السيدة الأرض والسيد رأس المال: كيف أُهمِلَ عمل المرأة المنزلي!
النسوية تتقدّم

عمار المأمون/ alarab- يذكر كارل ماركس في كتابه “رأس المال” الأعمال المنزليّة مرتين ضمن حاشيتين. في المرة الأولى حين يشير إلى اختفائه أثناء الثورة الصناعيّة، بسبب عمل كل أفراد الأسرة في المصنع ومن ضمنهم الأطفال. وفي المرة الثانيّة، أثناء الحرب الأهلية الأميركية حيث اضطر عمّال مصانع النسيج إلى القيام بالأعمال المنزلية بأنفسهم.

هذه الإشارات الخجولة في أعمال ماركس في انتقاده للنظام الرأسمالي وتأسيسه للمفاهيم الشيوعية، جعلته محطّ انتقاد الفكر النسوي، كونه لا فقط يهمل عمل المرأة في المنزل بل يرسخ مفهوم “مجانيّته” واعتباره جزءا من “الطبيعة”، الأمر الذي ما زال إلى الآن متداولا بالرغم من كل التغيرات والثورات التي شهدها العالم.

ضمن مجموعة أعمال للفنانة منى حاطوم نشاهد “مبرش” مطبخ بحجم كبير، أشبه بسرير لا يمكن النوم عليه، كذلك قطّاعة بيض بحجم كرسي، لا يمكن الجلوس عليها. في كلا العملين، تضخّم حاطوم أغراضا منزلية تنتمي إلى فضاء المطبخ.

هذه الأغراض التي تبدو “يوميّة” بحجمها العادي، تتحوّل إلى أفخاخ حين “تتضخم”، ما يحيلنا إلى خطورتها، والجهد المبذول لصناعة الطعام. تشير حاطوم إلى عمل المرأة في المنزل، بوصفه يحتاج جهدا يستنزف “جسد” المرأة ومقدراته، سواء كان تحضير وجبة بسيطة، أو تربية الأطفال.

هذا العمل حسب التعبير النسوي-الاقتصادي “مجاني”، لا يدخل ضمن حسابات “رأس المال” و”القوة العاملة”، وبقي كذلك حتى تسعينات القرن الماضي مع ظهور الحركات النسويّة، التي بدأت الإشارة إليه وكشف أساليب إهماله، ودعت إلى ضرورة إعادة النظر في تعريف “العمل” وأسلوب منح “المكافآت” أو “الراتب” ضمن الأنظمة الاقتصادية المختلفة.

تطبيع دور المرأة

التقسيم التقليدي للأدوار داخل الأسرة النووية قائم على أساس عمل الرجل خارج المنزل، في حين تبقى المرأة في الداخل للقيام بمهامها كإنجاب أطفال، والاعتناء بالمنزل، وصناعة الطعام، وغيرها من “الأعمال” التي يُفترض أنها جزء من دور المرأة.

لكن قبل الخوض في سياسات هذا الدور، لا بد من إعادة النظر في مفهوم “الطبيعي” المرتبط بتعبير ماركس نفسه “السيدة الأرض” بوصفها مادة أوليّة غير منتجة، والتي لا بد لنا أن نكتسب مهارات العمل كي نستطيع إخراج الثروات منها لمراكمة “السيد رأس مال”.

هذا التصنيف الطبيعي يحكم على المرأة ثقافيا عبر ترسيخ دورها في المنزل بوصفه يتطابق مع مكوناتها البيولوجية. وهذا ما نراه في تقسيم ساعات العمل وطبيعة البرامج التلفزيونيّة التي تبث صباحا في زمن “العمل”، والتي تصُنّف تحت اسم الصناعة الثقافيّة التي يسمّيها ثيودور أدورنو “صناعة الطاعة”.

فهذه البرامج الموجهة لنساء المنزل، تتبنى أسلوبا لحثهن على البقاء فيه والعناية به لأجل “العاملين” في الخارج، إذ نرى أخبارا غير جديّة وحيلا وتقنيات للاهتمام بالفضاء الداخلي، في سبيل “جنسنته” وترسيخ أسلوب العمل ضمنه بوصفه وظيفة لإرضاء الرجل العامل، وظيفة مجانيّة “راتبها” الاستقرار وتأمين متطلبات الحياة.

