الحيض.. الجذور التاريخية للإقصاء
Artwork by Cendrine Rovini

نورة/feministconsciousnessrevolution- كان لإخضاع النساء منذ ظهور النظام الأبوي أوجه عدة بدأت بإحكام السيطرة الاقتصادية ثم الاجتماعية وبعدها تفرعت الأبوية لتُكَوِن جذورها في باقي البنيات، ونسجت بفعلها المرويات والقصص التي تؤرخ للعلاقة بين المرأة وبين الأفعال “الشيطانية” ترجع في كثير منها لإعتقادات دينية تصور المرأة بأنها خطرة، ونجسة وضعيفة، وغير جديرة بالثقة.

النظرة للمرأة ككيان دنس ترتبط ارتباطاً مباشراً بالظواهر العضوية المرتبطة بتكوينها الجسدي كالحمل والولادة والحيض والنفاس.

وعلى الرغم من أن أهمية المرأة في الأبوية ارتبطت أساسا بخصوبتها أي مقدرتها على إنجاب الأفراد والأتباع للنظام، إلا أن النظر لهذه الظواهر البيولوجية التي يمر بها جسدها انتقلت من الحيرة والدهشة التي دفعت الإنسان لتقديسها إلى النقيض تماما، حيث يظهر الحيض مثلا في عدة ثقافات بأنه يوحي بالموت والدنس والخوف: الخوف خصوصاً مما يمثله الحيض من توقف الخصوبة أو انتهائها.

من هنا نتساءل كيف جاءت إلى الرجال فكرة أن المرأة تولد مُرتبطة بالدونية كأنها تسكن عالمًا سفليا؟

من أين استمدوا تلك الرابطة الدموية بين المرأة والحيوان المسجون في حالته العضوية ولا يتجزأ عن الأرض، غير قادرٍ على التفكير وعَبْدُ غرائزه؟

المرأة بلهاء، المرأة حيوان، وإن لم تكن كذلك تظل في كل الأحوال قدراتها محدودةً إذا ما قورنت بقدرات الرجل أياً كان!.

لماذا؟ لأنها مُصابة بعائقٍ جلَلْ، يُجبرها على تحمّل جسدها على شكل فوضى عارمة لا تمكن السيطرة عليها: إنها تحيض! في حين يتمتع الرجل بالسيطرة التامة على جسده و يمكنه أن يتفرغ للنشاط الفكري.

المرأة تفقد دمَها، دون سيطرة منها والرجل يُعطي دمه بطلاً إن أُصيب بجرح.

ستكون لهذه التقسيمات عواقب تاريخية على تقسيم العمل وتقسيم المجال العام بين الرجال والنساء.

من الدهشة إلى السلطة

يُعتقد أن جذور هذا التقسيم قد تعود إلى العصور الغابرة التي لم يكن لدى الإنسان فيها أدنى فكرة عن علم التشريح ولا عن العمل البيولوجي للجسم.

كان الفرق الأساسي بين الرجال والنساء، والمتكرر عند كل النساء -والذي يميِزهن جوهرياً عن الرجال، فرقا واضحا جليا : هُن يفقدن دمَّهن إنه “فرق أحمر”.

تصوروا كيف كانت لتبدو في نظر هؤلاء الرجال تلك المخلوقات المسكينة، ماذا حدث لهن؟ لماذا فجأة يفقدن دمهن؟ أحمر قانٍ، و تارة أسود غريب ومُزعج حيناً، تصاحبه آلام تمنعها من الوقوف عادة ويتحول عندها إلى مادة داكنة متخثرة، لزجة ولاصقة كالحيوان الجريح… يضطررن إلى البحث عن الأوراق والنباتات لمسح تلك السوائل عنهن ويبحثن عن الماء.

وهذه الظاهرة لا تأتي إلا فجأة، تُباغَتُ بالنزيف وبآلام الرأس المصاحبة له. السائل الأحمر لا يستأذن أبداً ولا يستحي من الظروف ولا يأتي إلا ليمكث مدّته دون انقطاع ولكنها لا تعلم أبداً مدة مكوثه..!

