غالباً ما يتم تصوير النشاط النسوي ومشاركة المرأة سياسياً واجتماعاً كسلوكٍ تنويري، وافدٍ لمنطقتنا مع رياح الحداثة بداية القرن الماضي.
إيمان شرباتي/النبض- على الرغم مما اكتسبته المرأة السورية من حقوقٍ استحقّتها أو استعادتها خلال رحلة نضالٍ ما تزال مستمرة، إلا أن الكثير من القوى السياسية المتنوّرة أو التقدّمية واليسارية تتّخذ من حقها بالمشاركة السياسية موقف اللامبالاة حتى اليوم، أو تشارك دون وعي في تقييد حركتها وتحطيم طموحاتها.
وفي كثير من الأحيان، استُخدمت المرأة كواجهة فقط خدمة لأغراض حزب أو تجمع ما، للظهور بمظهر حضاري مساير للعصر، دون اعتبارٍ حقيقي لإمكاناتها في دفع العمل السياسي نحو الأمام. كما أن الهوة ما تزال واسعةً بين ما نصت عليه دساتير الجمهورية العربية السورية، بما فيها الدستور المعمول به حالياً، من مبدأ المساواة وعدم التمييز بين الجنسين أو مبدأ المساواة بين المواطنين، وبين ما تفرضه القوانين والمجتمع من قيود عليها، ووضع عوائق تؤطر عملها، تمتد لمنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية أيضاً.
وعن النضال النسوي السوري مطلع القرن الماضي، غالباً ما تُنسب الريادة الفعّالة لمصر المتأثرة بحملة نابليون والعلاقات الثقافية الخاصة مع فرنسا، بخلاف سوريا التي بقيت تحت سلطة العثمانيين، وما رافق نهايات حكمهم من أجواء المرض والتخلّف والجهل. لكن هذا الرأي مبني على تأثره بحضور السيدة هدى شعراوي البارز، وجيل الرائدات في مصر، دون النظر للقاعدة الشعبية ومدى قابليتها لاختراق المجال العام. في سوريا، إضافةً للنخب المالية والعائلية، وجيل الرائدات في سوريا، كانت المرأة في الريف السوري متقدمة على محيطها العربي، تبعاً لدورها الاقتصادي ولفرصة التعليم المبكرة التي حازتها.
ففي الوقت الذي كانت فيه الأراضي الزراعية في مصر مملوكة بالكامل للعائلة المالكة والإقطاع، كانت الأراضي في سوريا موزعة على ملكياتٍ صغيرة مستقلة تعمل المرأة فيها، وكانت مهامها الإنتاجية تفوق مهام الرجل أحياناً. كما كانت تحضر من غير حرج في أغلب الأماكن التي يحضر فيها الرجال، وتشارك بما يترتّب على ذلك الحضور من علاقات متبادلة إنتاجيّة، وثقافيّة، واجتماعيّة. وعليه، لم تواجه حاجز منع الخروج من المنزل حين افتتحت مدارس الإناث التي انتشرت أفقياً زمن إبراهيم باشا، ثم الوالي المصلح مدحت باشا، والإرساليات التبشيرية، وصولاً لدستورعام 1908، الذي نصّ على ما يعرف «بالمشروطية»، أي ضرورة تعليم البنات، لتنخفض نسبة الأمية في صفوف النساء لخمسين بالمئة في بعض قرى القلمون ثلاثينيات القرن الماضي.
وغالباً ما يتم تصوير النشاط النسوي ومشاركة المرأة سياسياً واجتماعاً كسلوكٍ تنويري، وافدٍ لمنطقتنا مع رياح الحداثة بداية القرن الماضي. مما يفرض علينا أن نمحو من ذاكرتنا مشاهد الجدّات وبعض السيدات في الأسر السورية، اللواتي كان لهن الدور الأكبر في تنظيم شؤون الأسرة، والاحترام الذي كنّ يحظينّ به من الرجال قبل النساء. وأن نمحو أيضاً الذمة المالية المستقلة للمرأة السورية في حينه، التي ترث وتبيع وتؤجر، وتدير معاملاتها المالية. وأن نمحو كذلك مشهد الخجا، المعلمة والوجه النسائي لشيخ الكتّاب، لصالح صورة امرأةٍ مقموعة مجردة من الحقوق. ولا أدّعي هنا أن حقوق المرأة كانت مصانةً بالكامل، بل غالباً ما تعرضت لعنف معنوي وجسدي، لكن لم يكن أحد يجرؤ على اعتباره سلوكاً مقبولاً اجتماعياً.
بالعودة لملامح النهضة النسوية الموثقة والمشاركة في المجال العام، فقد بدأت من بوابة الصالونات الأدبية والمجلات النسائية مع لبيبة هاشم،ثم ماري عجمي التي شاركت في مسيرة الكفاح والنضال ضدّ الأتراك، والفرنسيين لاحقاً، ورفضت كلّ محاولات استمالتها ورشوتها من قبلهم. كذلك عادلة بيهم الجزائري التي حمت ورفيقاتها رجالاً كثيرين من حبال المشانق.
ومع دخول الملك فيصل دمشق، وإعلان الحكم العربي، كان لوجود الملكة حزيمةبنت ناصر، وتبنيها لتعليم البنات، أثر كبير في تحفيز نساء البرجوازية الوطنية للنهوض والمشاركة. فبرزت أسماء مهمةكنازك العابد، وزهراء العابد، ونسيبة الأيوبي، وسعاد مردم بك وغيرهن. ولتشهد نساء سوريا أيضاً مع نهاية الحكم العربي ودخول الفرنسيين مرحلة مختلفة من العمل الوطني، حيث رافقت نازك العابد وزينب الغزاوي وغيرهن يوسف العظمة إلى ميسلون للمشاركة في المعركة.
