نبال زيتونة/ موقع السيدة- عندما كنّا صغاراً، كانت أمّي ومن قبلها جدّتي، تدوّر الثياب وتخيطها لنا، تحيك الصوف، وتجيد الأشغال اليدويّة المتنوّعة، كما كانت تجفّف الخضار والفاكهة، وتصنع الصابون والمربيات، إلى جانب متابعة دروسنا، وملاحظة ما اختلف من معارف وموادّ درسيّة، وما اتفق مع ما تعلّمته في زمنها.
وكثيراً ما كانت تتوقّف عند الصعوبات التي تواجهها الأسرة الكبيرة، على أمل أن تتوفّر وسائل تحديد النسل مستقبلاً.
كلّ ذلك، لم تتعلّمه أمّي في الإتحاد النسائي، ولم تكن من روّاده أصلاً.
وكلّما تحدثت عن الإتحاد النسائي، تطفو على السطح مسحة السخريّة التي كانت تغلّف الحديث عنه على جميع المستويات. لا لشيء إلا لأنه كان يرسّخ فكرة التمييز بين الجنسين على خلفيّة تقسيم الأدوار وتوزيعها، مع استلاب حريّة المرأة لصالح عقيدة البعث وقائدها، تحت شعارات أفرغت من محتواها، مثل الوطن الذي اختصره القائد بشخصه، وحقوق المرأة التي أثبتت المرحلة أنها لم تكن سوى حبرٍ على ورق.
على هذه الخلفية، أقصيت المرأة المختلفة عن ذلك النسيج، وكُرّست صورتها النمطيّة المنقادة دون وعي منها، لتكون النموذج المعبّر عن المرأة السوريّة طوال عقود الاستبداد.
تأسيسه وأهدافه
تأسس الإتحاد النسائي العام سنة 1967، وكان يعدّ في مرحلة ما بعد الاستقلال مؤسسة من مؤسّسات المجتمع المدني، التي من مهامها الملحّة الضغط على الحكومة لسنّ قوانين تضمن مصالح النساء في سوريا، ويُفترض أن يكون جهة داعمة لتحرّر المرأة، وتشكيل وعيها المجتمعيّ والسياسيّ.
وتصبّ أهدافه في تنظيم طاقات المرأة، وتنسيق جهودها ضمن إطار العمل الجماعيّ المنظّم، من أجل إزالة العوائق الاجتماعيّة والقانونيّة والثقافيّة التي تحول دون تطوّرها، وتمنع مشاركتها الفعالة في بناء المجتمع، ورفع مستواها الثقافيّ والسياسيّ، وتنمية خبراتها لتمكينها من المساهمة في الحياة السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بما يحقّق التقدّم والتنمية، كما يهدف إلى العمل على تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الكفيلة بتوفير الطمأنينة للمرأة، فيما يتعلق بدورها كربّة منزل، وكعضوة منتجة في المجتمع، والعمل على إزالة القيود التي تعرقل تطورها.
حلّه وفلسفة حلّه
في 23 نيسان 2017، صدر المرسوم الذي يقضي بحلّ الإتحاد العام النسائي، بعد مايزيد عن 50 عاماً على تأسيسه.
ولم يمرّ هذا المرسوم على أدوات النظام، دون الاستفاضة في تحليله، وما ينمّ عن حكمة لدى القيادة التي تصنّف نفسها “حكيمة”. وقد أصدرت القيادة القطريّة للبعث بياناً تفلسف فيه حلّ هذه المنظمة، حيث رأت في ذلك خطوة نحو تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين، وإلغاء التمييز ضد المرأة، كما هو تكييف القوانين مع الدستور النافذ وموادّه. وأن الإلغاء لا يعني أن تجربة الإتحاد كانت فاشلة، بل على العكس، فقد أدّت وظيفتها، وأتت أُكلها في المراحل السابقة، حسب زعم القيادة، وحان الوقت للارتقاء بالمرأة إلى مستوى جديد على طريق المساواة التامة.
كما رأت أنّ إنهاء التمييز التنظيميّ، يعزّز التوجّه لإنهاء التمييز المجتمعيّ. وهكذا تنتهي تماماً فكرة “الكوتا”، التي هي أيضاً فكرة تمييزيّة، ربما تصلح للمجتمعات المتخلّفة التي لا تستطيع فيها المرأة الوصول إلى المسؤوليّات بشكل طبيعيّ قائم على المساواة.