الحيض أيضاً ضيف مزاجي، أحياناً لا يأتي، تنتظره المرأة ولا يأتي، تظن إذاً انها ستجد قسطاً من الراحة ولكن فجأة يبدأ بطنها في النمو ولا يتوقف حتى ينتهي ذلك النمو بكمياتٍ هائلة من الدم تتركها مصروعة فاقدة القوى يظن الجميع أنها فارقت الحياة، وهذا الدم لا يصاحبه أي مولود ولا أي لبن يخرج من الثديين، لقد فقدت جنينها أو تعرضت للإسقاط.

مرة أُخرى تنهمر منها سيولٌ من الماء تصحبه إلتواءات أليمة تدوم ساعات وساعاتٍ وتنتهي بخروج كائن صغير غارق في الدم والمواد اللزجة، البعض من النساء لا يتوقف عنهن الدم أبداً حتى تفيض أرواحهن معه..! والبعض الآخر تفارق المولود الصغير الذي يتحول ضحية لذلك المخاض العنيف.

في شتى الأحوال تبقى المرأة لا تسيطر على أي من تلك الظواهر، حظها من ذلك أن تتحمل كل تلك الفوضى و تستسلم لها.

فلا تكاد المرأة تستريح من تلك العاصفة ومن أنهار الدم والمخاط المصاحبة لها على امتداد أسابيع بعد الولادة حتى يبدأ البطن أحياناً في الانتفاخ مرةً أخرى، تبدأ في تقيؤ كل ما أكلت ويتكرر كل شيء…

شاءت المرأة أم أبت فهي مرادفة لجسمها بل هي جسمُها، إنها مقرونة بدورتها الشهرية مع كل ما يحتمله ذلك من قلة انتظام، مع ما ينتج عن ذلك من أعباء وآلام وبكل ما يحمله ذلك من نقيض البعد الكَمّيِ ِالمُتَّزِن…مقرونة برائحة الدم عندما يتعرض للأكسجين أي رائحة التفكك رائحة التعفن رائحة الموت.

هكذا تكون قطعاً أقرب هي إلى الحيوان منها إلى الرجل الذي يسيطر على جسمه. فجسمه لا يتغير وأعضاؤه تعمل بانتظام وبصفة مستمرة، لا يفقد دمه إلا بطلاً وجريحاً، لا يصرخ ألماً، لا يفرز مواداً مخاطية نَتِنة، لا يتقيأ طوال شهور وليس عُرضة لنوبات الحرارة في سن انقطاع الحيض عند الكبر كما أن قدرته على الإنجاب لا تعرف حداً زمنيًا.

قُرر إثر ذلك أنه من البديهي أن الرجل يسيطر على نفسه! وهذا ما يجعله مؤهلاً طبيعياً للسيطرة على الكون؛ أما المرأة -التي لا تسيطر على نفسها وتتحمل عبء جسمها- فمحتوم عليها أن تتحمل أبد الدهر، أي عليها أن تُطيع و أن تخدم؛ فكيف يمكنها أن تتطاول إلى التحكم في مصيرها مادامت سجينة دورتها الشهرية؟! وكيف يمكنها أن تزعم -ولو في أحلامها – مساواتها للرجل في الوقت الذي تَكُون فيه بنيتها العضوية الغير متزنة خير دليل على دونيتها؟!

إنها “جريحة أبدية” كما يذكرنا بذلك آلاف السنين بعد هذا اختصاصي التاريخ جيل ميشيلى:

“إنها إنسان، جريح ٌ، يتعذب كل شهرٍ نتيجة الجرح الدائم ونتيجة التئام الجرح”.

إِعاقة مزمنة، هكذا رأى الرجال زمناً طويلاً الحيض.

وهكذا نرى كيف يلعب الدم دوراً أساسيا فيما سمته فرانسواز هيريتيير Françoise Héritier “القيمة التمييزية للجنسين” أو بعبارة أخرى في السلم الإداري للجنسين.

