السلطة والثورة في الأجساد أو كيف يصبح الشخصي سياسياً؟
شعار «ما هو شخصي سياسي»

محمد سامي الكيال/alquds- برز شعار «ما هو شخصي سياسي» بقوة منذ ستينيات القرن الماضي، بالتزامن مع تقدّم الموجة النسوية الثانية، ودعوات التحرر الاجتماعي والجنسي، التي حملتها الثورات الشبابية والطلابية آنذاك. وكان تمرّداً مباشراً على ركنين أساسيين من أركان دولة الرفاه في الدول الغربية: العائلة الأبوية المستقرة، سواء المنتمية للبورجوازية أو الطبقة العاملة؛ ونمط العمل الانضباطي على الطريقة الفوردية – التايليرية (الأداء المنظّم وراء خطوط الإنتاج في المصانع الكبرى)، المدعوم من نقابات مترسخة، صارت شريكاً أساسياً للحكومات وأرباب العمل، وفق مبدأ «التفاوض الجماعي» الذي طبع تلك الفترة.

أزمة الركود والتضخّم الاقتصادي، التي بدأت الاقتصاديات الغربية تعاني منها آنذاك، كانت السبب الأساسي لانفجار اجتماعي ضخم ضد التنظيم المحافظ للغاية، في كل المجالات، الذي تواطأت عليه الدولة ورأس المال والعمل، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت فئات جديدة تكتشف نفسها ومطالبها، خارج إطار العائلة والمصنع والمؤسسات الثقافية والسياسية التقليدية، وبما أنها كانت متمردة على كل الأطر الهيكلية الجماعية، فقد قامت بتثوير خصوصياتها وأحوالها الشخصية، في وجه السلطات المؤطرة للأجساد، ضمن قوالب انضباطية صلبة.

وبعيداً عن المعطيات الاقتصادية والسياسية المباشرة لتثوير الشخصي، قامت انتفاضات الستينيات والسبعينيات على مبدأين شديدي الأهمية على المستوى الفكري، أولهما تفكيك «الطبيعي» أي أن العلاقات الاجتماعية، والمفاهيم التقليدية عن الأدوار الجندرية والميل الجنسي، والفروق الثقافية والعرقية، التي قُدّمت بوصفها معطيات طبيعية وثابتة، لم تعد تُعتبر سوى بناء اجتماعي، ظهر ضمن تركيبة تاريخية معيّنة للسلطة والمعرفة/الأيديولوجيا، يمكن نقدها وتجاوزها، لمصلحة الفئات التي تم استبعادها وتهميشها هيكلياً في ملكوت «الطبيعي»؛ وثانيهما إزالة الفصل النظري بين الحيزين العام والخاص، فما هو خاص كان دائماً ميداناً لعمل السلطة الحيوية، المحددة لما هو عاقل وصحي وسوي، ولأحوال البشر في ما يتعلّق بالولادات والوفيات ومستوى الحياة والرعاية الاجتماعية، وبالتالي فإن الخاص هو موطن التمرّد، كما هو موطنٌ أساسيٌ لاشتغال السلطة.

إلا أن تسييس الشخصي يلاقي منذ فترة طويلة نقداً كبيراً، باعتباره صار مدمجاً بعمل السلطة المعاصرة، التي استوعبت بسرعة ثورات النصف الثاني من القرن الماضي، وكان أحد أسس تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة، ليس أقلها الأيديولوجيا النيوليبرالية، وسياسات الهوية، وتفكيك الحيز العام، والهجوم على كل ما هو مشاع ومشترك. عموماً صار شعار «ما هو شخصي سياسي» نوعاً من المسلمات الأيديولوجية في عصرنا، التي يسعى كثيرون لنقدها وتجاوزها، ولذلك فإن بروزه مؤخراً، بوصفه أحد مطالب الحركة النسائية في السودان، التي لعبت دوراً كبيراً في الثورة التي شهدتها البلاد، يطرح سؤالين مهمين عن حدود الشخصي والسياسي في عصرنا: هل يمتلك الشعار في العالم العربي مدلولات مختلفة عن سياقه الغربي؟ وما أبعاد التسييس المتأخر للشخصي في حركات الاحتجاج المعاصرة؟

