أدونيس غزالة/ مجلة “صور”- أشار الكاتب عماد الصحناوي في مقالته: “المُربّية والمُربّي إذ يحتاجان إلى تربية” أنّ:”التربية منظومة اجتماعية متكاملة، تصنع الطبيعة العامة للأفراد وتساهم إلى حدّ بعيد في إنتاج هوية الفرد الشخصية. والوعي والتربية متلازمان يحدّد كل منهما الآخر، ويمنحه خصائصه وصورته. وأيّ نقص أو خلل في أحدهما سيؤدّي إلى نقص الآخر واختلاله، وأيّ نقص فيهما سيُنتج بالضرورة نقصاً في إنسانية الإنسان ونقصاً في وجوده”.
إذا كانت التربية منظومة اجتماعية متكاملة، فلابدّ أنّ المدرسة هي جزء أساسي من هذه المنظومة، خاصة وهي العتبة الثانية، بعد الأسرة، التي يبلغها الفرد، فالمدرسة تساهم بشكل كبير وفعّال في تنمية الفرد وإنضاجه نفسياً واجتماعياً ومعرفياً، في مراحل الطفولة المختلفة، التي شخّصتها المنظمات والهيئات المعنيّة بالطفل والتربية، والتي تبدأ منذ ولادته حتى بلوغه الثامنة عشرة. ولا تكتمل عملية التنمية والإنضاج، إلا إذا رافقها مجموعة من الركائز التي تستند عليها وتدعمها، أهمّها: الوعي والاهتمام والحبّ، هذه الركائز التي تشكّل الخطوات الرئيسية فيما يحدّد مسؤولياتنا اتّجاه هذا الطفل.
بالنظر إلى واقع المدارس في مجتمعاتنا العربية ومحاولاتها الانتقال من التربية التقليدية إلى التربية الحديثة، يمكننا أن نقول إنها دخلت عالم التربية الحديثة، ولكن كان دخولها ظهرياً، وهذا الدخول إلى عالم التربية الحديثة يبدو ناجحاً، في الظاهر، فالعديد من المدارس في أماكن مختلفة من مجتمعاتنا تعتمد أساليب تربوية حديثة، أولى مرتكزاتها: منع العنف الماديّ، واللفظيّ، والمعنويّ، ولكن مع ذلك فشلت هذه المدارس في إنتاج وعي حديث، يُفترض أن يكون هو غاية العملية التعليمية، من خلال الانفتاح على التجربة الإنسانية الشاملة، والتأسيس لوعي مدنيّ. ربما في مقاربة مثال تجربة التعليم في سوريا، ستتبدّى الصورة التي سأحاول توضيحها في هذا الشأن.
إذا كانت الدولة في سورية، قد أطلقت اسم وزارة التربية ، على الوزارة المعنيّة بتنشئة الطفل، فهذا يعني أنه تمّ الوعي الفعليّ لأهمّية هذا الاسم، إذ أن التربية السابقة على التعليم تشير إشارة واضحة إلى أسبقية أخلاقية وإنسانية، وتؤكّد أن كل معلّم عليه أن يكون مربّياً قبل أن يشرع بالتعليم, وهذه المسؤولية (التربية) يجب أن يتقاسمها الطاقم التعليميّ كاملاً، وليست محصورة بالمتخصّصين فقط، وأقصد بذلك المرشدين النفسيّين في المدرسة. ويبقى السؤال، أين هي هذه التربية؟
اتخذت وزارة التربية والتعليم السورية عدّة إجراءات للارتقاء بالعملية التربوية، كان أوّلها في سلّم التربية: الحدّ من العنف المدرسيّ، وقامت، لمعالجة هذه الظاهرة، بإصدار قرار يتضمّن سلسلة عقوبات، تبدأ من نقل المعلّم المخالف إلى مدرسة أخرى، ثم حسم خمسة بالمئة من راتبه لمدّة ستّة أشهر، ثم إحالته إلى محكمة السلوك، للتحقيق والنظر في إمكان فرض عقوبات أشدّ. بالنظر إلى هذا الإجراء نجد أن العقوبة نُقلت من طرف إلى آخر، أي من معاقبة المعلّم للطفل إلى معاقبة الوزارة للمعلّم، والسؤال هنا هل نظام العقوبات التي يجب أن تأتي في آخر درجة من الإمكانات التي أغفلها المشرّع يمكنه أن يؤسّس علاقة صحيحة بين المعلّم والطالب؟ هذه العلاقة التي يجب أن تقوم أصلاً على المحبّة والاحترام لا على فكرة الردع والتخويف، (تخويف المعلّم للطالب أو تخويف الوزارة للمعلّم).
