عبد الرزاق دحنون/ alaraby- الصورة بالأبيض والأسود منشورة في مجلة المدار السوفييتية عام 1980 التي كانت تُصدرها وكالة أنباء نوفوستي السوفييتية باللغة العربية تلك الأيام. أنا الآن في الغربة في مدينة أزمير على شاطئ بحر إيجة، هربتُ من الحرب في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، وأعيش بعيداً عن بيتي ومكتبتي حيث توجد تلك الصورة. وقد مضت عقود على الحادثة، ولا أتذكَّر رقم عدد مجلة “المدار” الآن، ولكن أتذكَّر ما رُسم على غلافها بحجمها الكبير قبل أن تصير بحجم أصغر في عهد ميخائيل غورباتشوف: شعار اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في الذكرى الستين لتأسيسه.
كنتُ في اجتماع حزبي أتصفح العدد الواصل حديثاُ – كنَّا نسجل اشتراكنا في مجلة “المدار” عن طريق الحزب الشيوعي – ها أنا أُفشي سرَّاً حزبيَّاً – فظهرت على إحدى الصفحات تلك الصورة الطوليَّة الرَّسمية الفخمة لأعضاء المكتب السياسي يتوسَّطهم ليونيد بريجينيف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، ومن ثمَّ يوري أندروبوف، قسطنطين تشيرنينكو، ألكسي كوسيجن، ديمتري أوستينوف، ميخائيل سوسلوف، أندري غروميكو، إدوارد شيفاردنادزة وباقي أعضاء المكتب السياسي من رؤساء الجمهوريات السوفييتية، وكان ميخائيل غورباتشوف أصغر أعضاء المكتب السياسي سناً يُطلُّ برأسه في الصف الخلفي كي يظهر في الصورة وفي اللحظة الأخيرة.
هذه الأسماء لا تعني شيئاً لجيل ثورة الإنترنت والهاتف المحمول ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها كانت مهمة وفاعلة في ساحة السياسة الدولية حتى بداية العقد العاشر من القرن العشرين. جمعتْ الصورة 26 رجلاً من القيادة السوفييتية. قلتُ للمسؤول الحزبي الذي يجلس قربي ونحن نشرب الشاي، وكان مدرَّساً جهماً في الخمسين من عمره بشارب ستاليني واضح، وكنتُ شاباً صغيراً ما أزال في أوائل العشرينيات من العمر رقيق العود، أنشر بعض المُساهمات الصغيرة في مجلة “الهدف” التي أسسها غسان كنفاني في عام 1969 وكانت ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: رفيق انظر جيداً في الصورة ألا ترى خللاً مُرعباً؟
انتبه الرفيق المسؤول فوراً، وقد راعه السؤال. فَحَصَ الصورة جيداً، حدًّق بنظر ثاقب، تأمل وجوه القادة، أعاد النظر ثانية، ثمَّ قال: خللٌ مُرعبٌ في الصورة! رفيق أين هذا الخلل الذي تزعمه؟ تمهَّلتُ في الجواب ريثما أزن كلماتي، فقد كان المسؤول الحزبي أزيد من حجمي مرتين وزيادة، وراح يحثني على الإجابة بنظرات عينيه الزرقاوين. قلتُ: رفيق كم هي النسبة المئوية لعدد النساء في الحزب الشيوعي السوفييتي في تقديرك؟ قال: دعك من هذا السؤال الجانبي الآن وقل لي أين الخلل المُرعب في الصورة. قلتُ: الجواب في صلب السؤال. قال: لا أعلم بالضبط، ولكن أتوقع أن تكون النسبة المئوية مناصفة أو أكثر قليلاً لصالح الرجال. قلتُ: صورة قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي خالية من عنصر النساء تماماً، كيف ذلك؟ وبما تفسِّر الأمر؟ هل كل سكان الاتحاد السوفييتي من الرجال، أيُعقل هذا في بلد يسير نحو الشيوعية؟ دُهش. ولا أعرف من ماذا. من الفكرة؟ أم من جرأة السؤال؟
