علياء أحمد/ أبواب-تتفاوت حقوق النساء ما بين الألمانيات واللاجئات، فهي في الجانب الألماني حيث النساء يتمتّعن بحقوقهنّ وفقًا للدستور والقوانين التي تساوي بين المرأة والرجل بوجه عام، ورغم وجود بعض الثغرات، أعلى بدرجات كبيرة منها عند اللاجئات، اللواتي تتدنّى حقوقهنّ بشكل كبير في بلادهنّ التي عانين فيها تمييزًا صريحًا ضدّهن في القوانين وفي أعراف المجتمع وعاداته. وبغض النظر عن حالات الصداقة التي بدأت تنشأ بين ألمانيات ونساء لاجئات، متجاوزةً الصور النمطية المسبقة، فليست “كل الألمانيات شقراوت وذوات أجساد متناسقة”، ولا كل النساء اللاجئات “مقهورات، ذليلات وجاهلات”. إلا أن ميزان المقارنة يبقى حاضرًا حتى بين الصديقات أنفسهنّ.
“هبة” (اسم مستعار)، شابّة سورية، وصلت ألمانيا بمفردها قبل نحو عامين، استطاعت اجتياز حاجز اللغة والحصول على قبول جامعي. تقول: “فوجئت بأن هناك ألمانيات متحفظات وخجولات. كنت أعتقد أن الجميع هنا لا مشكلة لديهم في الإباحية الجنسية مثلاً. لقد كنت مخطئة جدًا في هذا”. أمّا صديقتها “آنّا” (اسم مستعار)، فتقول: “ظننت أن كل النساء اللواتي يرتدين الحجاب هن نساء مقهورات، يتعرضن للضرب من قبل الرجال في عائلاتهن، وكم كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي عندما تعرفت على نساء محجبات يمتلكن قراراهن ويستطعن الدراسة في الجامعة والسفر لوحدهن”.
كثيرًا ما تؤدّي وسائل الإعلام دورًا سلبيًّا من خلال تكريس صور نمطية تدفع إلى إطلاق أحكام مسبقة على “الآخر” الذي نجهل حقيقته، وهذا ما قد يمنع الكثيرين من الانفتاح وإيجاد سبل للتواصل المباشر والتعرف على الثقافات الأخرى، التي لا شكّ أنها تحمل نقاط إلتقاء هنا وتمايز هناك، دون أن يشكل ذلك “خطرًا” على “الثقافة الأصلية” لكل شخص. وهناك دوما مستفيدون كُثر من عمليات التشويه التي تصيب ثقافة “الآخر” ويستثمرونها دعمًا لمصالحهم، فمن يخشى امتلاك النساء اللاجئات حريتهن وتمتعهنّ بحقوقهنّ، ويرفض أن تتساوى حقوق النساء والرجال، سيعمل جاهدًا على تصوير الثقافة الأخرى بأنها “منحلة” و”لا أخلاقية”، ومثله من يخشى انفتاح مجتمعه على حضارات وثقافات غريبة عنه، متوهّمًا أنّ “الحضارة” و”حقوق الإنسان” حكر على مجتمعه فقط، فيصوِّر “الآخر” القادم حاملاً ثقافة مختلفة، وكأنّه متخلّف ومتوحش!
سناء (اسم مستعار)، ربّة منزل سوريّة، لجأت مع أسرتها إلى ألمانيا منذ أربع سنوات، عبّرت عن رأيها في “الألمانيات” بالقول: “أنا أشفق على الألمانيات، فقدن أنوثتهن في هذه المساواة التي يتباهين بها. لقد تحولن إلى مكنات عمل وآلات مبرمجة حتى في عواطفهن”. سناء نفسها التي نقول هذا الكلام، تعترف بأنه ليس لديها أي صديقة ألمانية، وأنها بنت رأيها على المشاهدات في الشارع، وما تسمع من بعض صديقاتها (وهنّ لاجئات أيضًا)، فضلاً عن الكثير مما تقرؤه في المجموعات عبر التطبيقات ووسائل التواصل المختلفة (واتساب، فيسبوك..). ولدى سؤالها عن وضعها وحقوقها هي كامرأة تنتمي لمجتمع شرقي، أجابت: “صحيح أنني لست حرة بالكامل وليس عندي الكثير من الحقوق التي عند الألمانيات، ولكني أشعر أن المرأة في المجتمع الشرقي ملكة معززة مكرمة في بيتها، لا تتعب كالنساء الألمانيات، ولا تعاني من المسؤوليات والصعوبات التي تفرضها المساواة عليهن”.
إنّ الكثير من النساء اللاجئات، شأنهنّ شأن سناء، ينسين، أو يتناسين أن “الملكة المعززة المكرّمة”، المحبوسة في بيتها، التي يتباهين بها، هي ملكة وهمية مسلوبة الإرادة وتابعة لمن ينفق عليها ويؤمّن احتياجاتها، وهنّ إذ يخشين تحمّل المسؤليات التي تفرضها الحرية، فليس لعيب في الحرية أو المسؤولية، وإنّما لخلل في أسلوب التربية والتنشئة، حيث لم يربين بطريقة تعلّمهن كيف يمتلكن زمام حياتهنّ ويكنّ ملكات أنفسهن بحق. هكذا، نجد الكثيرات هنا يلجأن لإنجاب المزيد من الأطفال تهربًا من اسنحقاق تعلم اللغة مثلاً، أو لتبرير عدم الانخراط في سوق العمل.
