راما الياس/ خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- زارتني اليوم آية، أعادت لي علبة طلاء الأظافر، لم تجئ لزيارتي فقط، بل لتلبي قرار أمها التي طلبت منها إعلامي بأنها قد خُطِبت وستتزوّج قريباً. كان عليّ أن أفهم وأتأكّد بأن آية راحلة نهائياً إلى البعيد، وبأنه يتوجّب عليّ قطع علاقتي بها، ربما أرادت أن تمنحني فرصةً للوداع.
طالما اتهمني والد آية بأنني أُدرّب بنات الحارة -أو طفلاتها على الأصح- على العِناد، وعلى ترديد عبارة لا، الطفلاتُ اللاتي يتدرّبن على أن يصبحن نساء بارتدائهنّ لأحذية أمهاتهنّ ذات الكعب العالي.
لحظةٌ كنتُ متيقّنة من حدوثها، لكني لم أتخيّل أبداً أنها ستأتي بهذه السرعة، ستذهب آية بعيداً حتى عن المدينة التي نسكنها، فخطيبها ناطور بناءٍ في قرية بعيدة جداً. تفاقم خوفي، بُعدٌ في الجغرافيا والمسافات وبُعدٌ عن الحماية والدعم. راوغت آية مخاوفي؛ قالت لي بحزن: “هل ستشتاقين إلي؟” وتابعت: “سيشتري لي خطيبي بعد الزواج هاتف جوّال لأكلّم أهلي وسأكلّمك كلّ يوم.”
آية في الرابعة عشرة من عمرها، تركت المدرسة منذ ثلاث سنين، حين قرّر أباها بحسم أنّ توقّفها عن الدراسة بات ضرورةً ماسّة. المرعب أنه كان متيقّناً من حصولها على كامل حاجتها من التعلّم؛ فقد تعلّمت كتابة اسمها وتهجئة أسماء الأماكن وبقية الأسماء، كما تعلّمت الجمع والطرح وبعض العمليات الحسابية، وبحسب قناعته هذا أكثر من كافٍ للبنات، فقد حان موعد زواجها، ومنذ ثلاث سنين وآية تخضع لتدريبات يومية على العمل المنزلي، على الطبخ والعناية بالأطفال.
خمس عائلات تعيش في بيتٍ واحد، حمامٌ واحدٌ لثمانية وعشرين فرداً، ومطابخ مُرتَجلة في الممرات أو على أطراف الغرف، غرفةٌ لكلّ عائلة، وفسحةٌ سماوية ضيّقة تحوّلت لمخزنٍ لجميع الأُسر.
يعمل رجال العائلة وشبابها في بيع الخضار في سوقٍ شعبي، البيع مهنة الرجال، والنساء أسيرات العمل المنزلي. شجاراتٌ مستمرة على مواعيد الغسيل وعلى حبال الغسيل وعى أحقيتهنّ بنشر أكوام الغسيل عليها، شجاراتٌ على فردة حذاء رماها طفلٌ يتعلّم المشي، وشجاراتٌ على رغيف خبز نقص من الربطة المتروكة في الممر. تتحوّل هذه الشجارات إلى صراعات عميقة، والاتهامات دوماً من نصيب الأضعف، وخاصةً البنات من كلّ العائلات.
في عمر الخامسة؛ تنخرط البنات في المهام المنزلية، وينخرط الصبيان في مساعدة الآباء بفرز الخضار أو إيصال زوادة الطعام إلى السوق القريب من المنزل.
كان بجعبتي الكثير من الوصايا لآية، لكن الحزن لجمني ومنعني من قولها، كنتُ قلقةً على صحتها بشكل أساسي لأنها تشكو من فقر الدم وألم المفاصل. ما بيدي حيلة، يا طفلتي!
الوعود السحرية سكنت قلب وعقل آية، التي تأخر موعد زواجها عن شقيقتيها وبنات عمومتها؛ ميسون التي تصغر آية بعام حاملٌ الآن، وآية تُحيك لطفلتها القادمة زوجاً من الجوارب الصوفية. والبنات محاطاتٍ بالتجارب السيئة، بأزواجٍ تضرب الزوجات ببساطة متناهية، فيما الفقر يرافقهنّ من بيوت أهاليهنّ حتى بيوت الأزواج.
علا صوت صراخ الأم ينادي على آية؛ تركتها ترحل دون وداع، سأهديها لعبةً في الغد، وسأرتب بعض الكلمات الوداعية، سأعدها بأنني سأتصل بها دائماً لأنها لن تملك مالاً لشراء وحداتٍ للاتصال، لن أبكي أمامها، لكنّي وعلى الباب قد أسمح لنفسي بان أذكّرها بمنافع العناد.
يحدثُ هذا في مدينة دمسق، وفي حيّ قريب جداً من باب توما؛ مركز المدينة الأكثر انفتاحاً على العالم، يجري هذا دوماً في أماكن أكثر من أن تُحصى، وتتحوّل الطفلاتُ لمنكوباتٍ بالقهر والإهمال، أو لطفلاتٍ هرمات من شدّة الظلم والخذلان، يصرن في الحدّ الأدنى زوجاتٍ مثقلاتٍ بالتعب والخوف وانعدام الأمان، والصمتُ كما النحيب مجرد تذكير بالمجزرة.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.