نبال زيتونة/ شبكة المرأة السورية- لم تكن الجريمة التي ارتكبها لاجئ سوريّ بحقّ زوجته البالغة من العمر ثمانية عشر عاماً، هي الجريمة الوحيدة في لبنان في إطار العنف الأسري، وإن كانت فريدة في همجيّتها ووحشيّتها، حيث قام باقتلاع أسنانها، وحاول قطع لسانها قبل أن يقدم على حرقها بـ “شيش” ساخن. كما أقدم على ضرب ابنتهما التي لا يزيد عمرها عن ستة أشهر.
كما لم يكن العنف المنزليّ وليد مخيّمات اللجوء، وإن زادت حدّته وارتفعت وتيرته على وقع المعاناة.
فالعنف الأسريّ بالتعريف؛ هو العنف الممارس على المرأة من قبل الشريك، أو أحد الوالدين، ويتسبّب بحدوث ضرر جسديّ أو جنسيّ أو نفسيّ.
والرجال هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن هذا النوع من العنف. حيث يمكن إجمال أسبابه؛ في تدنّي مستويات التعليم بين مرتكبي العنف وضحاياه، وتعرّض هؤلاء للأذى في مراحل الطفولة، أو أن يكونوا قد شهدوا حالات عنف بين الأبوين، إذ تترك هذه الحالات أثرها بشكل مضاعف على الأطفال، حتى لو لم يتعرّضوا للأذى بشكل مباشر. يُضاف إلى هذه الأسباب؛ اضطرابات الشخصيّة وتعاطي الكحول في بعض الأحيان، والميل إلى تقبّل العنف، أو عدم المساواة بين الجنسين تبعاً لاعتبارات اجتماعيّة أو دينيّة.
ولعلّ القانون السوريّ قبل 2011، كرّس هذا النوع من العنف، إذ لا يوجد في قانون العقوبات السوريّ أيّ مادة مستقلة تتعلّق بمناهضة العنف الأسري، وهو بالنتيجة غير مجرّم. وإن كان هذا القانون يعاقب في بعض موادّه على الجرائم التي تمسّ الأسرة، وعلى الاعتداءات الجنسيّة في فصل الاعتداء على العرض، إضافة إلى قانون مكافحة الدعارة. لكنه لا يعترف بالاغتصاب في إطار الزواج، وينطوي على موادّ قد تكون ذريعة لارتكاب العنف الأسريّ؛ منها حقّ الأولياء في تأديب الأولاد، وكذلك المواد المحلّة والمخفّفة لمرتكبي ما يسمّى “جرائم الشرف”.
في المخيّمات
أوّل ما يطالعك في المخيّم فقدان المرأة خصوصيّتها داخل الخيمة، وحنين متزايد لبيوت كانت يوماً ذات جدران. فالمرأة لا تنعم بالأمان هنا، حيث تزداد حالات العنف، التي تشكّل تربة خصبة للعديد من المشكلات الأسريّة، تبدأ بازدياد وتيرة العنف ضدّ المرأة الشريك، ولا تنتهي عند ظاهرة الزواج القسريّ للقاصرات.
وقد وقفت لجنة الإنقاذ الدوليّة (IRC) على ثلاثة تحديات رئيسيّة، تواجهها المرأة والفتاة السوريّة اللاجئة؛ من واقع الاستغلال الجنسيّ والتحرش اليوميّ، إلى ارتفاع وتيرة حوادث العنف المنزلي، كما الزواج المبكر والقسريّ في سياق النزوح وتناقص الموارد.
وتشير تقييمات أثر الأزمة السوريّة حسب المفكّرة القانونيّة في بيروت، بأنّه لا مكان آمناً للنساء السوريّات اللاجئات، سواء في الحيّز الخاص أو في الأماكن العامة، حيث يواجهن أشكالاً متعدّدة من العنف نتيجة الصراع والنزوح، يتمثّل في ارتفاع مستويات العنف الجنسيّ، والعنف القائم على النوع الاجتماعيّ. ويلاحظ تزايد انتشار الاغتصاب والاعتداء، والعنف من جانب الشريك الحميم، والجنس من أجل البقاء.
أمّا مركز الموارد للمساواة بين الجنسين في بيروت، فيضيف أنّ العنف الممارس من الشريك الحميم، والزواج المبكر، والجنس من أجل البقاء، هي أنواع جديدة من العنف، تعرّضت لها النساء اللاجئات في لبنان. إضافة إلى ارتفاع حالات الزواج المبكّر بين الفتيات لحمايتهن، كما يحلو لمرتكبيه تبريره.
وتشير الدراسة إلى أنّ الناجيات منهنّ لا يملن إلى الإبلاغ عمّا يتعرضن له، خوفاً من أن يجلبن العار على أسرهن، فضلاً عن الموت. حيث تزداد مخاطر تعرّضهن للعنف.
أمّا حالات الزواج المبكّر، فلم تكن وليدة حياة اللجوء، بل زادت وتيرتها لتصبح استراتيجية من استراتيجيات مواكبة الظروف، إمّا لحماية الشابات أو لتخفيف الضغوط الاقتصاديّة على الأسرة.
ولا يقتصر العنف المنزليّ على اللاجئات داخل المخيّم، بل يتعدّاه إلى مساحة واسعة في لبنان.
مريم
سيدة في الأربعين من عمرها، لاجئة، تعيش مع عائلتها في بيروت. أمّ لشاب عشرينيّ، وصبيّتين مراهقتين.