في المقابل، تختلف الآراء إلى حدّ كبير في أوساط النساء الألمانيات واللاجئات ممن لديهن احتكاك مباشر، واستطعن نسج أشكال من الصداقة والعلاقات الاجتماعية الودّية فيما بينهنّ، أتاحت لهنّ تلمّس ذلك التقاطع اللافت في ما يخصّ التمييز الذكوري الممارس ضدهن، ففي حين تتباهى المجتمعات الشرقية بذكوريتها، تتلطى ذكورية المجتمع الألماني خلف الأقنعة، ثم تطلّ بوجهها الحقيقي هنا أو هناك بطريقة صادمة. ذلك أن العقلية الذكورية التي تعاني منها النساء الألمانيات لا تتجلّى فقط في التمييز الحاصل في قوانين العمل من حيث الأجور أو إمكانية تولّي المناصب الهامّة في كبرى الشركات، فهناك الكثير غيرها من مظاهر هذا التمييز، ولعلّ من المفارقات أنّ وصول أعداد كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا خلال السنوات القليلة الماضية، شكّل فرصةّ للكشف أكثر وأكثر عن تلك الذكورية المقنّعة في المجتمع الألماني.
تقول أولريكا (اسم مستعار)، وهي تنشط ضمن مشاريع تهتم باللاجئين: “قبل قدوم اللاجئين إلى ألمانيا كنت أظن نفسي امرأة حرة بالمطلق لي خياراتي الكاملة مثل الرجل تمامًا، فهذا ما أمارسه في حياتي. أنا أدرس وأسافر وأعيش مع صديقي وقد أنجب طفلاً من غير زواج إذا شئت هذا، أرتدي ما أريد وأتصرف بالشكل الذي يحلو لي. ولكن مع تزايد أعداد اللاجئين، ونشوء صداقات بيني وبين العديد منهم، بدأت أسمع عبارات تحذيرية واستهجانية من قبل بعض معارفي، علمًا أنّهم ليسوا متطرفين أو نازيين، لكنهم يرفضون سلفًا فكرة العلاقة بين فتاة ألمانية وشاب لاجئ”. وتسنغرب أولريكا كيف أنّ هؤلاء أنفسهم لم يطلقوا تحذيراتهم خوفًا على شبان ألمان يقيمون علاقات مع فتيات لاجئات، وإن كانوا لا يحبّذون ذلك إنما من منطلق أخر مختلف. وتضيف: “بدأت أشعر فجأة بأنني شيء يمتلكه هذا المجتمع ويخاف عليه فقط لأنني امرأة. ومن خلال تواصلي الدائم مع أوساط اللاجئين، تنبهت لمسائل أخرى في مجتمعي الألماني لم تكن لتثير اهتمامي سابقًا، بدا لي أنّها تمامًا كما في مجتمع اللاجئين، فالشاب الذي لديه علاقات نسائية متعددة محط غيرة أصحابه ودعاباتهم، بل ويفاخر بهذا لأنه رجل، بينما إذا كانت المرأة متعددة العلاقات، ستوصف بالعهر.” وختمت تقول أنّه بغض النظر عن قبول هذه السلوكيات أو رفضها، فهذا وغيره من الأحكام التي تطلق على المرأة بسبب سلوكها أو مظهرها، هي نقاط يتشارك فيها المجتمعان من منطلق ذكوري بحت.
إنّ تأثّر أوضاع النساء نتيجة احتكاكهنّ بالمجتمع “الآخر”، هو من أهمّ ما يركّز عليه رافضوا الانفتاح، والمتعصّبون الذين لا مكان عندهم لاحترام الآخر أو قبوله والتفاعل معه، أكانوا ألمانًا أو لاجئين، فيعمدون إلى استغلال موضوع المرأة بشكل خاص لتحقيق أهداف تنسجم مع أيديولوجياتهم الإقصائية، المغلقة، والذكوريّة، فيمرّرون السم في الدسم، من خلال التذرّع بالحرص على “نسائهم”، والقول أنّهم لا يريدون لهنّ السوء الذي تعيشه نساء الطرف الآخر. ومما يدعو للأسف انخراط نساء كثيرات من الجانبين في هذه اللعبة البائسة، سواء وعين هذا أو عن غير وعي، فيتبنّين تلك النظرة الذكورية تجاه نظيراتهن دون إدراك أنّ ما يجمعهنّ كنساء أعمق وأوسع من التصنيفات والهويات الضيّقة التي يصطنعها و”يحرسها” الرجال، ودون أن يلتفتن إلى مدى الفائدة وغنى التجربة المتبادل الذي يحققه التواصل مع قريناتهن على الجانب الآخر.
في ظل هذا المزيج من التمييز الذكوري، بشكليه العلني والمقنع، تبدو دراسة ومقارنة أوضاع النساء في ألمانيا، مواطنات ولاجئات، أمرًا على غاية الأهمية. إنها قضيّة مركبّة ولا شك، غير أنّ من يسعى إلى مجتمع صحّي، عادل، يحترم حقوق الإنسان، كل إنسان، لا بد له من الوقوف مليًّا عند مسألة حقوق النساء. بغير هذا، لن تكون النتيجة سوى تكريس الظلم، واستمرار الأزمات المجتمعية، فمفاتيح استقرار المجتمعات ورقيّها بأيدي النساء.