المجتمعات الذكورية تزج بالمرأة في قفص الاتهام بدلا من المتحرشين
أن تولد ذكرا فهذا قدرك أما أن تكون رجلا فهذا صنع يداك

يمينة حمدي/ العرب- ما زال اللباس الذي ترتديه النساء العربيات محل جدل كبير في عدة أوساط اجتماعية، وقد يحمل في نظر الكثيرين انطباعات عن سلوك المرأة وأخلاقها، بل إن البعض يعلّق عليه حتى حوادث التحرش التي تتعرض لها النساء في الشارع، وهكذا تختصر المرأة في غالبية المجتمعات العربية في جسدها، وليس في كيانها الإنساني.

وتواجه النساء الانتقادات والإساءة اللفظية والاعتداءات الجنسية، ويعاب عليهن اختيارهن مظهرا يتجاوز الحدود المرسومة لقالب اللباس الذي أعدّه المجتمع للمرأة “الصالحة” دون الرجل.

وكشفت البعض من النساء لـ”العرب”، عمّا تعرضن له من تحرشات وانتهاكات جنسية سواء باللفظ أو بالفعل، إلا أنهن فضلن عدم إخراج شكاواهن للعلن، خوفا من فقدان وظائفهن، أو بسبب اعتقادهن أن ذلك سيجلب العار لهن ولأسرهن.

وأظهرت الدراسات التي أجريت على مدار العقود الماضية أن التحرش الجنسي مشكلة واسعة الانتشار في معظم المجتمعات العربية، إلا أن الإحصائيات المصرّح بها من قبل الجهات الرسمية، لا تعكس إلا جانبا بسيطا من حجم الظاهرة.

وكان استطلاع سابق أجرته مؤسسة طومسون رويترز في 19 دولة حول “مدى حماية النساء من العنف الجنسي” صنف القاهرة كأخطر مدينة على النساء، تلتها كراتشي الباكستانية، وكينشاسا في جمهورية الكونغو الديمقراطية ثم العاصمة الهندية نيودلهي.

ولا يختلف الوضع كثيرا في الجزائر، إذ تتعرض حوالي 80 بالمئة من النساء من مختلف الأعمار إلى التحرش الجنسي في الأماكن العامة وفي وسائل النقل العام وفق ما بيّنت دراسة حقوقية نشرتها وسائل إعلام محلية. وتعتبر تونس أيضا من الدول العربية التي تعاني من استفحال الظاهرة، رغم إقرار البرلمان العام الماضي قانونا لمكافحة العنف الموجه ضد المرأة ومعاقبة المتحرشين، وكشف مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة، في إحدى دراساته الحديثة أن أكثر من 50 بالمئة من التونسيات يتعرضن للتحرش في الأماكن العامة.

وفي السنوات الأخيرة سنّت معظم الدول العربية قوانين لمكافحة العنف الموجّه ضد المرأة ومعاقبة المتحرشين، إلا أن ذلك لم يحدّ من حجم الظاهرة في مجتمعات ما زال الكثيرون فيها ينظرون إلى المرأة على أنها سبب كل مشكلة.

الأحكام المسبقة

“العرب” سألت شرائح اجتماعية من دول عربية مختلفة عن أسباب استفحال ظاهرة التحرش في بلدانهم، فأنحى بعضهم باللوم على مظهر المرأة، موجهين أصابع الاتهام إلى النساء بسبب ارتدائهن لما وصفوه بـ”الملابس المخلة بالحياء”، لتكون بذلك النساء ضحايا للتحرش ومتهمات في الوقت نفسه.

وشدد شاب عراقي فضّل عدم ذكر اسمه على ضرورة أن ترتدي المرأة ملابس أكثر احتشاما حتى تتجنب المعاكسات في الشارع، ملقيا باللوم على النساء اللاتي يرتدين ملابس “غير لائقة تثير غرائز الشباب ما يدفعهم إلى التحرش بهن” على حدّ تعبيره.

