوي”.
تاجرةٌ تنافس الرجال
الصورة المعروفة عن المرأة السورية قبل الثورة لم تكن تتعدى المكوث في البيت لتربية الأطفال، وحينما تقرّر بعض النساء اللواتي حالفهن الحظ العمل في الخارج كن لا يتجاوزن مهناً قليلة؛ مثل التعليم والطبابة النسائية ومساعدة الزوج في زراعة الأرض.
سيدةٌ أخرى من الريف الدمشقي كسرت هذه الترنيمة بعد اندلاع الحرب في سوريا، نزحت “نوال” مع زوجها وطفليها إلى منطقةٍ قريبةٍ من دمشق عقب الحملة العسكرية التي طالت مدينتها. وبعد اعتقال زوجها من قبل النظام لجأت نوال لممارسة التجارة بهدف إعالة نفسها وأطفالها.
“في بداية الأمر افتتحت بسطةً صغيرةً لبيع مأكولات الأطفال” تتحدّث نوال عن التباشير الأولى لمشروعها التجاري المختص ببيع المواد الغذائية والخضراوات التي أطلقته قبل ثلاث سنوات.
نوال التي لم تتجاوز الثلاثين عاماً تمكّنت من تحويل بسطتها الصغيرة إلى محلٍ تجاري رابحٍ في غضون بضعة أشهر لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. تقول نوال بينما تفتح درج النقود مقلّبةً المال بين كفيها “قبل الثورة لم أكن أتخيل نفسي في هذا المكان، كنت بالكاد أعرف التجوّل في السوق، واليوم وفي ليلةٍ وضحاها غدوت تاجرةً، وسابقت الرجال في مهنتهم الرائجة”.
تبتسم نوال بينما تتابع “على أيّ حال، أنا سعيدة لأنني تمكّنت من تذوّق طعم النجاح”.
امتلأت رفوف متجر نوال بشتى أنواع الغذائيات؛ ما يظهر الحركة النشطة لتجارتها المزدهرة. تسعى هذه المرأة الريفية لكسب المزيد من الأموال؛ بغية تعليم طفليها وإيصالهما لمراحل متقدمة في الحياة “أهم شيء عندي الآن هو أطفالي” انهمرت دموعٌ حارّة من عينيها؛ وهي تؤكّد “عندما يخرج زوجي من سجنه سيسرّ لهذا النجاح الذي حقّقته في غيابه”، تمسح عينيها وتتابع “أنا أعيش على وقع تلك اللحظات”.
في الطريق إلى مكانها المناسب
المحامي ومدير مركز الكواكبي لحقوق الإنسان “غزوان قرنفل” أكّد أنّ صورة المرأة السورية اختلفت بعد الثورة كما تبدلت وظيفتها الاجتماعية كثيراً عما كانت عليه قبلها. قرنفل أشار إلى أنّ المرأة “لم تعد فقط ربّة منزل أو موظفة تنجز عملها وتعود لبيتها لاحتضان ورعاية أسرتها؛ بل تضاعفت مسؤولياتها أمام غياب الرجال أو تغييبهم أو استقالتهم من أدوارهم أو عجزهم عن أدائها”.
وهكذا غدت السورية مربيةً وراعيةً للأسرة ومسؤولةً عن تأمين سبل عيشها في آنٍ معاً. يشدّد قرنفل “لقد تركت وحيدةً تنأى بحملٍ ثقيل يضاعف أثقال ما تعرضت له من قهرٍ واستغلالٍ وجرائم ابتزازٍ وتحرّش واغتصاب، وعلى المقلب الآخر اضطلعت العديد منهن بدورٍ ريادي في مسار الثورة، وانخرطن في الحراك المدني، وقمن بدورٍ مميز إعلامياً وسياسياً وحقوقياً، وهذا لم يكن ممكناً أن يحصل في ظل نظام العسف والاستبداد”.
إلى ذلك، أشار مدير مركز الكواكبي إلى أنّ التحولات على المجتمع خلال سني الصراع، ساعدت في إطلاق قدراتٍ نسائية كامنة صنعت مساراً للتغيير البنيوي في وضع المرأة ودورها في المجتمع السوري لا رجعة عنه مستقبلاً. وأردف “المرأة صارت فاعلةً وصانعةً لقرارها ومستقبلها ونمط حياتها ولم تعد تحت وصاية أحدٍ وهي سيدة قرارها وهذا هو المهم”.
مركز الكواكبي الذي يديره قرنفل أولى منذ البداية اهتماماً كبيراً بالمرأة السورية بغية تمكينها في المجال القانوني والحقوقي، وفي هذا السياق يوضح مدير المركز “قدّمنا عدّة مبادراتٍ سواءٌ في تركيا أو داخل سوريا، ومن المبكر أن نجني الحصاد؛ فعملنا لا يؤتي أكله سريعاً. هو عملٌ تراكمي يؤدّي لتحولاتٍ نوعية بعد فترةٍ من الزمن، وهو ما ننتظره ونعوّل عليه لتعزيز دور المرأة على مختلف المستويات”.
في النهاية قال قرنفل “المرأة لا تحتاج نُصحاً.. هي تحتاج دعماً من الصادقين والمؤمنين بدورها؛ حتى تنهض بمسؤولياتها. لا نريد أن نلقي عظةً عليها، هي فاعلٌ اجتماعي ولدينا الرغبة والقدرة لدعم دورها بتلك الصفة”.