استفادت الحركات النسويّة من المفاهيم الماركسيّة عن ضرورة التحرر وخلاص الفرد من هيمنة رأس المال، لكنها عملت على إعادة صياغة هرميّة العمل، التي كانت قائمة على أساس السطوة الذكورية وهيمنة عامل المصنع بوصفه أساس المحرك الاقتصادي، لتعيد تقديم الفئات الاجتماعيّة. كما طالبت حركة “الأجر مقابل العمل المنزلي” في سبعينات القرن الماضي، بالنظر إلى المنزل بوصفه المساحة الأولى للتحرر من هيمنة رأس المال، لا المصنع كما جرت العادة، بل ودعت إلى إضرابات تقوم بها ربات المنازل، كما في منشورها الشهير عن الإضراب عن الكيّ الملوّن بالأحمر نسبة إلى الأفكار الشيوعيّة التي لا تنفيها الحركة بل تعيد تقديمها.

تأتي أهميّة هذه الحركة والدروس المستفادة منها في إشارتها إلى ماركس نفسه، الذي أهمل العمل المنزلي، متجاهلا أنه الأساسي في تكوين “العامل”، سواء عبر إنجابه، أو تربيته أو تجهيزه للعمل، فإن كان “العمل مهارة اجتماعيّة نكتسبها، لا مجرد سلوك طبيعيّ”، فهذه المهارات تأتي بداية من المنزل نفسه و”القائمات” عليه، فعملهن يقوم على أساس “شحن” طاقة العمّال، صحيح هنّ لا يعملن في المصنع، لكنهن يبذلن جهداً في المنزل.

الانضباط ورأس المال

قد تبدو المفاهيم السابقة بديهيات، لكنها ما زالت حاضرة في العديد من المجتمعات وتوظف الصناعة الثقافية في عدد من الأحيان لترسيخها.

يتجلّى هذا المفهوم بوضوح في الأعمال الفنيّة التي تنتمي إلى ثمانينات القرن الماضي، كالمنحوتة التي أنجزتها لوري سيمونز، والتي نرى فيها ساقين نسائيتين دون جذع أو قسم علوي، تحملان منزلاً، وهنا يمكن تلمس قسوة هذا العمل المجانيّ، و”طبيعيّة” دور المرأة في المنزل، هذا الدور الذي يبدأ بالإنجاب وصيانة المنزل ويمتد حد “صيانة” نفسها كـ”تسلية” يستخدمها الرجل بعد العمل، وهذا ما نراه في الساقين المصقولتين اللتين تحملان المنزل.

مجانيّة عمل المرأة في المنزل وتجاهله من قبل البنى السياسية والاقتصاديّة، يرتبطان بتكوين نظام العمل نفسه المرتبط بالإنتاج المادي والفكري وتراكمه. ففي الحالات التي يعمل فيها الرجل فقط يتحول راتبه إلى أداة للهيمنة على فضاء المنزل، خصوصا أن هذا الراتب يصرف لإنتاج طاقة في سبيل العمل لاحقا كالطعام والشراب والترفيه، في حين أن الأعمال المنزليّة، التي تقوم بها المرأة دون أي مقابل مادي، لا تحوي تراكما، هي تجهز العامل وتكافأ بالأكل والشرب والمسكن، فلا تراكم حقيقي.

وهنا تتضح مجانيّة عمل المنزل بوصفه بناء سياسيا وثقافيا أيضا، فهي تجعل فئة من النساء يبحثن عن العامل، لا عن استقلالهن، فخلاصهن يرتبط بعمل مجاني، مقابل استقلال رمزي في الكثير من الأحيان.

يبدو أيضاً هذا المفهوم متأخراً، أو من نافل القول، لكن حتى الآن ما زالت ديناميكيته قائمة، إذ تهدّد المرأة في عملها لأنّها تمتلك خاصيّة “طبيعيّة” تتمثّل في الإنجاب، كونها قد “تعطّل” العمل في حال أرادت أن تصبح أمّاً، والأفضل عدم توظيفها أو ترقيتها. هذه التقنيات الخفية نسمعها أحيانا في التصريحات السياسية الذكورية. لكن القدرة على توليد الانضباط والسيطرة داخل المنزل التي يمتلكها راتب الرجل تهدد مفهوم الأسرة نفسها كما في بعض قوانين الأحوال الشخصيّة في عدد من البلدان العربيّة، إذ يمكن للمرأة أن “تطلب” التفريق عن زوجها في حال عدم إنفاقه على المنزل، فالحفاظ على تقسيم الأسرة النوويّة وأدوارها مدعوم بالنص القانوني.

وهذا ما لا نراه في بلدان أخرى حيث يفترض الطلاق مناصفة الأملاك، فالربح الناتج عن الجهد المبذول من قبل أي واحد من الطرفين هو نتيجة عمل الاثنين، حتى لو كان واحد منهم فقط في المنزل، سواء كان الرجل أو المرأة.