فيما عارضت الطالبة العراقية زهراء المازي اعتبار اللباس سببا في التحرش، قائلة “لست مع فكرة أن مظهر المرأة أو ملابسها هما الدافع الحقيقي للتحرش بها، فالملابس ليست سوى واجهة خارجية، ولا يمكن على أساسها أن نصنف الناس أخلاقيا ونطعن في سلوكياتهم”. وأضافت لـ”العرب”، “أعتقد أنه حتى وإن تغطّت المرأة من رأسها إلى قدميها، فإن ذلك لن يحميها من التحرش الذي يمارسه ضعفاء النفوس وقليلو الحياء”.

وربطت المازي انتشار الانتهاكات الجنسية ضد النساء في المجتمعات العربية بالنظرة الدونية للمرأة.

أما التونسية رحمة بن علي، بطلة رياضة التايكواندو، فترى أن اللباس لا يعكس طريقة تفكير الأشخاص، بل التفكير هو الذي ينعكس على نوعية الملابس.

وقالت بن علي لـ”العرب”، “كل امرأة حرة في اختياراتها ولها كل الحق في أن ترتدي ما تراه مناسبا لها، ولا يجب أن نطلق عليها أحكاما مسبقة أو نحطّ من قيمتها بناء على المظهر الخارجي، وبدلا من أن تصنّف المرأة بناء على مظهرها، لماذا لا نبجلها ونحترمها، بناء على ما تقوم به من أدوار بطولية في المجتمع وما وصلت إليه من مناصب تستحق بالفعل النظر إليها بعين الاحترام والتقدير، وليس بالعين الطامعة المستهترة”.

وأبدت بن علي في خاتمة حديثها تأييدها لحرية المرأة قائلة “كما اخترت أن أكون محجبة أحترم أيضا من اختارت أن تكون سافرة، لأن ظاهرة التحرّش لا علاقة لها بلباس المرأة، بل بالعقلية الذكورية التي ترى المرأة مجرّد جسد وليس كائنا إنسانيا، ولذلك يجب على الجميع وضع حدّ لها”.

أصل المشكلة

يرفض البعض من الرجال أيضا ربط التحرش بمظهر المرأة ومنهم الشاب الجزائري عريف يوسف إسلام (موظف)، الذي اعتبر أن اللباس من الحريات الشخصية ويجب احترامها.

وقال يوسف لـ”العرب”، “هناك معتقدات وعادات عابرة للثقافات العربية، تتعاطى مع حقوق المرأة بتحيّز وتمييز، ومن ذلك حرية اللباس”. وأضاف “في معظم المجتمعات العربية يعاب على مظهر المرأة في حين لا يتمّ التعليق على مظهر الرجل، على الرغم من أن اللباس حرية شخصية، وكلاهما (المرأة أو الرجل) له الحق في ارتداء ما يناسبه”.

وأوضح يوسف “التحرش سببه الرئيسي البيئة الأسرية التي لا تربي الرجل منذ الصغر على احترام المرأة ومراعاة حقوقها، وما أراه اليوم في صفوف الشباب وكيفية تعاطيهم مع المرأة، يكاد يكون كارثيا، وكل ذلك راجع إلى تقصير الأولياء في تنشئة أبنائهم على الأخلاق الحميدة؛ ومنها احترام حقوق الآخر سواء كان ذكرا أو أنثى ومراعاة حريته الشخصية”.

ومن الصعب أن يتجرّد معظم الرجال من الأحكام المسبقة والمتحيّزة ضدّ المرأة، ويمكن لتلك الأحكام أن تؤثر بالسلب على النظرة السائدة للنساء صاحبات المظهر السافر أو الأكثر تحرّرا، لكن السؤال الذي يطرح هنا: هل المرأة التي ترتدي اللباس المحتشم الفضفاض بمنأى من التحرش الجنسي؟

يعدّ التحرش الجنسي مشكلة في جميع دول العالم، لكن حينما لا تسلم منه النساء اللاتي يرتدين ملابس طويلة فضفاضة لا تحدد معالم الجسم، فإن ذلك يعكس أيضا الاعتراف بأن التحرش يطال السافرات ومن يرتدين الحجاب وحتى النقاب والبرقع.

ومن المثير للاهتمام في هذا الشأن، ما كشفت عنه إحدى الدراسات حول التحرش، خاصة في صفوف النساء اللواتي يرتدين زيّا أسود ويغطين وجوههن وربما أيديهن في الكثير من الأحيان.