قلتُ مُعبراً بعقل شاب في بداية عمله الحزبي: رفيق الأمر بسيط للغاية، إذا افترضنا أن النسبة المئوية مناصفة أو تميل لصالح الرجال، وقد بلغ تعداد الحزب الشيوعي السوفييتي في حدود العشرين مليون مواطن، وبذلك تكون حصَّة النساء عشرة ملايين امرأة، أو أقل قليلاً، أو ما شابه ذلك. وفي الانتخابات الحزبية – ومهما كانت مُجحفة – من الطبيعي أن تظهر في الصورة العديد من نساء الاتحاد السوفييتي في قيادة هذا البلد الاشتراكي. أليس كذلك؟ أين اختفت تلك النساء؟ ولماذا غُيِّبت؟ ألا ينتخبون النساء إلى المراكز القياديَّة في الدول الاشتراكية؟ هذا هو الخلل المُرعب في هذه الصورة. وإذا كانت النساء تشكَّل نصف أفراد الطبقة العاملة السوفييتية ونصف المجتمع السوفييتي، إذا لم يكن أكثر، فمن الإنصاف أن ترفع الانتخابات عدداً لا بأس به من النساء إلى المناصب الرفيعة العُليا في الدولة السوفييتية لتقود دولة “الشعب بأسره” كما يُقال في وسائل الإعلام السوفييتية. ولا تنسى أننا نتحدث عن ستين عاماً من بناء المجتمع الاشتراكي، والذي من المفترض أن تكون هذه السنين قد أزالت كل الفوارق التي تميِّز بين الجنسين. كيف نفسر هذا الأمر يا رفيق؟
صمت طويلاً، ثمَّ قال: أنتَ كيف تُفسر الأمر؟ قلتُ مباشرة: تمييز عنصري، أبارتيد، كما هو الحال في جنوب أفريقيا بين البيض والسود. هُنا في المجتمع الاشتراكي الذي يسير نحو الشيوعيَّة يميزون بين الرجل والمرأة في المناصب السياسية. وهذا هو الخلل الخطير والمُرعب الذي لفت نظري. وأظن هذا الإرث الثقيل من التمييز بين الجنسين يُسأل عنه الرفيق ستالين.
وحين سمع كلمة ستالين كأن أفعى لدغته. قال: تنتقد ستالين يا رفيق! ثمَّ راح يبربر بألفاظ وتعابير غير مفهومة، وأنهى الاجتماع الحزبي بسرعة عجيبة قائلاً: أنصحك بالتزام الصمت والسريَّة في ما دار في هذا الاجتماع ولن أُسجل حديثنا في محضر الاجتماعات. وخرجت من عنده.
في ما بعد قابلتُ مسؤولاً من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي واقترحَ تقييم الموقف بجديَّة ومسؤولية عالية وتقديم “نقد ذاتي”، أنتقد نفسي لنقدي الرفيق ستالين، وأتوب توبة نصوحة. وهذا ما كان. ثمَّ لعنتُ بيني وبين نفسي تلك الصورة التي كادت تتسبب في طردي من الحزب الشيوعي.
لو سألت هل تغيرت تلك الصورة بالأبيض والأسود التي تحدثنا عنها أعلاه فأصبحت ملونة وفيها نساء تحكم في روسيا الاتحادية التي تخلَّت عن الاشتراكية والشيوعيَّة والتي يقودها رجل المخابرات القوي فلاديمير بوتين؟ كلا، لم تتغير. الصورة بالأبيض والأسود ما تزال، فأنت تجد اليوم أن السلطة في روسيا الاتحادية ذكورية بامتياز. وفلاديمير بوتين يظهر وحده في الصورة وحتى بلا زوجة. حدث التغير في فترة قصيرة وصل فيها صاحب “البريسترويكا” ميخائيل غورباتشوف إلى الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي، فكانت زوجته رايسا غورباتشوف ترافقه في حله وترحاله. ولكن “عادت حليمة لعادتها القديمة” بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور روسيا الاتحادية. وكأن روسيا محصنة تماماً ضدَّ وصول المرأة إلى مركز القرار السياسي.
ولو دققنا النظر في الصور المعروضة في وطننا العربي عن دور المرأة في الهرم السياسي، لوجدنا أنها تشبه “مسودة صورة محمضة”، التي كنا نحصل عليها من ذلك المصوّر في سبعينيات القرن العشرين، والذي كان يدخل رأسه في كيس أسود لآلة التصوير الواقفة على قوائم ثلاث، فتحصل على صورة “شمسية” معتمة لا تشبهك، مع ذلك تأخذها، وامرك لله. ويمكن أن تتأكد من ذلك بالنظر إلى الصور الباقية من القمم العربية – القديمة والحديثة – التي عقدتها وتعقدها جامعة الدول العربية، فلن تجد امرأة واحدة في صور تلك القمم بالأسود والأبيض والملون في ما بعد على مدار عقود عديدة. ولا بد أن تسأل: هل ما زالت تاء التأنيث ساكنة في عالم السياسة في وطننا العربي؟ هل وجود المرأة في القمم العربية من المحرمات شرعاً. “عيب” مثلاً؟ كلا، ليس الأمر كذلك، ولكن السلطة الحاكمة في الدول العربية تحتاج إلى “شوارب”، ولا تُصدق المطرب اللبناني المشهور طوني حنا في أغنيته “خلي الشوارب ع جنب”.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.