على ضوء هذا التحليل؛ يعني أننا أمام مجتمع سوريّ خالٍ من التمييز حسب زعم القيادة، التي غاب عن بالها الحالة المزرية لقانون الأحوال الشخصيّة، الذي يعود إلى عصور ما قبل حضارية، ومازال يشكّل نقطة سوداء في تاريخ التشريع السوريّ، ونسي أنّ المرأة لا تملك حقّ منح جنسيتها لأطفالها وزوجها، ومازالت تعيش كابوس “جريمة الشرف”، الذي يمتهن حقّ المرأة في أبسط حقوقها “حقّ الحياة”، ويلطّخ وجه النظام وتشريعاته وممارساته.
وكأنّ هذه القيادة “لحكمتها”، ترفّعت عن معرفة تفاصيل صغيرة، كالطلاق التعسّفي، وتعدّد الزوجات، وقوانين الحضانة والوصاية والإرث، فضلاً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وحريّة التعبير.
إنجازاته قبل الثورة
اختُزلت قضية المرأة في سوريا قبل ثورتها في آذار عام 2011، في إتحاد نسائيّ عام، شأنُه شأنُ أيّ مؤسسة ذكوريّة أخرى، واختُصرت صورة المرأة فيه بحفنة من النساء اللواتي يتشبّهن بالذكور، ويعلنّ ولائهنّ لديكتاتورية “القائد الفذّ”.
اقتصر عمل الإتحاد النسائيّ في تلك المرحلة، على توجيه نشاط المرأة السورية إلى الواجبات المنزلية، كتعليم الطبخ والأعمال اليدويّة، وتعليب الكونسرة والرسم على الحرير، ونشر وسائل تحديد النسل وتنظيم الأسرة.
لقد عمل الإتحاد العام النسائي طوال عقود، على احتكار فكر المرأة في بوتقته الرجعيّة لصالح النظام الاستبدادي وأفكاره ومعتقداته، ومنع أيّة منظمة أو جمعية أخرى من التصدّي لشؤون المرأة.
وبنظرة أفقيّة على الحياة العامة في سوريا، نلاحظ استبعاد المرأة عن الحياة السياسيّة والاقتصاديّة المؤثّرة، وحصر دورها في الشؤون الاجتماعيّة والعمل المحكومة أصلاً بقوانين الأعراف والدين، إضافة إلى ثقافة التطبيل والتزمير للقائد.
طوال عقود مضت، لم نسمع للإتحاد النسائيّ صوتا في مناصرة قضايا المرأة، أو الحدّ من الانتهاكات الممارسة بحقّها، وعلى رأس هذه الانتهاكات قتل المرأة تحت مسمّى “جريمة الشرف”.
ولم يعمل الإتحاد العام النسائي على توعية المرأة ومساعدتها في وعي ذاتها ووعي مجتمعها، بل على العكس كان يعمل على مصادرة وعيها، وتطويعها في خدمة نظام سياسيّ وتكريس سلطته المطلقة، كما غذّى عجزها أمام سلطة الدين والموروث الفكريّ والثقافيّ، مدعوماً بسلطة القوانين والتشريعات.
فقد ازدادت عبوديّة المرأة، وزاد استغلالها في سوق العمل، وكُرّست النظرة الدونيّة لها بمباركة الإتحاد النسائيّ العام، وتحت سمعه وبصره!
حصلت المرأة على مراكز علميّة وثقافيّة رفيعة، لكنّها بقيت تحت سلطة قانون الأحوال الشخصيّة المهين، وبقيت عرضة للقتل حين تتجرّأ على مخالفة الأعراف والتقاليد، بقيت مهدّدة بالطلاق، والحرمان من الميراث وحضانة أطفالها، بقيت عرضة للانتهاكات في زنازين النظام وسجونه، بقيت مصادرة الإرادة والفكر.
دوره في الثورة
فقد الإتحاد النسائي مع بداية ثورة 2011، كغيره من المؤسسّات، الكثيرات من كوادره على خلفية مباركته السلطة القمعيّة ربيبته، ودعم ممارساتها في القتل ومصادرة حريّة السوريين رجالاً ونساء، كثيرات مضين بصمت في رحلة اللجوء والنزوح والتهجير، التي طالت معظم المدن والبلدات السوريّة، وقليلات منهنّ أعلنّ انشقاقهن عن هذا الاتحاد كمؤسسة تابعة للنظام، وليس كمنظمة للدفاع عن حقوق المرأة.