وأشارت الدراسة التي أجرتها شركة أبحاث عالمية لصالح وكالة رويترز إلى أن نسبة التحرش في السعودية أعلى بكثير مما هو عليه الحال في الولايات المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأستراليا وإسبانيا وبقية الدول الأوروبية، مؤكدة أن هذه الظاهرة مستفحلة في المجتمع السعودي، وتعدت ما يعرف بـ”المعاكسات” إلى العنف الجسدي في الأماكن العامة، الأمر الذي يفسّر بأن التحرش ليس سببه فقط نوعية لباس المرأة.

وتفاقمت معاناة المرأة السعودية مع خروجها للعمل والدراسة، خاصة في ظل غياب قوانين وإجراءات واضحة لمعاقبة المتحرش، والذي غالبا ما يفلت من العقاب، بسبب صمت المتحرش بها خوفا من الفضيحة، لتصبح هي الضحية مرتين؛ ضحية المتحرش، وضحية قيود المجتمع، التي تجعل من المرأة الحلقة الضعيفة أمام الرجل.

وكانت بعض المقاطع لفيديو تمّ تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي العام الماضي، قد أظهرت تحرشا جماعيا بفتاتين قيل إنه حدث في أحد متنزهات جدة، مما أثار غضب المغردين على موقع تويتر، مستنكرين هذه الاعتداءات بشكل واسع.

وبدأت وزارة الداخلية السعودية مؤخرا في تطبيق نظام يتكون من 8 مواد، يهدف إلى مكافحة التحرش والحيلولة دون وقوعه، وتسليط العقوبة على مرتكبيه. وينص النظام الجديد على عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات وغرامة قصوى قدرها 300 ألف ريال سعودي (80 ألف دولار أميركي).

وشدد الدكتور عبدالرحمن الصبيحي أخصائي الإرشاد النفسي على أن نظام مكافحة التحرش الذي دخل حيّز التطبيق منذ أكثر من أسبوعين في السعودية، يشكل إضافة نوعية في مجال دعم حقوق المرأة وحمايتها من جميع أشكال العنف والتمييز، وضمان السلم الاجتماعي والمدني لجميع فئات المجتمع السعودي بشكل عام. ونبه إلى ضرورة الحذر من “المواقف المتجنية على المرأة والتقييم السطحي لها بناء على مظهرها الخارجي، مشدّدا على أن اللباس لا يعكس حقيقة أخلاقها ولا طريقة تفكيرها”.

وقال الصبيحي لـ”العرب”، “أخلاق المرأة لا علاقة لها بنوعية اللباس، والدليل أن الحجاب قد استخدم أحيانا لممارسة الدعارة تجنبا للشبهات، واستخدم كوسيلة لتهريب المهربين واستخدم أيضا لإخفاء الإرهابيين، ولذلك عوض أن نتهم المرأة ونطعنها في سلوكها وأخلاقها، يجب أن نصطفّ مناصرين للمتضررات من ظاهرة التحرش التي هي أقرب إلى نسائنا وبناتنا وأمهاتنا، ويمكن أن تنجرّ عنها نتائج سلبية على المرأة والأسرة والمجتمع ككل”.

وأضاف “اللباس لا يمثل أصل المشكلة، بقدر ما هو واجهة للتغطية على التقاليد البالية التي تجعل المرأة مذنبة سواء كانت جانية أو مجنيا عليها، ما من شأنه أن يقف حائلا في طريق أي خطوة تقدمية لمساعدتها ودعمها، وخاصة في المجتمعات الذكورية”.

تغيير الثقافة

ترى الفنانة التشكيلية السعودية نجلاء محمد السليم أن التحرش الجنسي لا يطال المرأة فحسب، بل يمكن أن يذهب ضحيته حتى الأطفال، مشددة على عدم التساهل مع مرتكبيه، واتخاذ سياسات رادعة للقضاء على هذه الظاهرة.