يعرف الرجل نفسه بالسيطرة، بالنظام، بالقانون، بالتفكير السوي، بالضمان وبالقدرة؛ باختصار بالفوقية.
العلاقة الموجودة بين الجنس مع إفرازاته الجسدية إذا تُحدد أساس جوهرة الجنسين، هل يستوي الرجل الذي يَحْكُمُ إفرازاته المنوية بالمرأة الغير مُتمكنة من السيطرة على سوائلها …!

لقد عومل جسد المرأة بالجهل والتجاهل التام وأصبح ينظر له في مقابل جسد الرجل تناظرا واضحا كالحار والبارد، المتحرّك والساكن، الفاعل والمفعول به، القوي والضعيف، العلوي والسفلي، الأبدي والفاني…

طبعاً الأول من الثنائية دائماً لديه الأفضلية.

إثر ذلك قدمت “الطبيعة” بأنها من قرر دونية المرأة وتبعيتها للرجل.

نسجت السلطة على تلك الاعتقادات التي تصور الرجل بأنه هو ذلك الفكر النير المتحرر الطاهر المُحلق في سماء العقل والمستطيع القادر على تجاوز كل العقبات، بينما ظلت المرأة ذلك الجسم الجريح القابع في دورية العفن، التفكك العضوي والموت؛ وظل ذلك الشعار الذي بنيت عليه العلاقات بين الجنسين مُسيطراً طوال آلاف السنين، شعار المرأة الدونية، التابعة التبعية التامة لجسمها لأنها نجس وغير طاهرة.

كيف تعاملت مختلف الحضارات مع دم الحيض

سيطر معتقد نجاسة الدم على المخيله العامة لمختلف الشعوب، فمثلاً شعب البارويا في غينيا يرى أن الطمث شيء مُقزز ومُخيف، يضعونه جنباً إلى جنب مع البول والبراز مع التأكيد على أنه يُحطم قوة الرجال إن لامس أجسادهم، لذا يجب على المرأة عندهم أن تبقى داخل “حُجرة الطمث” وهو مَسكن بعيد عن القرية، مع المنع البات من إطعام أُسرتها ومن الاقتراب منها.

ونرى بقايا من هذه العقائد البدائية لدينا الآن، فالمرأة الحائض تظل نجساً مع اختلاف درجة التابو حسب المجتمعات، حتى أن كلمة “التابو” نفسها آتية من اللغة البولينيزية tabu التي تعني دم الحيض.

وتظل اليهودية الأرثودوكسية هي الأكثر صرامة في هذا المجال، فالمرأة الحائض تُسمى عندهم بالنِّدة Nidda، بمعنى المُبْعَدة أو المُخْرَجة.

ففي سفر اللاويين “إذا حاضت المرأة فإنها تمكث سبعة ايّام في نجاسة جسدها، ومن لمسها يبقى نجساً حتى تغرب الشمس” وإتيانها أشد مقتاً من “زنا المحارم”.

ولكن هذا ليس كل ما في الامر إنها تُلوث أيضاً الهواء وكل ما لامسها، ولذلك يحرم عليها أن تمُدَّه مباشرة وإنما عليها أن ترميه أرضاً ولا تقدم لزوجها طعامه قبل أن تُحيط صحنه بقماش عازل حتى لا تلمسه.

أما الكتاب المقدس التوراة فيحرم عليها لمسه نهائياً وإن فعلت قد يسبب ذلك الإثم انهيار معبد أورشليم ولذلك يحرم عليها دخول المعبد .

“من لامس مقعداً أو فراشاً جلست عليه الحائض، عليه أن يُظهر ثيابه، أن يغتسل بالماء، وسيظل نجساً حتى الليل” كما في التوراة…

لا يجوز مصافحتها ولا النظر إلى عينيها، لا يجوز الاضطجاع بالقرب منها ولا استنشاق رائحتها ولا حتى الإنصات إلى غنائها.

