منى عسكر/ feministconsciousnessrevolution- في إحدى مشاهد فيلم “سيما علي بابا”، حين هجمت عصابة المعلم عشماوي على مزرعة “عم ريكس” في إحدى هجماتها المتكررة المتزامنة مع وجود ضيف جديد على المزرعة وهو حبش، الذي دفعه استنكار ذلك ليتسائل: “مين دول؟!”، فيجيبه العم ريكس مسرعا :”ده المعلم عشماوي، قوتنا واللي بيحمينا”. ليتسائل حبش مرة أخرى في تعجب: “بيحميكوا من إيه ؟”، يجيبه عشماوي بصوته الواثق وضحكات أفراد عصابته تنفجر من حوله: “مننا”.
كانت شخصيات الأبطال من الحيوانات، عالماً موازياً للواقع، وقصة خيالية تبثها الشاشة.
استنكرنا جميعاً خضوع ريكس لعشماوي الذي ينهب خير المزرعة، ويهين الجميع، يضايق بدارة بمغازلتها رغماً عنها، يجلد جَزر حين يرفض تقديم صغاره كطعام للعصابة، ويذكر سعد بقدمه التي كسرها ويهدده بالثانية، ويختم أي جملة بسباب موحد وهو “زي الكلب” وكان الكلب هو قائد المزرعة العم ريكس!.
كنا نتسائل ما الأسوأ الذي كانوا يخافون حدوثه بعد كل هذا، أو بالأحرى لماذا لازلوا خائفين بعد كل هذا ! بعد أن سلموا صغارهم لتأكلها الضباع ما الأسوأ الذي لازالوا يفعلون ذلك خشية حدوثه. كانت نهاية سعيدة حين هُزمت الضباع وعادت المزرعة لسيادة أصحابها، نهاية سعيدة من تلك النوعية التي لا نراها إلا في الأفلام.
لكن في الواقع، الفيلم بحذافيره يتكرر في كل بيت، تحت كل سقف، ومع كل الفتيات، لكن العصابات الحقيقة لا تكون سهلة التمييز كتلك التي نراها في الشاشات. العصابات الحقيقية حولنا ترتدي ثياب الحكمة والوعظ والقوامة، يذهبون للمساجد والكنائس، ويكرسون صفحاتهم على وسائط التواصل لمشاركة الأذكار والأدعية، لذا يكون من الصعب تمييزهم.
الطريقة المستخدمة لتربية الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية تتمثّل في منعهنّ بحجّة حمايتهنّ.. منعهنّ من الجامعة؛ بحجّة الخوف من أن تعرف عن الحياة أكثر من اللازم، فتفسد.. منعهنّ من الخروج والسفر؛ بحجّة الخوف عليهنّ من قاطع طريق أو متحرّش.. منعهنّ من اختيار شريك حياتهنّ؛ بحجّة الخوف عليهنّ من الوقوع في اختيار غير مناسب.. منعهنّ من ممارسة الرياضة؛ خوفاً من أن تتعضّل أجسادهنّ، ولا يتقدّم العرسان لطلبهنّ.. منعهنّ من القيادة؛ خوفاً من أن تتعطّل السيارة ولا يستطعن التصرّف.. منعهنّ من الانفعال والغضب؛ خوفاً من أن يتسرّب إلى مسامع أحد أنهنّ حادّات الطباع، فتتنافر عنهنّ الخاطبات.. منعهنّ من امتلاك آراء مغايرة؛ خوفاً من ألا يُطِعن أزواجهنّ، أو يرهقنهم بالمجادلة.. منعهنّ من العمل في بيئة مختلطة؛ خوفاً على سمعتهنّ.. منعهنّ حتّى من العمل الإلكتروني أو المشاريع المنزلية؛ خوفاً من أن يُقصِرن مع أزواجهنّ.. منعهنّ من الحديث، وربما من الخروج في وجود الضيوف.. منعهنّ من رؤية صديقاتهنّ، وربما أُسرهنّ، بعد أن يتزوجن.. منعهنّ من الخروج بمفردهن.. منعهنّ من التحكّم في أجسادهنّ وثيابهنّ.. منعهنّ عن عزّة النفس وعن الكرامة والاستقلالية.. منعهنّ من إدراك أنهنّ بشرٌ كاملات، لا ينقصهنّ شيء.
يمنعهنّ من ممارسة الحياة كاملةً كالرجال، ويُمنَعنَ من الحياة؛ خوفاً عليهنّ من الموت!
لكن من أين يأتي الخوف؟
تتوطّد عبثية العالم حين ندرك أن الرجل الخائف على الفتاة هو نفسه الرجل الذي يخيفها، أنّ مصدر الأمن والرعب واحد.
يخاف الأب على ابنته خوفاً مرضياً؛ لأنه يعرف كيف ربّى ابنه، يخاف الأخ على أخته، وفي الوقت ذاته يفتخر بكونه مصدر خوف وقلقٍ لفتياتٍ أخريات.
يفتخر الأب بكون ابنه متحرشاً لا تستقر عيناه في رأسه بل في أجساد النساء، يتلاعب بالفتيات ويوهمهن بإسم الحب ويمنيهن بالزواج ثم يتركهنّ محطّمات القلوب، ويستخدم ضدّهن أساليب الذكورية، كالفضح في جلسات الشباب ويصفهنّ بالعاهرات “قليلات الرباية”، يتحايل عليهنّ لإرسال صورهنّ ويتهمهنّ بقلّة الثقة به؛ إن رفضن، وكيف ستبنى العلاقات دون الثقة وكيف وكيف، حتى يُرسلنها. ليبدأ دورته القذرة في ابتزازهنّ بالصور، لإجبارهنّ على ماهو أكبر من ذلك وأشنع.
