لا تختلف قصص الأرامل في سوريا خلال زمن الحرب إلا في التفاصيل، فكلها معاناة تبدأ من نظرة المجتمع إليهن حتى نظرة أهل الزوج ثم أهلها، لتتعمق المأساة إذا لم يكن لديهن مورد رزق يكفل لهنّ تربية الأولاد.دمشق/ جريدة العرب- بعد أن يبكي عن زوجها من يبكي من الأقارب والأصدقاء والجيران، ينفضّ مجلس العزاء لتحمل المرأة السورية لقب الأرملة، اللقب الذي لا تحبه النساء حتى لعدوّاتهن، لأنه يفتح في وجوههن أبوابا مظلمة لا تُعرف نهايته.
الحزن والمصير المجهول ثمن الحرب الذي تدفعه النساء وأطفالهن رغم أنهم لم تكن لديهم يد في إشعال فتيلها، ولكنهم يكونون الضحايا الأولى بوفاة الأزواج فيودعون حياة الدفء والاستقرار ليواجهوا أطماع كل من حولهم.
تزايدت أعداد الأرامل في سوريا مع ارتفاع وتيرة الحرب، حتى قالت منظمة الأمم المتحدة إنهن من أشد نساء العرب قهرا لما يعانينه جراء الضوابط الاجتماعية المفروضة عليهن من قبل الأهل والمجتمع.
يؤكد علماء الاجتماع على أن هناك مشكلة اجتماعية عميقة تواجهها سوريا في السنوات القادمة عنوانها الأرامل، وإذا لم تكن هناك معالجات مبكرة، فستكون لذلك نتائج مستقبلية خطيرة.
صراع الأرامل مع الحياة يبدأ مع أهل الزوج فمع أهلها ثم مع المجتمع إن كانت صغيرة وليس لديها أطفال، قبل ان يبدأ مع توفير لقمة العيش لأبنائها إن كان لديها أطفال.
يظن أهل الزوج أن الأرملة لا تستطيع تأمين مستقبل أولادها بعد رحيل أبيهم، وللمحافظة على الأطفال في بيت أهل الزوج عادة ما تُجبر الأرملة على الزواج من أخي الزوج كما تروي مروى من حمص التي توفي زوجها منذ ثلاث سنوات في المعارك الدامية التي دارت وسط المدينة قائلة، “لم ينفضّ مجلس العزاء حتى بدأ أهل زوجي يفكرون في كيفية الاستيلاء على ما تركه لي زوجي من بعض المدخرات والتي يعرفون مقدارها تقريبا، فاقترحوا في البداية أن أنتقل إلى السكن معهم في بيتهم وهو اقتراح قبلته بعد التفكير في تأمين بعض الأمان لأطفالي الثلاثة، وكنت أساهم في نفقات البيت وحين حصلت على بعض الكفالات المالية لأبنائي من الجمعيات الخيرية، اتهموني بسوء التصرف في الأموال وبدأت المضايقات تزداد يوما بعد يوم، وكان آخرها عرض تزويجي من ابنهم الذي يصغرني بسنوات، فقررت الانتقال للعيش مع أهلي لتبدأ معركة حضانة الأطفال في المحاكم”.
قضية تزويج الأرملة من شقيق الزوج حجتها دائما المحافظة على الأولاد والمساعدة في تدبير حاجياتهم، لكن مخلفاتها النفسية كثيرة إذا ما رفضت الأرملة ذلك، فسلمى من اللاذقية تركها زوجها إثر وفاته في الحرب الدائرة منذ سنوات وترك طفلا وحيدا، تروي لـ”العرب” حكايتها “ما إن انقضت العدة حتى فوجئت بوالدة زوجي تقترح زواجي من أحد أبنائها الآخرين وحين رفضت طردوني من البيت وافتكوا طفلي الوحيد، ثم استولوا على بيتي ليتزوج فيه أحد إخوته، وفي غرفة نومي”.
مأساة سلمى لا تتوقف عند ذلك الحد فأهلها اقترحوا عليها مباشرة الزواج من بقال الحارة الذي يكبرها بسنوات عديدة بترتيب من والدها الذي أصرّ على ذلك وسانده ابنه البكر في ذلك خوفا من أقاويل الناس، تقول “لم تكن لي حلول كثيرة للتخلص من ضغوطات الأهل غير لجوئي إلى خاطبة لتبحث لي عن زوج، حكيت لها قصتي فتعاطفت معي ودبّرت لي للهروب إلى تركيا بدل إيجاد زوج، وأنا الآن أعيش في تركيا واعمل بمصنع خياطة وهي المهنة التي درستها في صغري، لكنني أعيش بعيدا عن ابنتي التي لا أعرف مصيرها في بيت جدها”.