روّاد السياسات الحيوية

يُرمى الحراك النسوي العربي باتهامات عدة، من طرف اليمين الإسلامي، أو حتى اليسار التقليدي، أهمها استنساخ الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، ومحاولة تطبيقها بشكل فوقي على المجتمعات التقليدية، ما يشتت الحراك الاجتماعي، ويفكك الائتلافات الاجتماعية الثورية، التي يمكن أن تنجز التغيير، ويغرقها في نزاعات فئوية، متعلقة بقضايا محدودة وهامشية، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات فإن النسوية العربية ليست بالتأكيد الطرف الذي بدأ بتسييس الشخصي، فهو مسيّس سلفاً عبر مجموعة من القوانين والتشريعات، التي تؤكد هوية الدول والمجتمعات العربية، وتجعل السلطة التنفيذية الطرف المخوّل بالحفاظ على التقليد، ما يجعل الشخصي ميداناً لتدخلات تقويمية مباشرة من الأجهزة العنفية للدولة، وليس فقط الأيديولوجية، ويصبح العنف، الموجه ضد النساء خصوصاً، مترسّخاً في مجموعة معقدة من المؤسسات والقوانين، وبالتالي فإن أي محاولة جادة للتغيير، لا بد أن تمر بتحرير الشخصي من التدخلات السلطوية التقويمية.

تحدّث عدد آخر من المنتقدين عن نوع من التواطؤ بين السلطات العربية والحركات الفئوية التقدمية، عن طريق إجراء بعض الإصلاحات الشكلية، المتعلّقة بحقوق النساء والأقليات، ومنح بعض الحريات الاجتماعية، مقابل الإبقاء على الطبيعة الاستبدادية للحكم، واستمرار اضطهاد «الأغلبية». إلا أن هذا المنظور قائم على عدم انتباه، ربما يكون متعمداً، لتداخل الخاص والعام في نمط الاستبداد العربي، كيف يمكن إنهاء الطبيعة الاستبدادية لحكم يستند إلى سياسات حيوية، قائمة على التقويم العنيف للأجساد، وإجبار البشر على أداء أدوار اجتماعية مُلزِمة باسم التقليد؟ يوجد في العراق مثلاً تداول للسلطة وتعددية حزبية، إلا أن هذا لا يجعله أقل استبدادية من بقية الدول العربية. وبهذا يصبح إغفال المطالب التحررية النوعية، المتعلقة بالشخصي، تواطؤاً أيضاً مع الاستبداد.

كما أن التعاون مع السلطات الاستبدادية، في سبيل التركيز على قضايا متعلقة بالحيز الخاص، ليس حكراً على الحركات التي توصف بـ»التقدمية» فقد شهد العالم العربي واحداً من أكبر التغيرات داخل الحيز الخاص والشخصي، وبدعم مباشر أو غير مباشر من الاستبداد، خلال ما يسمى بـ»الصحوة الإسلامية» حين ركزت الجماعات الإسلامية على تحقيق تحوّل أساسي في مظاهر الحياة اليومية، وأنماط سلوك البشر وعلاقاتهم الشخصية، وتخلّت، في كثير من الأحيان، عن هدف الوصول للسلطة، مقابل تغاضي الدول الاستبدادية، أو مناصرتها المباشرة، لعملية الأسلمة. وهو ما اعتبره الباحث الفرنسي أولفييه روا جانباً من تناقض أساسي في الإسلام السياسي المعاصر: لا يمكن تحقيق الدولة الإسلامية إلا ببناء مجتمع إسلامي صالح، وكذلك لا يمكن بناء هذا المجتمع إلا بوجود دولة الإسلام. وكثيراً ما اختار الإسلاميون، أمام هذا التناقض، أن يقوموا بثوراتهم في المجال الخاص أولاً، وأن يطبعوا أثرها على أجساد البشر وهيئاتهم وسلوكهم، ما قد يجعلهم الروّاد الأكثر أهمية للسياسات الحيوية، المتحالفة مع السلطة القائمة، على المستوى العربي.