وقالت السليم لـ”العرب”، “التحرش ينم عن سلوك غير سويّ قد يلحق صاحبه آثارا دائمة بصحة الكثيرين البدنية والنفسية، ولذلك لا بدّ أن يقوّم صاحبه بالأنظمة ويعاقب قانونيا، حتى لا يرتكب أشكالا أفدح من العنف الجنسي تلازم آثارها الضحايا طيلة حياتهم”.

واسترسلت “لقد تحمّلت المرأة على عاتقها هؤلاء غير الأسوياء بأن أخفت كل شي من جسدها، حتى حواسها التي أنعم الله بها عليها حجبتها تحت كومة من الأقمشة السوداء المغبرة بالأتربة والمخلوطة بالعرق من شدة حرارة الشمس، ورغم ذلك تحرشوا بها وأوقعوا بها أشد أنواع الأذى النفسي”.

وعبرت السليم عن تفاؤلها بإقرار نظام مكافحة التحرُّش في بلادها قائلة “الآن ولله الحمد، بعد أن أقرت السلطات السعودية قانونا لمعاقبة المتحرشين يتزامن مع قرار السماح للمرأة بالقيادة، سيوضع الرجال والنساء على حدّ سواء أمام المسؤولية، ولن يفلت أي كان من طائلة القانون، وهذا من وجهة نظري من أساسيات تحقيق الأمن والاستقرار للمواطنين، خاصة إذا عمل الجميع متكاتفين لضمان مستقبل أفضل للجميع”. لكن هل يمكن لسلطة القانون أن تكون أقوى من الرقيب الذاتي والرادع الأخلاقي والواجب الديني، في الحدّ من العنف الممنهج الذي يلاحق النساء؟

ويبدو أن طريق القضاء على العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية لا يزال طويلا، لأنه من السهل سن القوانين، ولكن من الصعب تغيير الثقافة التي تنظر بدونية إلى المرأة ، وتبرر بشتى الأسباب ممارسة العنف ضدها.

ويرى الدكتور بسام عورتاني، الباحث الفلسطيني المختص في علم الاجتماع أن التحرش الجنسي راجع إلى عوامل نفسية وثقافية، مشيرا إلى أن الظاهرة عالمية ولا تقتصر على المجتمعات العربية.

وقال عورتاني لـ”العرب”، “يعود سبب ربط التحرش الجنسي بلباس المرأة في المجتمعات العربية، إلى الثقافة الدينية والقبلية التي ما زالت تحافظ على علاقة هرمية وعلاقة عنصرية تجاه النساء والأطفال”.

وأضاف “لا تساعد الثقافة العربية الأفراد على الخروج من الهوس الجنسي، بل مثلت أداة قمع ورقابة على سلوك الأفراد. ولا يمكن هنا إنكار دور اللباس عموما في الإغراء الجنسي، فهو حاضر أيضا في كل المجتمعات، ولكنه ليس السبب الأساسي والرئيسي في ذلك. بل هو محفز لرغبات كامنة ولثقافة مأزومة”.

وتابع “التحرش الجنسي لا يرتبط بنوع محدد من اللباس، وإنما بصورة جسد المرأة العاري في ذهن المتحرش، فمهما لبست يستطيع أن يتخيلها كما الصورة التي يحملها في ذهنه، والتي يبحث عنها… وقد تكون هذه الصورة مرتبطة بمشاهد جنسية معينة التقطها من الواقع أو من الإنترنت والتلفزيون… إلخ”.

وأكد عورتاني في خاتمة حديثه أن دوافع المتحرش بالمرأة تتمركز حول صورة المرأة في ذهنه ومن ثم ثقافته، فالأسباب النفسية المرتبطة بالحرمان الجنسي إما لأسباب خلقية وإما ذهنية. وبالتالي تتم الاستعاضة عن ذلك عن طريق ممارسة العنف الجنسي المتمثل في التحرش، وفي هذه الحالة لا يكون اللباس سببا بقدر ما يمثل محفزا لبعض الدوافع”.

وإذا ما أردنا أن نكافح التحرش الجنسي فعلا، فلا بد من خلق بيئات رافضة له في أي شكل وتحت أي مسميات.

أن تولد ذكرا فهذا قدرك أما أن تكون رجلا فهذا صنع يداك

أن تولد ذكرا فهذا قدرك أما أن تكون رجلا فهذا صنع يداك

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015