لذلك يخاف ذلك الأب والأخ على الفتاة، أن تخطو بمفردها خارج البيت أو تذهب لجامعة أو عمل أو مكان به رجال، أو أن تمتك هاتفاً وحساباً إلكترونياً غير خاضع لمراقبتهم.
هذا يفسّر لماذا تُعتبر الفتاة مصدر قلق لأهلها فور أن تبلغ، ويصبح هم الأسرة القاعد والمقيم هو سرعة سترها برجل!
نحن في دائرة عبثية مفرغة، يُديرها نظام أبوي فاسد يخصّ الفتاة وحدها بالتربية، أما الفتى فينشأ على أنه مهما ارتكب من الفُجر لا يعيبه سوى جيبه، وبذلك يزرعون المرض في قلوب الرجال ثم يطلقونهم في الشوارع، ويحبسون النساء خوفاً عليهنّ من الرجال.
ليس من الغريب في مجتمع كهذا أن يجنسن كل مايتعلق بالمرأة، وأن يتم تعريف النسوية على مقياس سلوك وقيم الرجال.
نحن نحارب في معركة وهمية، يخبروننا بأنهم يفعلون ذلك كله بنا لأنهم يحبوننا ويخافون علينا من المجتمع، لكن في الحقيقة هم المجتمع.
المجتمع ليس كائناً هلامياً، ليس مجموعة منعزلة من الناس يجلسون في الشرفات ويصدرون الأحكام على الناس من الأعلى، أُسرنا هي المجتمع، أُسرنا هي الخصم وهي الحكم. أُسرنا هي التي تشكّل المجتمع الوحشي المتجرّد من أدنى معايير المنطق.
حين يضرب الرجل زوجته أمام أطفاله؛ يتشكّل هذا المجتمع.. وحين تُنشأ وتُجبر الفتاة على الصمت حين يعتدي عليها أو يتحرّش بها رجلٌ، خوفاً من الفضيحة؛ يتشكّل المجتمع.. حين يتحرّش الرجل بالمرأة على مرأى الجميع، فتسقط هي من نظرهم، لا هو؛ يتشكّل المجتمع.. حين لا يهبّ أحدٌ لمساعدتها حين تستغيثُ؛ يتشكّل المجتمع.. حين يبيع الأب ابنته للعريس الذي لا يعرف عن الأخلاق سوى اسمها، لأن جيبه عامرٌ؛ يتشكّل المجتمع.. حين تطلب الأسرة من الفتاة أن تتنازل عن المحضر الذي رفعته ضدّ ابنهم لأنه تحرّش بها أو اغتصبها، بل ويقومون بتهديدها، إن لم تفعل؛ يتشكّل المجتمع.. حين لايحذّر الأب ابنه من أي سقطة كما يحذر ابنته؛ يتشكّل المجتمع.. حين تخصّ البنت دون الولد بالنصح والمواعظ الأخلاقية والدينية؛ يتشكّل المجتمع.. حين تُعطى الأفضلية للابن الذكر عن أخته ويسمح له الأب بالتحكّم بها وضربها أمام عينه؛ يتشكّل المجتمع.. حين يقتل الأب ابنته التي تم اغتصابها، بدلاً من مغتصبيها؛ يتشكّل المجتمع.. حين يفتخر الأب بكون ابنه زيراً للنساء؛ يتشكّل المجتمع.. وحين يقتل نفس الأب ابنته بحجّة الدفاع عن الشرف؛ يتكوّن المجتمع.. حين يُعامل الأهل الفتاة بأنها ضيفة عندهم لحين تتزوّج؛ يتكوّن المجتمع.. وحين تخاف الفتاة أن تخبر أهلها أنها تتعرّض لاعتداء جنسي من أخيها أو قريبها، لأنها ستُكذَّب ويصدّقون المُعتَدي؛ يتكوّن المجتمع.. حين يُطبَّق الدين والعُرف على فتيات الأسرة ونسائها دون رجالها؛ يتكوّن المجتمع.. وحين تُعامل البنات كدرجة ثانية بعد الأبناء؛ يتكوّن المجتمع.
وسيظل يتكوّن ويحكم شباكه حول رقابنا، طالما أنّ فتاةً ترتجف خوفاً أو قهراً تحت سقف غرفتها ببيت أبيها وأمها.. طالما لم تبرأ الأسرة؛ لن يبرأ المجتمع، لأن المجتمع ليس شيئاً آخر سوى الأسرة.. وطالما أنّ الفتيات يخَفْنَ في أُسرهنّ، لن يتوقّف خوفهنّ في المجتمع ومن المجتمع.
ألا تشبه هذه المشاهد جميعها مشهد عصابة الضباع التي تنهب خير المزرعة وتستلب حقوقاً ليست حقوقها، وتفرض على أصحاب المزرعة واجبات لا تفرضها عليهم الطبيعة أو المنطق، ثم يعرفون ذواتهم بأنهم حماة المزرعة! تلك الحماية التي لم تُطلب، الحماية من أخطار وهمية لم يوجدها أحد سوى الضباع أنفسهم.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.