حكايات الأرامل في سوريا تطول، ولكل منهن حكاية مؤلمة، فالمجتمع والأهل يرفضان أن تظل الأرملة دون زواج، خاصة إذا كانت صغيرة حيث تكثر أطماع كبار السن في الزواج منها وهي الأرملة التي لا يقبل بها الشباب، تقول هناء (24 سنة) من إدلب والتي توفي زوجها وترك لها طفلتين، “لم تمض على وفاة زوجي أربعة أشهر، ومازلت حزينة على من عشت معه أحلى فترات العمر، حتى بدأ الناس يتهافتون على خطبتي من أبي الذي استحسن الفكرة بدافع أن المرأة لا يسترها إلا بيت زوجها.. ووافقت تحت الضغوط على الزواج من رجل خمسيني أعلم أنه متزوج وله أطفال، وما إن انتقلت إلى بيته حتى طالب أهل زوجي بطفلتيّ، فهم أحق مني بتربيتهما كما يقولون، ويرفضون أن تعيش ابنتا ابنهم مع رجل غريب، ليتفاقم حزني”.
هكذا تصادر حرية وخصوصية المرأة الأرملة في سوريا كما تقول سلمى، “الأرملة مدانة ومهانة في مجتمع تقليدي، تباع سلعة في سوق الحرب التي سُرق منها الدفء والحب والحياة”.
إن التي تفلت من الأرامل من الزواج بالإكراه لا تكتسب استقلاليتها، حيث تزجّ بها الحرب في خانة إعالة أطفالها في بلد تعصف به أزمة اقتصادية خانقة تزداد كل يوم مع غلاء الأسعار وندرة المواد الضرورية وندرة الوظائف، لتلجأ إلى التسول. ويجد البعض من الأرامل أنفسهن في سوق الدعارة فيبعن أجسادهن وكرامتهن دون أن يخترن ذلك.
تواجه أغلب الأرامل عدم توفر الدخل الثابت لإعالة أطفالهن، والحكومة السورية لا تدفع الكفالات إلا لزوجات العاملين في الجيش النظامي.
يقول ناشط في العمل الخيري اختار الاحتفاظ باسمه “إن معظم المؤسسات التي تقدم خدماتها للأرامل والأيتام غالبا ما تؤدي أدوارا محدودة في التخفيف من صعوبات الحياة عليهم، إذ لا توجد برامج كافية وشاملة تخدم هذه الفئة التي تواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية جمّة”.
أما التي قبل بها والدها أو والد زوجها كي تعيش معه ويتكفل بمصاريف الأولاد، فقد يجعلها ذلك تعيش بعض الطمأنينة على فلذات كبدها، لكن التي لا معيل لها فليس لها إلا أن تنزل إلى الشارع لتبحث عن شغل رغم أهوال الحرب وفوضاها اليومية، تقول أم بهاء التي تعيش في إدلب “مات زوجي منذ أربع سنوات بقذيفة هاون طائشة وهو في طريقه إلى دكانه للخياطة، منذ ذلك الحين وأنا أعمل في البيت الذي نمتلكه كخياطة في الحارة لأعيل أطفالي الأربعة الذين مازالوا في عمر الزهور، بالاعتماد على الليرات القليلة التي أتدبرها إلا أنني أعتبر حالي محظوظة”.
ولم تجد أرامل أخريات سبيلا سوى التسول، كما هو الحال مع الخمسينية أم العبد التي تنزل إلى الشارع في دمشق يوميا لتسأل الناس بعض المساعدات، تقول “الناس يشفقون على أطفالي بجانبي، لكن الحالة تتعقد كل يوم إذ أننا نعاني من ضائقة اقتصادية بسبب غلاء المعيشة”.
وتضيف أن سنها جعلتها في حماية من تحرش الرجال حيث إنها لم تتعرض إلى إزعاج، عكس بعض السيدات الصغار اللاتي يعرض الرجال عليهن تقديم بعض الخدمات الجنسية لقاء بعض المال، هكذا هو حال من فقدت زوجها في زمن الحرب.
وتتمنى أم العبد أن تنتهي الحرب التي طالت، وأن تهتم الحكومة والمجتمع المدني بالأرامل اللاتي بلغ عددهن الآلاف.