عمار عكاش/ ayyamsyria- تعود بدايات الحركة النسوية السورية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو عملياً تاريخ بداية الحركة النسوية في الغرب وأمريكا، تزامن ذلك مع ما شهدته السلطنة العثمانية من إصلاحات عرفت باسم المشروطيّة، والتي هدفت إلى تحقيق شيء من التحديث ـ في مواجهة تحديات القوى الاستعمارية الأوربية ـ كان أبرز ملامحه صدور قانون المواطنة وإسقاط قانون الذمية.
وتمثّلت الحركة النسائية في بعض المثقفات من بنات الطبقة الوسطى والغنية ممن أتيحت لهن فرص التعليم وتوفّرت لهن بيئة عائلية داعمة ومن أبرزهن ماريانا مراش، ولبيبة هاشم، ماري العجمي، عادلة بيهم الجزائري، وفي فترة الاستعمار الفرنسي زادت مساهمة النساء في الشأن العام، ولا ننسى هنا أن الشعب السوري بعمومه كان يتلمس بدايات طريقه نحو تأسيس مفهوم الدولة الحديثة، والانتخابات، والمجتمع المدني بمفهومه الحديث، لذلك تعتبر هذه البدايات النخبوية طبيعية جداً وتتشابه نسبياً بدايات الحركة النسوية في مناطق أخرى من العالم، آخذين بعين الاعتبار أن سوريا كانت تحت سيطرة الاستبداد العثماني قروناً ثم الكولونيالية الفرنسية، وآخذين بعين الاعتبار أن الديانة المسيحية في كل أرجاء العالم تأثرت بالإصلاح الديني والعلمنة بينما لم تتوفر الظروف لحدوث أمر مماثل مع الدين الإسلامي مما أثر على البلدان ذات الأكثرية المسلمة.
بعد الاستقلال تأسست ديمقراطيّة عكّرت صفوها الانقلابات العسكرية، وعموماً اتجهت الطبقة المحافظة الحاكمة ـ المكوّنة من بورجوازية تجارية وملاك أراضي ـ نحو الديمقراطية البرلمانية التي أتاحت تطوراً في الحراك المدني والنسوي لكنها بالمقابل ظلت معادية للطروحات العلمانية وتحقيق إصلاحاتٍ مجتمعيّة جذرية، ثم جاءت انقلاب حزب البعث الذي سلب من المجتمع المدني السوري كل مبادراته وابتلعه، وتحولت مجمل الاتحادات والنقابات (بما في ذلك الاتحاد النسائي) إلى أدوات لتدجين المجتمع وتنفيذ سياسيات البعث، وأذكر أنني حين كنت طالباً في علم الاجتماع عام ٢٠٠٥ كنت أقول لزميلة لي إن الاتحاد النسائي يجب أن يطرح كل مشاكل النساء وأن يطالب بسنّ قوانين تزيد مشاركة المرأة الاجتماعية والاقتصادية وتحميها من التحرش والزواج المبكر، لكن زميلتي كانت تقول إن الاتحاد النسائي فعّال فهو يقيم دورات مهنيّة في الخياطة والتطريز!، لقد تحول الاتحاد النسائي على ما يبدو إلى مركز تدريب مهني للنساء ونشر أيديولوجية البعث بنسخته الأسديّة!.
طرحت أحزاب المعارضة اليسارية في السبعينات والثمانينات ضمن جدول أعمالها موضوع تحرر المرأة لكنه غالباً ما كان يأتي كحصيلة أوتوماتيكية لإسقاط النظام السوري وتحقيق الاشتراكية الحقّة، وكانت بنية هذه الأحزاب أبوية يكون فيها الذكر الراعي هو المسيطر والموجّه والمخلّص للنساء والآخذ بيدهن نحو التحرّر.
وظهرت في المجتمع السوري أسماء نسوية كثيرة من مثقفات وكاتبات، لكن عملياً كانت الحركة النسوية متوقفة تماماً.
جاءت الثورة السورية عام ٢٠١١ وشهدنا زلزالاً اجتماعياً، وساهمت النساء في المظاهرات، ولاحقاً في الإغاثة وتهريب المواد الغذائية إلى المناطق المحاصرة واعتقلت الكثيرات منهم، ولكن العقلية العامة للثورة كانت محافظة ترى أن هذه الأدوار النسائية هي للمساهمة في هدف سامٍ هو تحرير الشعب السوري من الطغمة الحاكمة، لكن لم يكن لا في الذهنية الجماعية الأكثر شيوعاً في الثورة ولا في ذهنية المعارضة السياسية أية أولوية لقضايا المرأة، ورغم أن هناك دراساتٍ تلفيقية أصدرتها حتى جهات ذات طابع علماني عن إسهامات النساء في الثورة، وكأنها نتيجة مقصودة للحراك الثوري فالواقع غير ذلك.
لا يعود نجاح بعض النساء السوريات بعد الثورة في مجالات مختلفة ونيلهنّ قدراً أكبر من الحرية خاصة في المنافي إلى أنّ الثورة السورية حملتْ مضموناً تحررياً تجاه المرأة، بل إلى انخراط النساء في الشأن العام، ومعاناة كثير من النساء السوريات نتيجة ظروف الحرب، مما أجبرهن في كثير من الأحيان على النهوض بكامل مسؤوليات الأسرة، وأدى ذلك إلى تعزيز استقلاليتهنّ وزيادة ثقتهن بأنفسهن وتطوير مهاراتهن وشعورهن بأن بإمكانهنّ النهوض بمسؤولياتهن بمفردهنّ، وهذا بدوره انعكس على مفهوم العلاقة مع الرجل أو الشريك.
وتمكّنت بعض النساء أيضاً من الوصول إلى موارد أكبر بحكم أن سوريا أصبحت محطّ أنظار العالم بأسره، فباتت مئات المنظمات الدولية تعمل على الشأن السوري، وخصصت العديد من الجامعات منحاً للطلبة السوريين بعضها موجّه للنساء فقط، أما في بلدان اللجوء الأوربية فساعدت قوانين حماية المرأة على تحقيق تقدم كبير في حياة النساء السوريات. لذلك يبدو لي أن نَسْب هذا التقدم في مجال تحرر المرأة إلى الثورة السورية هو نوع من التلفيق اختص به بعض العلمانيين المحسوبين على الثورة الذين بدؤوا بنوايا حسنة وانتهى بهم الأمر إلى العمل على مبدأ: “عنزة لو طارت”، فالواقع يقول إن الكتلة الأكبر من جماهير الثورة وتعبيراتها السياسية معادية لتحرّر المرأة (أو زيادة حضورها في الفضاء العام واستقلاليتها) ، وغالباً ما تضطر بعض المجالس المحلية ( وحتى الائتلاف السوري المعارض)إلى مسايرة شروط المجتمع الدولي في زيادة تمثيل النساء على مبدأ مكرهٌ أخاك لا بطل.
إن ظروف الثورة والحياة في المنافي أسهمت في توفير شروط تسهم في تحقيق تقدم في تحرر المرأة السورية، وإن كان من شيءٍ ينسب إليه هذا التقدم فهو وجود حوافز ذاتية وإمكانيات عالية لدى المرأة السورية بانتظار البيئة والشرط الملائم كي تتفجر، وبانتظار أن يسهم الذكور المحسوبين على التيارات العلمانية والديمقراطية في دعم هذه الحركة النسوية الجديدة ودعم النساء في محيطهن الاجتماعي وفي خطابهم الإعلامي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وبانتظار أن يضعوا طربوشهم في متحف للتراث.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.