الأوطان الساعية بجدّ نحو أحلامها، لا تُبقي النساء في صفوف التجاهل الخلفية، ولا تُمعن في إضعافهن، ومراكمة إحساسهنّ بالخيبة والعجز.
لمى خاطر/ مجلة ميم- إذا كان قدر أوطاننا المترامية على خارطة عالمنا أن تعيش تحت وطأة الاحتلال أو الاستبداد عقوداً طويلة، فإنّ حاجتنا للتمعن في الظواهر الناشئة عن حالتها هذه تبدو كبيرة، والتوقف عند المحطات اللافتة فيها تبدو أكبر، والمرأة كانت ومازالت تقع في قلب كل ذلك، وتمتحنها ظروف صعبة ومعقّدة على الدوام، وتُخرج المحن في المقابل لآلئ فريدة من عمق محيطها.
ثمّة نماذج كثيرة، يصعب حصرها وتعدادها، لنساء متفرّدات، كنّ شارةً مضيئة في متن قضايا أوطانهن العادلة، وحملنَ أعباءً كبرى، فكنّ جديرات بها، وناهضات بمسؤولياتها، وفي المشهد الفلسطيني تحديداً سيسعنا الحديث بلا توقف عن تلك النماذج، واستعراض عطائها من زوايا عديدة، والإسهاب في تعداد فضائلها.
غير أن هنالك جانباً ينبغي ألاّ يظلّ قصيّاً في تناولنا لجوانب تميّز المرأة وعطائها حين تحمل همّاً أو تناصر قضية، وهو محيطها العائلي، والجوّ الذي تجلّى نماؤها فيه، ثم موقف الرجل الألصق بحياتها من نشاطها العام.
في سيرة المجاهدات بأنفسهن يحضر هذا الجانب، وكذا الحال مع أمهات وزوجات الشهداء والأبطال، ولا سيما من دفعن بهم إلى ميادين القتال، كأم نضال فرحات، وأم محمود العابد، وفي تمجيد فعل المرابطات في أكناف المسجد الأقصى وذودهن اليومي عنه يستوقفنا موقف أزواجهن المساند والداعم، ومبلسم الجرح وجابر الكسر، والمستعد للتضحية بشيء من راحته وكمالياته لأجل قضية كبيرة ورسالة سامية.
ومع حادثة الفتاة عهد التميمي تجدد الأمر ذاته، وقد كان يتملكني فضول للتعرف على طبيعة عائلتها منذ صغرها، حين كنا نشاهد لقطات شجاعتها في مواجهة جنود الاحتلال، ثم كان أن رأينا كيف أن عائلتها كلّها تعيش المواجهةَ أسلوبَ حياة، وتربّي في أبنائها معاني العزة والأنفة والإقدام.
ولذلك، لم يكن مستغرَباً أن تكون المرأة أقدرَ على العطاء في ميدان الثورة إن كانت مستندة إلى كتف رجل نبيل، قد يكون أباها أو أخاها أو زوجها أو ابنها، لكنه يرعى فيها بذرة البسالة والشموخ، ولا يبرز عضلاته لقمع همّتها أو محاصرة ألَقها، ولا يغريه إخضاعها وكسر عزمها وامتهان طموحها.
لا تحتمل هذه المرحلة المظلمة من تاريخنا أن يساهم أحد في تكثير سواد النساء المنكسرات، والقابلات للاستسلام، والخاضعات لمن يُذلّ كرامتهن، محتلاً كان أم مستبدا، أم رجلاً يحاول معالجة نقص الجسارة لديه بالاستقواء على الكيانات الضعيفة في عالمه، وعلى رأسها المرأة.
وستظلّ هناك حاجة دائمة لتعزيز الإدراك وإشاعة القناعة بأنّ امرأة حرّة شجاعة هي الأقدر على أن تمنح مَن حولها أقصى ما لديها من محبة وإحاطة وعطاء، وأن تتفانى في إغداق مشاعرها الأجمل على من أطلق إشراقات روحها، وأتاح لقلبها أن يشعّ وينبض، ولنفسها أن تثور وتتمرد على الجور، دون تقييد أو إلجام.
الأوطان الساعية بجدّ نحو أحلامها، لا تُبقي النساء في صفوف التجاهل الخلفية، ولا تُمعن في إضعافهن، ومراكمة إحساسهنّ بالخيبة والعجز، بل تحرص على تمتين قلوبهن وتسييجها باليقين، وتمنحهنّ مكاناً بهيّاً يليق بمنجبات الأبطال، وصائغات العزة في نفوس الصغار، ومشكّلات لوحة أهدافهم الكبيرة، والآخذات بأيديهم نحو الشمس.
في هذه الأوطان، تكون المرأة رايةً، وساريتُها رجلٌ مكتمل المروءة، ويكون الرجل وطناً، وحدوده أنفاس امرأةٍ باسلة، وموفورة الكرامة.