ومع انتهاء الحيض على المرأة اليهودية التطهر سبعة ايّام “شيفا نَكِئيم” Sheva nekiim, ولا يجوز الاقتراب منها طوال تلك الفترة، وفي اليوم الثامن تنغمس في حوض من الماء لتكمل طهارتها.

“وتتقرب بحمامتين للكاهن الذي يذبحهما للتكفير عن نجاستها”.

بعد هذه الفترة وامتثالاً للأوامر التي تخضع لها وبعد تأكد خلوها من أي قطرة ولو بحجم رأس إبرة من الدم يمكنها أن تعود إلى أهلها وأن تجامع زوجها.

إن وجدت قطرة من الدم فإنها تستأنف سبعة ايّام تطهيرية أخرى… وهكذا نرى كيف يتم إقصاء بعض النساء نصف شهرٍ كاملٍ.

وكذلك عند النفاس فإنها تُقصى 66 يوماً إن كانت المولودة أنثى و 33 يوماً إن كان ذكراً ( وليس الذكر كالأنثى ).

ونجد نفس إقصاء الحائض في الهندوسية “إذا لامس “كاندالا” Candala , وهي المرأة الحائض، الغير منتمية إلى طبقة هندية معروفة، النُفساء أو الجنازة فإن عليه التطهّر بالإغتسال“ (كما في قوانين مانو الجزء الثامن الفقرة 85).
فتمنع من المعبد ومن الطقوس التعبدية، من القرابين، من الطبخ، من لمس زوجها، من دخول المطبخ ومن المدرسة إن كانت شابة.

“الخنزير، الديك، الكلب، المرأة الحائض، المَخْصِيُ هؤلاء لا يحق لهم النظر إلى البراهمان عند تناوله للطعام “. والبراهمان هم أعلى درجة النبلاء العلماء بمثابة الفقهاء أو الكهنة .

في النيبال مازالت هذه الطقوس تطبق اليوم وتعرف بعادات الشاوبادي Chaapaudi، تُعتبر النساء في مقام الحيوان وتُطرد إلى الأعرشة والكهوف، يُحرم عليهن ارتداء الثياب واستعمال منابع المياه العامة كي لا يلوثنها كما يعرضهن هذا النفس المتعمد للإغتصاب المشرع بحكم حيونتهن وقت الحيض، الكثيرات يمتن من البرد، ومن الجوع أثناء تلك الخلوة.

يعتقد الهنود أن المرأة الحائض إذا لامست قنينة من الخيار فإنها تفسد ذلك الخيار كله.

وهذا يذكرنا بالتحذير الروماني لعالم الطبيعة بلين القديم Pline l’ancien في موسوعته تاريخ الطبيعة :

” إذا اقتربت امرأة في تلك الحالة من السوائل؛ تتخمَّر ..البذور تفقد خصوبتها، ويموت النَّحل، الحديد والنحاس يتعرضان للصدأ فوراً تفوح منهم رائحة نتنة..”.

تبدو النظرة الاسلامية إلى المرأة الحائض أقل تمييزاً إذا ما قورنت بعادات الشاوبودي والعادات اليهودية، لكنها غير خالية من الإقصاء فمثلاً هناك عدم مَس المرأة الحائض حتى تطهر (المس هنا المقصود به المعاشرة الحميمية) ولا يكفي خلوها من دم الحيض وإنما عليها التطهير أي الغسل التام حتى أن كل شعرة يجب أن تغمر بالماء حتى يمس فروة الرأس بالرغم من أنه ليس مثل الانغماس التام في حوض مليء من الماء سبع مراتٍ مثل ما يجب على المرأة اليهودية إلا أن رمزية النجاسة والطهارة تبقى واضحة.

كما يحرم على المرأة الحائض مَسُّ المصحف التام وتحرم عليها العبادات مثل الصَّلاة والصيام والطواف بالكعبة، وكذلك بالنسبة للنُفساء.

وفِي بعض المذاهب تحرم عليها تلاوة القرآن، حتى دون لمس المصحف.