وبالمقابل، ظلّ الإتحاد النسائيّ يمارس عمله المعهود بالطريقة والأسلوب ذاته، إلا أنه زاد من وتيرة نشاطه التعبويّ المنحاز للأسد، وجنّد بعض نسائه ضمن ميليشيا كتائب البعث والدفاع الوطنيّ. وكغيرهم من المؤسّسات، ردّدوا العبارات والشعارات التي أملتها المنظومة الأمنية السلطويّة مثل، “لأنّك الوطن، كلّنا معك” و”سوريا، الله والقائد بشار حامينها”، و”إن أردتموها حرباً فأهلاً وسهلاً”.
وانحصرت مهامه ونشاطاته بزيارة الحواجز العسكرية، وإقامة المعارض الفنية والتراثية، وحملات تلقيح الأطفال في بعض المناطق الآمنة، وندوات الصحة الأسريّة، والمحافظة على البيئة، وحملات النظافة وترشيد المياه.
واللافت في رسائلهم، وخاصة رسالتهم الموجّهة للأمم المتحدة في يوم المرأة، أنّهن يخشين على المكتسبات الكثيرة حسب زعمهن، التي تحقّقت للمرأة السورية في العقود الماضية، من الضياع بسبب “جرائم الإرهابيين”، وذلك في خطاب خشبيّ بالٍ ومكرور.
كما غلبت اللغة الذكوريّة الصرفة، على خطاباتهم في تغطية بعض المناسبات، ما يدلّ على هشاشة الثقافة النسويّة أمام الخطاب الذكوريّ العام. وحصرن عمل النساء في تلك المرحلة على تربية الأبناء على الشهادة ومعاني الشموخ والصمود، كما عبّرن عنها.
ولشدّ ما دأبن على الإشادة بما وهبه إياهنّ القائد المفدّى، وتعظيم عطاءاته لهنّ، وتقديس شخصه، مقابل تهميش نضالات المرأة. وزدن على ذلك أنّ “القيادة الحكيمة” أعطت المرأة كلّ ما تحتاجه، ما يعني انتهاء صلاحيّة منظمات الدفاع عن حقوق المرأة، وإغلاق الباب، وقطع الطريق أمام شرعيّة وجدوى المنظّمات النسويّة التي نشأت في ظلّ الثورة، هكذا صادر الإتحاد النسائيّ حقوق السوريات، ومنع عليهن حتى المطالبة بحقوقهن.
ومن جهة أخرى خسرن العديد من المكوّنات السوريّة، في ظلّ خطابهنّ الموجّه للمرأة العربيّة السوريّة، دون غيرها من المكوّنات، وتغافلن عن المرأة الكرديّة والآشوريّة والسريانيّة وغيرها، تماهياً مع الخطاب السلطويّ التحريضيّ في تعميق الفجوة بين مكوّنات الشعب السوريّ.
كما عبّرن عن دمويّة غير مسبوقة، ومباركة للعنف الذي مارسه النظام، ومازال يمارسه إلى اليوم، وذلك من خلال دعمهنّ “الجيش العربيّ السوريّ صانع البطولات ومحقّق المعجزات”!
وسيراً على خطى النظام أيضاً، لجأ الإتحاد النسائيّ إلى تغطية مناسبة “يوم المرأة”، بالتوازي مع الحديث عن ثورة الثامن من آذار، والتغنّي بمنجزاتها التي “حرّرت الوطن والمواطن”، بعد أن كان قد تجاهلها لعقودٍ مضت.
ولا أبالغ إن قلت، إنّ الإتحاد النسائيّ كمؤسسة مهترئة من مؤسسات السلطة الذكوريّة المستبدّة، عملت على تدجين أجيال من النساء، وأنهت مهمّتها بتسليم الأمر إلى صاحب الأمر، “سيدهنّ المفدّى، قائدهنّ إلى الأبد، معراجهنّ إلى الحريّة والكرامة، الذي كان الأب والابن والأخ لهنّ”.
والتاريخ حسب زعمهنّ “لايكتبه سوى رجالٍ كرجال الجيش العربي السوري”. وبذلك يغلقن الباب على نضالات المرأة، وعلى صوتها الحرّ، ويكرسن عبوديّتها، كأن لم يكنّ يوماً نساء.
أمّا عن عبثيّة الرحلة فأقول، لم يحظَ النظام بالنتائج المرجوّة من تأسيس الإتحاد النسائيّ، بدليل مشاركة شرائحَ واسعة من السوريّات في ثورة الكرامة، وتشكيلهنّ منظّمات نسويّة للدفاع عن حقوق المرأة، وإصرارهن على المطالبة بحقوقهن، رغم آلة القتل والتعذيب والتهجير التي طالت كلّ بيت، وكلّ رجلٍ، وكلّ طفلٍ وامرأة على امتداد التراب السوريّ.