أحد المدرّسين يقول: )لا أتصوّر نفسي بدون العصا، فالطلاب نزقون في مثل هذا العمر، وتصعب السيطرة عليهم، ولابدّ من استخدام العقاب سواء الضرب أو الإهانات اللفظية والنفسية، إنها الطريقة الوحيدة لردعهم وترويضهم وجعلهم يعرفون قدر أنفسهم(. أليست العصا هي الممثّل الشرعي الوحيد لسلطة لا ترى أبعد من القمع، والذي هو الشكل الأهم للإلغاء، وعدم الاعتراف بالآخر؟ ثم هذا القمع ألا يقوم أيضاً على تكريس فكرة التسلّط، التي من شأنها أن تكرّس التراتبيات المجتمعية، والتي يقوم أصلها على فكرة الإذعان والولاء؟ ثم ألا يفترض أن المحتوى العلمي للمواد الدراسية يتناقض مع شكل العلاقات التراتبية التي يكرّسها القمع المدرسيّ؟ أليست فكرة العقاب العنفيّ من المؤشّرات الأهمّ على فقر المربّي المُدْقِع في التربية؟ ألا يتساءل هذا المربّي عن الأثر الذي يتركه العنف في وعي الطفل؟ وأيّ خصاء معرفيّ يمكن أن يلحق به؟
إن استخدام مفردات كالردع والترويض هو نفي لإنسانية هذا الطفل، و”جعلهم يعرفون قدر أنفسهم” هو الحدّ من إمكانيّات هذا الطفل أو بالأحرى عدم الاعتراف بها أصلاً. كل ما سبق ينمّ على طريقة تفكير، هي المسؤولة عن الاستخدامات المستقبلية للعنف، والتي في النهاية تجعلنا نعترف صاغرين بتأخُّر مجتمعاتنا. مع مربٍّ كهذا، هل نحن واثقون من وجوب وضع أطفالنا بين يديه؟ فالتعميمات التي صدرت بمنع الضرب، ستردعه عن هذا الفعل، ولكنها لن تلغي النمط المعرفيّ الذي يتلبّسه، النمط الذي أنتج “العصا لمن عصا” هو نمط لا يمكن أن يتبنّى مستقبلاً أيّ حوارٍ مع الآخر، وسيأخذ العلم فيه قيمة متخارجة عن الحياة والمجتمع، حيث سيبقى هامشياً في الوعي العميق للأفراد. فتبقى الحقائق المسيطرة، تلك التي يفرضها الأقوى، والذي يتربّع على هرم التراتبية الاجتماعية.
الحد من العنف في المدارس جملة تمّ تعميمها دون أن يسأل القائمون عليها ما السبب الذي يجعل المدرّسين يقومون بهذا الفعل أولاً؟ وما هو البديل الذي يمنعهم عن استخدامه ثانياً؟ فالمدرّس الذي مُنع من تعنيف الطالب ولم تُتَحْ له معرفة بدائل العقوبة ـ والتي ستكون أكثر نجاعة في تقويم سلوك ماـ لجأ إلى البديل الوحيد وهو الصبر، هذا الإمكان الوحيد جعل الهوّة تتّسع بين المربّي وبين الطالب، لأنه يقوم على الكبت، أي كبت المدرّس لانفعالاته، وتراكم المشكلات بدلاً من حلّها، وفي لحظة ما سينفد هذا الصبر ويعود إلى ديدنه وهو الحلّ العنفيّ.
لماذا يلجأ المعلّم للضرب؟ الإجابات كثيرة وربما أوّلها عدم أهليّة المعلّم التربوية، وجهله بمراحل نمو الطفل، فالتأهيل التربويّ قد يحدّ إلى درجة كبيرة من العنف، لكننا نلاحظ أن المدرّسين المختصّين تخلو مناهجهم الجامعية من مواد التأهيل التربوية، كما أن دبلوم التأهيل التربويّ الذي يجب أن يكون مقرّراً ليس متاحاً للجميع، فهو بحاجة لمعدّلات تخرّج محدّدة، يجعل الكثير من الخريجين الذين سيصبحون معلّمين فيما بعد محرومين من هذه الفرصة. فمن يقرأ نظرية النموّ المعرفيّ عند جان بياجيه سيدرك الجهل الذي نتخبّط فيه والذي يجعل عالم الطفولة موصداً في وجوهنا.