فيأتي تبرير نقصان دين المرأة بذلك لأنها ناقصة دين بما أنها لا تؤدي عباداتها كاملة وناقصة عقل بسبب نقصان شهادتها.

الحيض بين العبادات والتقديس

توجد في بعض الحضارات مثل حضارة UR وهي الحضارة البابلية القديمة في بواكيرها، علاقة وطيدة بين الحيض أو اللاحيض والتعبد، كانوا يختارون بعض الفتيات ليكن خادمات للمعابد وكاهنات في أعلى رتبهن شرط خلوهن الدائم من دم الحيض. ولذلك كن يُسقين مادة ربما تكون جذور نبتة ما تقطع عنهن الطمث بصفة نهائية وبهذا يمكنهن التفرغ للطقوس التعبدية، وكن يتقِنَّ فن الرقص المقدس وطقوس أخرى لا بد لمن يمارسها من التحلي بالبسالة مثل رقصة الثور المقدس.

طبعاً نرى الخط الأحمر هنا واضحاً بين دور الأم ودور الكاهنة، حيث يعتقد أن سارة زوجة ابراهيم كانت من تلك الكاهنات لأنها لم تكن تحض ولا تنجب، ولم تكن متعرضة للشيخوخة لتوقف الطمث عنها.

بعض هذه الرقصات المقدسة نجدها أيضاً عند الهند حيث كانت الراقصات المقدسات يتفرقن لتلك العبادة كلياً ولم يكنَّ محتقرات عكس ما هو حالهن الآن، كما لم تكن النساء المختصات في الجنس محتقرات وكن مختصات أيضاً في الغناء والرقص وعلوم ومهارات أُخرى، الاحتقار ظاهرة جديدة طرأت مع احتقار المرأة عموماً وتدني مكانتها في المجتمع بفعل النظام الأبوي.

بالنسبة للسكان الأصليين في أمريكا الشمالية نرى أيضاً احتقاراً للمرأة الحائض حتى أن المرأة في سن “اليأس” تكون أفضل مكانة بكثير، فعند الهنود البيجان في كندا تصبح المرأة المتقاعدة “امرأة بقلب رجل” أكثر حرية يمكنها التكلم امام الجميع ، تقديم القرابين، شرب الكحول، نطق الكلام البذيء والتبوّل في وضعية الوقوف!

بالنسبة للمسيحية لا تُعتبر من أشرس الديانات إقصاءً للحائض، ربما لعلاقة المسيحية الوطيدة بدم المسيح عند الصلب.
لكن دم الحيض يبقى مادة نجسة , في القرون الوسطى حث البير الأكبر Albert Le grand ,(الذي سينال مرتبة دكتور كنيسة وقديس ) الرجال على الابتعاد عن النساء أثناء الحيض لأن تلك النساء يحملن سماً يُعطي مرض الجذام والسرطان…

نفس الشيء بالنسبة لدم “البكارة” الذي كان يُعتبر مشؤوماً، وعن دم النفاس الذي كان يجب التطهر منه بصرامة وحتى مريم العذراء لم تُستثنى من ذلك التطهر بعد وضع عيسى لتتمكن من الدخول إلى معبد أورشليم.

هذا التشاؤم والاشمئزاز من دم الحيض أدى إلى ردة فعل عكسي عند بعض النسويات في بداية القرن الواحد وعشرين فأصبحن يُمجدنه و يحتفلن به كثمرة أحشائهن كما بينت ذلك الفيلسوفة كاميل فروادفو ميتري في ” ثورة المؤنث “.
لما لا ؟ في النهاية نجد شعوبا ً مثل الماوُري يشربون ذلك الدم بكل سرور ٍ ويستحمون فيه كلية.

بالنسبة للديانة التاوُوئية تعتقد أن الرجل يمكنه أن يبلغ الخلود إذا شرب دم حيض مباشرة من المنبع ويسمونه “عصير الين الأحمر“.