أزمات التعددية

وعلى خلاف السياسات الحيوية للإسلاميين ارتبطت المطالبة بالديمقراطية وإسقاط الاستبداد، في جانب أساسي من الحراك الاجتماعي العربي الحالي، بمطالب اجتماعية تقدمية، على رأسها حقوق النساء والأقليات والمثليين. وفي المثال السوداني لعب الحراك النسوي، خاصة تنظيمات نساء الطبقات الأدنى، دوراً أساسياً في إسقاط النظام السابق. يمكن القول إن انفجار الحيوية الاجتماعية في العالم العربي أدى لمحاصرة السلطة، بسيل من المطالب التحررية، شديدة التعدد والتنوّع، لم تستطع الأنظمة ضبطه بشكل كامل، رغم كل ما أبدته من عنف وتهديد بالفوضى.

إلا أن هذا لا يعني أن الاحتجاجات في العالم العربي ما تزال تعيش في ستينيات القرن الماضي، وتكرر مطالب تلك الفترة، التي دمجت العام بالخاص، فهي احتجاجات معاصرة للغاية، وساهمت بإطلاق موجة ثورية على المستوى العالمي، ولذلك فهي أول من اصطدم بالأسئلة الأساسية للتغيير في أيامنا: كيف يمكن من ذاتيات شديدة التشتت، قائمة على خصوصية وتعددية الفرداني والطائفي والفئوي والهوياتي، بناء ائتلافات سياسية متينة، تُصلّب الإرادة الجمعية لتحقيق التغيير؟ ومن أين تنطلق الثورات في ظروف تفكك المواطن التقليدية للعمل واللقاء الاجتماعي، التي كانت تبني ما هو جمعي ومشترك؟

بهذا المعنى فربما يكون الإصرار على شعار «ما هو شخصي سياسي» على أهميته في مواجهة الاستبداد العربي، مساهماً بترسيخ أزمة الحراك الاجتماعي وتناقضاته، وموقعاً للمحتجين في إشكاليات صعبة الحل.

حدود الخصوصية

على الرغم من الدور التحرّري، الذي لعبه تسييس الشخصي في ما مضى، إلا أنه أدخل الحراك الاجتماعي غالباً في دائرة مفرغة: تعمل السلطة في المجال الخاص والجسدي والحميمي، فتتمرد عليها الحيوية الاجتماعية، محوّلة قضايا الخصوصية، التي يتم التدخل بها سلطوياً، إلى شعارات سياسية، لتعود السلطة لاستيعاب التمرد، وتوسيع سياساتها الحيوية، مدرجة فيها كل الخصوصيات، التي سيّسها المتمردون.

اقترح عدد من المفكرين المعاصرين، مثل سلافوي جيجيك ونانسي فريزر وجودي دين، أنماطاً من القطيعة مع السياسات الحيوية السلطوية المعاصرة، بدلاً من الانطلاق منها في عملية الاحتجاج، ما يُمكّن من بناء ذاتية جماعية جديدة، تتجاوز التشتت الفئوي والهوياتي، والنرجسية الأخلاقية الفردانية، اللذين قد يؤدي إليهما دمج الشخصي بالسياسي.

وقد يكون التأكيد على تلازم المساواة والتضامن أحد أهم البدائل الممكنة، من خلال تحصين حدود الخصوصية من تدخلات السلطة، سواء السلطة الحيوية النيوليبرالية أو السلطة الاستبدادية – الإسلاموية العربية، عبر الإصرار على المساواة القانونية التامة، التي تمنع فرض أي تشريع، أو ترسيخ أي بنية اجتماعية، تتدخّل في الخيارات الذاتية في الحيّز الخاص، باسم هرمية قائمة على تمكين الضحايا أو التقليد الثقافي؛ وفي الوقت نفسه بناء تضامن سياسي واجتماعي، على أساس التماثل والتشابه في الإرادة السياسية للمتضامنين، الذين يحصّنون ما هو شخصي في حياتهم من تدخلات السياسي، وينطلقون إلى المجال السياسي برغبة جماعية، متجاوزة لمحدودية وأنانية الشخصي.

شعار «ما هو شخصي سياسي»

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015