أيديولوجيا الحب والعمل الخفي

يلعب الراتب الرجولي دوراً ضدّ المرأة التي تبقى في المنزل بخيارها أو لا كونه يساهم في إخفاء الجهد داخل المنزل، وتطبيعه بوصفه محببا للمرأة أو ما “خلقت” للقيام به.

لكن هناك عامل آخر وراء الاختفاء، مرتبط بما يُسمّى أيديولوجيا الحبّ، التي تتبناها الصناعات الثقافيّة وتروج لمفاهيم التضحية والفناء في سبيل الرجل والأولاد، ما يحوّل المرأة إلى “عاملة” بلا أجر، تعميها مجموعة من الأفكار التي تروّج لـ”أحقيّة” الآخر العامل المتعب بالعناية، فهو الذي يبذل جهداً في سبيل توفير متطلبات الحياة.

الإيمان بهذه الأيديولوجيا يستخدم في الكثير من الأحيان لتبرير العنف المنزلي الذي تتعرض له الزوجة، لكن شكله غير المباشر يكون عبر الأفكار التي تفقد المرأة في المنزل دورها السياسي، فالترويج لآليات التفاهم والحب يأتي بوصفها تلبّي حاجة اقتصادية تؤمّن الاستقرار.

وهذا ما نشاهد أقسى صوره في أعمال البغاء والدعارة حيث هناك نوع من “الحبّ” بين الرجل ومن يعملن تحت إمرته. هن يقمن بما يقمن به طاعةً له في ذات الوقت تعلّقاً به بوصفه يؤمّن لهن معيشتهنّ، وهذا أيضاً ما استثناه ماركس، فالدعارة لم تدخل في حسابات رأس المال، علماً أنها عمل وتشكّل جزءاً من حياة بعض العمال. هذا “الداخل” الخطر، المقنّع بالحبّ و”الشغف” نراه في أعمال المصوّرة الفرنسيّة الشابة كامي غربي ضمن مجموعتها “براهين على الحبّ” إذ تصوّر أغراضاً تبدو للوهلة الأولى عادية ويومية ولا تثير الشبهة، لنكتشف لاحقاً أنها أدوات جريمة، استُخدِمت لقتل النساء في منازلهنّ من قبل الأزواج.

وتخبرنا أيضاً بأن العنف الزوجي ليس وليد “لحظة غضب” يلتقط إثرها “الرجل” ما تقع عيناه عليه ويستخدمه كسلاح، بل هو نتيجة تاريخ من الابتزاز العاطفي والعنف الشفوي والجسدي المقنّع بالشغف الذي يصل إلى حد القتل في حال قررت المرأة “الرحيل” أو المطالبة بحقّها.

الأهم، “الغضب” أو “غياب العقل” يُستخدَمان كحجّة قانونيّة للدفاع عن الرجال في هذا النوع من الجرائم، ما يضع المرأة دوماً في موقع الحذر أو الفريسة المحتَملة، وعليها دوماً في علاقتها مع زوجها/شريكها أن تُراعي “مشاعره” و”انفعالاته” وتتحمّلها، ما يجعل الفضاء الخاص/ المنزل مساحة خطرة، لا يمكن توقّع ما الذي يمكن أن يهدّد الحياة فيها.

ماكينة الخياطة وصنبور المياه

ترى بعض النظريات النسويّة أن التمديدات الصحيّة والكهرباء والماء داخل المنزل حوّلت المطبخ إلى مصنع مصغّر، لا زملاء عمل فيه، وعلى المرأة القيام بكل الأعمال ضمنه وحيدة ومجاناً.

ذات الأمر ينطبق على ماكينة الخياطة المنزليّة، إذ نقرأ في سير مصممي الأزياء كإيف سان لوران وفيرساتشي كيف تعلّموا مهارات الحياكة والتصميم من أمهاتهم في المنزل، اللاتي كن يصنعن الثياب لهم ولآبائهم.

بالتالي، نحن أمام أشكال من الجهد المقنّع باسم التربية والحب وغيرهما من التسميات التي تتحوّل نهايةً إلى أسلوب قمعي، تنتج عنه تراكم ربح، أصله عمل دون أجر، وأحد أسباب اختفاء هذا العمل أيضا حسب ماركس هو عدم امتلاكه طاقة ثورية على التغيّر.

هذا الاستخفاف ما زال قائماً حتى الآن، ويتم التعاطي معه في الأخبار المرحة التي تتناول “أمّاً” أضربت عن مهامها ورفضت القيام بـ”واجباتها” وذلك لتأديب الأطفال، دون التطرّق إلى القيمة الحقيقية للعمل المنزلي وتأثيره على شكل العمل خارجاً.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

النسوية تتقدّم

النسوية تتقدّم

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015