يقول حكماء الصين أن الملك الأصفر أصبح إلهاً

بعد شُرْبه السائل المقدس مباشرة من ينبوع ألفي ومائتين امرأة .

هكذا تعود نسويات الرحم، féministes Matriciennes إلى الزمن المجيد قبل ظهور الديانات الكبرى والبطريركية، حين كان كهنة الفرس و بابل يشربون دم حيض الإلٰهة الأم وهو سائل مقدس يُعيد ولادتهم إلى الحياة ومليء بالخصائص الشافية والمغذية. وفي الحضارة المصرية عند الفراعنة، نجد أيضاً نوعا من تقديس دم الحيض حيث كان يُسقَى الفرعون عند التتويج مشروباً غامضاً يُعتقد أنه مزيج من حيض الملكات مع شيء آخر، ومن خصائصه أنه يحول الفرعون إلى إلٰهٍ.

فقد كان دم الحيض مقدساً في بداية التاريخ عند بعض الحضارات قبل إقصاء ذلك الدم من طرف الديانات البطريركية وإرجاع المرأة إلى حالة الحيوان في أقصى ما يحمله ذلك من صفاتٍ مشمئزة.

ولكن هذا الإقصاء قد يتجاوز البعد الاجتماعي إلى إقصائهن كليا وبشكلٍ نهائي مهنياً، منذ حقبة الصيد والاِلتقاط… قبل ظهور الديانات الكبرى بكثير.

وكان لهذا التقسيم تأثير على انقسام العالم إلى قسمين، عالم ذكري شاسع لكنه مغلق تماماً، وعالم أنثوي محدود يرتكز على الاقصاء، على القيود وعلى الممنوعات.

الحيض اليوم بين الإسكات والتقنين

رسخ النظام الأبوي قبضته في كل ثقافة استطاع اختراقها، يجر خلفه قرونا من الاعتقداءات والتصورات التي شحنت بالأساطير عن جسد المرأة ومايمثله، أثر ذلك في الطب، والسياسة، والأديان، والمجتمع، لم يعد الجسد الأنثوي بعد أول مظهر للإقصاء والسلطة يعني صاحبته أو يمثل لها فضاءً حميما تفرض به ومن خلاله قواعدها، بل أصبح ملكية يصيغ عنه الرجل الغريب تماما خصائصه ومايجب أن تعرف عنه وكيف تتعامل معه، فقد أثر احتكار الرجال للامتيازات الذكورية ومن بينها سن الأعراف والقيم وتمرريها وفرضها كتصورات عامة على مدى وصول المرأة لمعلومات كافية عن جسدها وما يكابده من ظواهر عضوية كالحيض والحمل والنفاس، وأصبح هو من يحدد كم المعلومات التي تعرفها والفضاء الذي تناقش فيه وتسأل فيه عن شيء يلتصق بها بشكل كلي لكنها في معظم المجتمعات تجهله بشكل كامل أيضاً.

مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي انكبت النساء بنهم بحثا عن مصادر لمعلومات عن أجسادهن فحتى وجود المستشفيات لم يغير من امكانية وصولهن للمعرفة اليقينة مادامت كل امرأة تبحث عن جسدها في الفضاء العام ومؤسساته تعامل بريبة كيف تتحدث عن ذلك علناً؟ أين الحياء؟ ألم تُقنن سابقاً الطرق التي يتوجب عليها اتباعها للحصول على المعلومات عن جسدها أي سراً وهمساً؟

لكن هذا الفضاء الرقمي المفتوح أصبح الآن متنفسا تستطيع أن تبحث فيه عن الأعراض وطرق العلاج، وربما أن تفهم أنواع متلازمات الحيض، طرق العناية، وأي المعلومات هي الحقيقة وأيها خرافة.

