سناء العاجي/ قناة الحرة- أمرٌ عابر.. حدثٌ بسيط.. نشاطٌ صيفي لا نعير له، في الأغلب، أيّ اهتمام، لكنه في الحقيقة يستحقّ أن نتوقّف عنده بجدّية.. يتعلّق الأمر بنشاطٍ ترفيهي تمّ تنظيمه في إحدى مدن المغرب خلال هذا الصيف. النشاط كان عبارة عن مسابقة لإعداد عجين الخبز، تمّ تنظيمها لصالح فتياتٍ في مرحلة الطفولة.
حين انتشرت الصور على المواقع الإعلامية، علّق كثيرون معتبرين أن في ذلك ترسيخاً لقيم اللامساواة التي تربط العمل المنزلي بالمرأة، والتي ترسّخ في ذهن النساء أنفسهنّ، ومنذ الطفولة، بأنّ إعداد الخبز هي مهمةٌ نسائيةٌ حصراً؛ فيما اعتبر البعض الآخر أن الأمر لا يتجاوز حدثاً ترفيهياً لطفلاتٍ صغيرات.
إذا كنا موضوعيين، فإن الأمر يتجاوز الحدث الترفيهي المُنَظّم لصالح طفلاتٍ صغيرات، لأنّ فيه تدجيناً حقيقياً ليس لهنّ فقط، بل لهنّ ولمحيطهنّ كاملاً.
معظم الدراسات السوسيولوجية التي اشتغلت على موضوع تقسيم الأدوار بين الجنسين، تعتبر أنّ من أهم إشكاليات التقسيم المُنَمّط للأدوار (من قبيل كون الأعمال المنزلية تخصّصاً حصراً للنساء، والإنفاق واجباً حصراً على الرجال، على سبيل المثال) هو أنّ تمثلّات الأفراد عن تقسيم الأدوار بين الجنسين تبدأ منذ الطفولة، وذلك اعتماداً على المقرّرات المدرسية، قصص الأطفال، برامج التلفزيون (بما فيها تلك المخصّصة للأطفال)، إضافةً إلى النماذج التي ينشأ أمامها الأطفال (الأم والأب، إلخ).
بمعنى أننا حين نُقَدّم في برامج أو قصص الأطفال نماذج لأسرٍ يلعب فيها الطفل ويقرأ الأب الجريدة، بينما تحضّر الأم وابنتها كعكة العيد، فإننا نرسّخ في ذهن الطفل والطفلة بأن النموذج “الطبيعي” هو أن تكون الإناث في المطبخ.
كذلك، حين نقدّم في قصص وبرامج الأطفال مهناً معيّنة يمارسها الرجل (ربّان السفينة، الطبيب، رجل المطافئ، الحدّاد، رئيس الشركة، إلخ) ومهناً أُخرى تمارسها المرأة (الممرضة، مضيفة الاستقبال، إلخ)، فنحن هنا نخلق لدى الطفلات والأطفال بشكلٍ غير مباشر، أحلاماً مهنيّة مختلفة تنتج عن نوعٍ من “التمثّل الهوياتي (identification)”؛ أيّ أن يتخيل الشبّان أنفسهم في الشخوص المُذَكّرة في كتبهم، ونفس الشيء بالنسبة للإناث.
يمكننا هنا أن نقدّم، كمثالٍ، البحث الذي قامت بها الباحثة الفرنسية دومينيك إيبيفان حول تمثّلات المهن في كتب الأطفال، والذي نُشِر سنة 2007 في المجلة العلمية الفرنسية “الشغل، النوع والمجتمعات”.
وبالطبع؛ هذا لا يترجم أيّ تنقيص من قيمة مهنٍ مثل المضيفة أو الممرضة، فكلّ المهن تؤدّي دورها في المجتمع. لكننا هنا بصدد الحديث عن تأثير تمثلّات المهن التي تُقَدّم للأطفال في الأفلام والبرامج والقصص والكتب المدرسية، والتي تصنع لنا تقسيمات الأدوار في مجتمع الغد.
نفس الشيء بالنسبة لمسابقة إعداد الخبز في المغرب. لو تمّ تنظيم المسابقة لصالح الذكور والإناث، لاعتبرناه نشاطاً ترفيهياً عادياً سيُشارك فيه من يحبّ ذلك. لكن، حين يتمّ تخصيص المشاركة للبنات الصغيرات فقط، فنحن ضمنياً نُرسل رسالةً مفادها أن إعداد الخبز هو مهمةٌ نسائية حصراً؛ وأنّ هؤلاء الفتيات، حين سيكبرن، يجب أن يبرعن في إعداد الخبز، لكننا أيضاً نرسل رسالة ضمنيةً أخرى مفادها أن الأطفال الذكور غير معنيين بتاتاً بإعداد الخبز (هم معنيون فقط بأكله، بالتأكيد).
بل أكثر من ذلك، هذا يرسّخ قيم التراتبية بين الجنسين، حيث يصبح اهتمام طفلٍ ذكر بما يُعتَبر شؤوناً نسائية، فيه إهانةٌ لذكورته وانتقاصٌ من فحولته. حتى إذا كان يهتم بالطبخ وإعداد الخبز ويعشق ذلك، فالتمثلّات المجتمعية ستمنعه من إظهار ذلك الاهتمام لأنّه، إن فعل، يفقد رجولته في نظر الآخرين.. وكأن الفحولة مرتبطةٌ بعدم إتقان صنع الخبز وبعدم إتقان الطبخ عموماً.
لننتبه إلى الرسائل التي نوجّهها للأطفال من خلال تفاصيل وأنشطةٍ قد تبدو عاديةً جداً، لكنها ستصنع لنا أجيالاً قادمةً من اللامساواة في تقسيم الأدوار.