كما أن اختبارات الكفاءة العلمية والشخصية قد تساهم في تضاؤل هذه الظاهرة، ولكن كل هذا لن يكون مجدياً إذا لم يتمّ إعادة المربّي إلى رأس السلّم الاجتماعي معنوياً ومادياً. بعد هذه الخطوات قد يصبح فرض العقوبة على المربّي المخطئ أمراً منطقياً، فوزارة التربية التي أصدرت تعميماتها بمنع العنف، وأصدرت عقوبات قاسية بحقّ المعلّم المخطئ لا يختلف موقفها عن موقف ذاك المعلّم، فالعقوبة المفروضة اعتباطاً ستكرّس فكرة الخوف المتجذّر عميقاً في وعينا العام، الوعي الذي كان سبباً في كل ما يحدث الآن.
أليست سياسة الفرض المتبعة في مؤسّساتنا والتي مازالت تتغلغل في نسيجها هي النواة الأولى والمصدّرة للعنف؟ والتي تتناقض كلّياً مع الطروحات التي تنتهجها في بناء الوعي والإنسان، فنجد المدرسة مع الأسف ـ بالرغم من كل الإجراءات التي اتُّخذت ـ هي محاكاة واقعية للثكنة أو السجن كما وصفها جاد الكريم الجباعي في مقالته (المدرسة.. الثكنة والسجن)، ابتداءً من سور المدرسة إلى شكل البناء إلى غرف الصف إلى عدد الطلاب… الخ، إلى الوعي الذي لم يتمكّن من الخروج من عباءة السلطة. هذه السياسة ستعزّز العنف بجميع وجوهه وتتركه يصادر على كل الإمكانات التي كان بالإمكان أن تتفتّح عند الطالب.
إن مناسيب الهدر المعرفي والإنساني تبلغ أوجها في مدارسنا، وهذا الهدر سيطال في النهاية كل البنى الاجتماعية التي يشكّل الفرد المهدور نواتها العميقة. فالوعي الذي يتشكّل في المدرسة يعمّم وعياً تلقينيّاً يخلو من الإبداع، فتصبح العلاقة مع المعرفة علاقة شكلية تتحدّد في إتمام الطالب المراحل الدراسية دون أن تتغلغل المعرفة إلى وعيه وشخصيته. فتصبح العلامة غاية الطالب ويتعامل معها ببراغماتية ضيّقة، تنظر إلى جدوى مريضة يكرّسها المعلّمون، ومن قبلهم الأسرة، على أن الطالب الأفضل هو من يحوز العلامة الأعلى. لهذا نرى أن علامة السلوك التي طرأت على المدرسة كبديل للعنف، لم يرافقها سوى الوعي التخويفيّ والتهديديّ من فكرة الرسوب، فيصبح السلوك مثله مثل أيّ مادّة يُعنى الطالب منها بالدرجة التي تؤهّله للنجاح. وبهذا يتّضح أيضاً عدم الجدوى من هذا البديل المفروض، إذ أن السلوك بقي يعتمل في ذهن المربّين والطلاب بالصورة النمطية العامة التي لم تحدث فرقاً، بدل أن يكون مشجّعاً وبوصلة تحدّد روائز الصح والخطأ، وهذا مردّه إلى أسلوب التنشئة القمعية الذي يبدأ في البيت وتستكمله المدرسة في نوع من الخطة المبرمجة لقمع العفوية والإبداع والانطلاق والحيوية. كما أشار مصطفى حجازي في كتابه “الإنسان المهدور”.
ما تجدر الإشارة إليه في نهاية هذه القراءة، أن كل ما تحدّثت عنه حدث قبل الأزمة السورية، بينما الآن وفي ظلّها تفاقمت مشكلة التربية ووصلت إلى قيعان يصعب الخروج منها. إن المناخ العام الذي يخيّم على السوريين، من قتل ونزوح وتهجير وقلق وخوف، ترك آثاره العميقة على الأطفال، لنجد أمامنا أطفالاً فاقدين لكل المقوّمات الإنسانية. والمحاولات الفردية لإنقاذ هؤلاء، تبقى غير مجدية، أمام الكمّ الهائل من العنف الذي يتعرّض له الأطفال بشكل مباشر أو غير مباشر.