يمكنها الآن أن تفهم أنها ليست نجسة أو غير طاهرة، و أن مايرتبط بها بيولوجيا ليس مبررا للدونية، يمكن أن تنظر عبر التاريخ لكيف عوملت وعوقبت لشيء لم تختره، كما يمكن أن ترى كيف تتخبط الذكورية في تناقضاتها ما بين اعتبار أن الحيض ضرورة لإثبات خصوبتها أي أهميتها الوحيدة للمنظومة كمنجبة وبين احتقارها واعتبار حيضها قذارة وشيء يجب أن تخفيه ولا تنطقه ولا تتحدث عنه علناً، تقف في المنتصف لتعرف كيف أنها يمكنها أخيراً التعرف على جسدها وأنه ليس مبررا لإقصائها والصاق الدونية بها.

كلما اقتربت المرأة من المعرفة ومن فضح زيف الأساطير الذكورية زادت حدة الإسكات. تحت أي منشور يتحدث عن الحيض خارج الخطاب المفروض نجد جحافل الذكوريين يمارسون الإسكات تحت مبررات “الحياء” و “القذارة” محاولات جديدة قديمة لاحتكار الفضاء العام وممارسة السطوة على وعي المرأة حول ذاته.

إنه ذات التراث القديم الذي يجر أذيال هزيمته أمام مقاومة من وصفت بالدونية.

Artwork by Cendrine Rovini

Artwork by Cendrine Rovini

مراجع

ايدموند مورين ” الفارق الأحمر او دورات و وتيرة المرأة “ .
Edmonde Morin, La rouge Difference ou les rythmes de la femme, Paris, Seuil, 1982.

جيول ميشيلى، الحب، الطبعة الخامسة ، باريس هاشيت ، 1861 ,الفقرة الثانية (المرأة كائن مريض)
“خمسة عشر يوماً من اصل ثمانية وعشرين ، يمكننا ان نقول دائماً ، لا تكون المرأة فقط مريضة بل تكون جريحة ، أمها تتعرض دائماً “للجرح النازف أبداً للحب”.
Jules Michelet, l’Amour, 5ème ed., Paris, Hachette, 1861, chap II.
“La femme est une malade”

البروفيسور جيرالد توبيليم ، “تواريخ وحكايات عن الدم ” ..باريس ، بيرين ، 2013.
Gerald Tobelem, Histoires du sang, Paris, Perrin, 2013.

موريس گوديليير ، “انتاج الرجال الكبار، السلطة والسيطرة عند البارويا في غينيا الجديدة” -باريس فلاماريون، 2009.

بلين القديم ، التاريخ الطبيعي.
Pline l’Ancien، l’histoire naturelle , Paris Riveneuve, 2009 .

أوسكار لويس، “امرأة بقلب الرجل ، قبائل هنود البيجان في آمريكا الشمالية “، انتروبولوجي أمريكي ، 43,1941 .
Oscar Lewis, “Manly-hearted Women among the north Piegan” American Anthropologist, 43, 1941 .

كاميل فرواديفو – ميتري ، ثورة المؤنث، باريس -گاليمار ، 2015
Camille Froidevaux-Metterie, La Revolution du Féminin, Paris, Gallimard, 2015.

باربارا والكر، “موسوعة الأساطير و الأسرار المتعلقة بالنساء” ، لندن ، هاربر-وان، 1983.
Barbara Walker, Women’s Encyclopedia of Myths and Secrets, Londres, Harper-One, 1983.

أوليفيا گازالي ، أسطورة الرجولة ، آگورا ، الفقرة الثانية .
Olivia Gazalé, Le Mythe de la virilité, Agora, 2019.

Claudine Cohen rapporte dans son ouvrage intitulé ‘La Femme des Origines’ l’existence fort probable d’un culte de la “Grande déesse mère” qui aurait dès le début du paléolithique, il y a plus de 30 000 ans, couvert un immense espace allant des rivages de l’Atlantique au Moyen-Orient

Le préhistorien Jacques Cauvin affirme qu’il y a 10 000 ans, dans la vallée du Jourdain puis en Anatomie, ce culte s’organise clairement en religion qui va se diffuser dans tout le Proche-Orient et le bassin Méditerranéen. Il suppose qu’à cette période, Dieu semble bien avoir été une femme.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015