تتعرّض فاديا للعنف من زوجها، الذي يضربها لأتفه الأسباب.. وليست الحالة جديدة عليها، فقد اعتاد زوجها على ضربها هناك في بلدتها قبل اللجوء، على مرأى ومسمع الجميع، وفي ظلّ بيتٍ له جدران، وقوانين تشرّع هذا النوع من العنف. لكنّهم كانوا يرون أن الحالة طبيعيّة، فمن حقّ الزوج ضرب زوجته، إذا لم تمتثل لما يريد!..
تقول مريم: “بلجوئنا إلى لبنان، ازدادت حالات العنف لدى زوجي، وازدادت هستيريا الشكّ أيضاً، خاصّة أنّه لا يجد عملاً، ويمضي وقته متسكّعاً. في حين نغطّي بعض احتياجاتنا البسيطة من أجر ابني الذي يعمل لوقت طويل. وكثيراً ما كان زوجي يراقبني حين أخرج لبيت أمي القريب، أو لزيارة إحدى صديقاتي.. ”
وتضيف مريم: “طلبت المساعدة من إحدى المنظّمات التي تعمل في لبنان على حماية المرأة من العنف، وهذه المنظّمة ليس لديها بيوت إيواء، أو أنّها لم تجد حالتي ملحّة، فأرادت فصلي عن زوجي مع أبنائي في بيت بعيد لا يعرف الزوج مكانه. لكنّ ابني الكبير رفض ترك أبيه وحيداً.. ابني الذي يعمل لإعالتنا، لم يرق له هذا الحلّ. حينها رأت المنظّمة فصلي مع البنتين!.. أيّ حلّ هذا؟ أنا بين نارين؛ تشتيت أسرتي، أو تحمّل الأذى؟.. وكيف لي أن أعيل البنتين، وأنا بلا عمل. ولعلّي اخترت الثانية دون جدال..”
آلاء..
هذه هي المرة الثانية، التي تهرب فيها ابنة العشرين عاماً من بيت أبيها.. قبل عدة أشهر هربت آلاء، وجاءت إلى الفوييه حسب بعض النزيلات هنا.
تقول آلاء: “إنّ والدها مدمن كحول ونساء، وكذلك كان قبل لجوئهم إلى بيروت، لكن في بلاد اللجوء تصبح الحالة أصعب، خاصة وأنّه طرد أمّي من البيت بعد أن طلّقها.”
لا أحد تلجأ إليه، فخالتها اللاجئة مع عائلتها، لايمكن أن تتحمّل وجودها في بيتها أكثر من بضعة أيام. لهذا جاءت إلى الفوييه، تحمل بعض المال، فقد كانت تعمل في محلّ والدها.
بدأت آلاء تبحث عن عمل آخر، في مكان آمن، لا تطاله عين أبيها. لكنّ الحصار خانق في ظلّ ظروف اللجوء ومعاناة السوريين، كما تقول..
قلّما تتحدّث آلاء عن حالتها. وإن استدرجتها بعض النسوة، تبوح بشيء مقتضب.
فتقول عن سبب هروبها: “كنت أعمل في محل والدي عندما أحضر شاباً ليعمل معي في المحلّ بحجّة مساعدتي. الشاب لم يكن مؤدّباً، فكثيراً ما كان يتعرّض لي بالسوء. وعندما شكوته لوالدي ضربني الأخير وعنّفني، وقال يجب أن تمتثلي لما يريد.”
وتضيف: “امتثلتُ سابقاً لما يريد أبي، وتركت خطيبي السابق. لكنّني اليوم لا أستطيع الامتثال لأمره!..”
مايا..
منفصلة عن زوجها قبل اللجوء إلى لبنان، وكانت تعيش مع طفلتيها. لكنّ ظروف اللجوء، وفقدان المأوى، أجبراها على إعادة الطفلتين إلى أبيهما..
تقول مايا: “إنّه لا يريد الطفلتين، ويضغط عليّ لأخذهما بتهديدي بأنه سيزوّجهما مع قدوم أوّل خاطب. هذا إضافة إلى أنّه يشغّلهما معه. وزوجته تعتمد عليهما في أعمال المنزل، ما يجعلني قلقة بشأن مستقبلهما.”
تضيف مايا بزفرةٍ طويلة: ”لو كان لديّ مأوى، وعمل ثابت لما تركتهما؟!..”
ياسمين..
طفلةٌ لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، تعيش مع عائلتها في بيروت. يتشاركون المنزل مع أعمامها الثلاثة وعائلاتهم.. بشرى وأخواها الصغيران، لا يذهبون إلى المدرسة، كما بقيّة أبناء عمومتها. لا تشعر بشرى بمدى السوء الذي تحياه، إذ يتشارك في تربيتها الجميع، في ظلّ سلوكيّات متوارثة تكرّس التمييز بين الجنسين، وعلى خلفيّة ظروف اللجوء الاستثنائيّة الصعبة.
حين سألنا بشرى عن سبب ارتداء الحجاب مؤخّراً قالت: ”عمّتي تقول أنّي صرت كبيرة، ويجب أن أتحجّب، وكان والداي يومها في زيارة أحد الأقارب.”
وفي المرّة التالية التي زارتنا فيها بشرى، كانت بدون حجاب. وحين سألناها عن السبب قالت: “أمّي تقول بأنني مازلت صغيرة، وبكير عليّ الحجاب!..”
هذه نماذج من حالات العنف الأسريّ، الذي تعيشه المرأة السوريّة اللاجئة في لبنان. ومازالت قصص أخرى كثيرة حبيسة الجدران والقلوب. فكما يُقال في اللهجة الدارجة “فوق الموتة عصّة قبر!..”..