ومع اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 في مواجهة المستعمر الفرنسي، برزت أسماء الثائرات السيدة عزيزة بنت محمد حسن حصرية، وخديجة السبسبي، ورشيدة الزيبق التي حملت البندقية في معارك الغوطة. كذلك بستان شغلين في السويداء، ونجيبة الأرمنازي، وأم عبد الله الشواف في حماة. من دون أن ننسى فضة أحمد حسين، زوجة المجاهد صالح العلي رفيقة الدرب والسلاح، التي استهدفها الفرنسيون مباشرة أثناء احتلال الشيخ بدر.
المشاركة في المعارك قابلها أيضاً نشاط مدني حثيث في الإغاثة وجمع التبرعات، وتطور نوعي في العمل النسوي تجلّى في المؤتمر النسائي الشرقي الأول، الذي استضافته دمشق عام 1930، والذي كانت على جدول أعماله مواضيع تقدمية قد لا نجرؤ نحن اليوم على طرحها بعد مئة عامٍ تقريباً. فبحسب جريدة الشعب الدمشقية، العدد 869 والصادر يوم 6 تموز 1930، فقد بحث المؤتمر ضرورة منح حق الطلاق للجنسين، على أن يقيّد هذا بقيود ثقيلة، فلا يمنح إلا في ظروف استثنائية. وإذا كلف الزوج الزوجة أو الزوجة الزوج من دون سبب معقول، تُرفع القضية للمحاكم التي يجب أن تحكم بتعويض مادي لا يقل عن نصف أملاك المعتدي.
وبعد استقلال سوريا عام 1946، شاركت المرأة في احتفالات عيد الجلاء، ثم في المظاهرات التي تلت الاستقلال، دون أن تحقق اختراقات على صعيد الحقوق. وبرز في تلك الفترة اسم المناضلة ثريا الحافظ، صاحبة منتدى سكينة الأدبي، والتي قالت مقبولة الشلق عنها: «إنها بطلة المظاهرات، وخطيبة الجماهير التي لا يعرف الخوف قلبها.» وانتظرت المرأة حتى انقلاب حسني الزعيم للحصول على الحقّ في الانتخاب، شريطة حيازة شهادة التعليم الابتدائي، ثم حصلت على حق الترشح وإلغاء شرط التعليم عام 1953، لتكون ثريا الحافظ أولى المرشحات في التاريخ السوري، دون أن يكتب لها النجاح.
نضال نصف قرنٍ تقريباً، وإن لم يمكّن المرأة من المشاركة السياسية المباشرة، إلا أنه أهلّها كناخبة للعب دورها على أكمل وجه. فبحسب صحيفة الرأي العام الدمشقية، بعددها الصادر يوم 25 نيسان 1957: «فإن الشيخ مصطفى السباعي، زعيم حركة الإخوان المسلمين، قام بزيارةٍ لرئيسة الاتحاد النسائي عادلة بيهم الجزائري ليطلب منها مناصرة المرأة له في الانتخابات ضد رياض المالكي، مرشح الحركات التقدمية. فكان جوابها أن للمرأة السورية قضاياها وحقوقها، من الطبيعي ألا تقترع إلا لمن يناصرها، ويقف لجانبها.» وعلى الرغم من الشعبية الكبيرة التي كانت للسباعي، إلا أن الفوز بمقعد دمشق كان من حظ المالكي المدعوم نسائياً.
وعندما أُعلنت الوحدة بين سورية ومصر 1958، وألغى دستورها التعدّدية الحزبية لمصلحة قيام حزب واحد، تمّ تشكيل مجلس أمة موحّد ضمّ في عضويته 200 نائب، كان بينهم سيدتان معينتان هما: جيهان موصلي ووداد أزهري. لتأتي مرحلة البعث الذي تبنت، نظرياً، خطاباً مناصراً للمرأة، لكنه وباحتكاره المجال العام في سوريا، وحصر الحركة النسوية بالاتحاد النسائي العام الذي تمّ حلّه مؤخراً، والذي كان قد تأسس عام 1967 كرديف للحزب، أدى إلى تحجيم المشاركة السياسية للمرأة، والاحتفاظ بها شكلياً.
وبالرغم من أن مجلس الشعب ضمّ في دورته الأولى أربع نساء، ثم تتالت عليه ثمانية أدوار تشريعية، وكانت مشاركة النساء في ارتفاع، ليصل أعلى تمثيل للنساء العربيات في البرلمانات عام 2003 في الجمهورية العربية السورية، مع 30 نائبة بلغت نسبتهن 12% على مستوى التمثيل البرلماني، ثم تونس فالسودان وصولاً للكويت بنسبة صفرية، رغم رسوخ التجربة البرلمانية في الإمارة، إلا أنه لم يكن لها تأثير كبير على السياسات العامة للدولة. وبحسب الدكتورة منى فياض في ورقتها البحثية، المرأة والسياسة، والتي تقول فيها: «يبدو التمثيل السياسي للنساء في الدول العربية والإسلامية وكأنه هدية شخصية أو هبة من قبل الحاكم تجاه امرأة معينة يراد تكريمها، أو من أجل إظهار الوجه الحسن للنظام السياسي، إذ أن ذلك يسهّل الحصول على مساعدات وهبات مالية من جهات دولية، نظراً لأن هذا الأمر من متطلبات برامج التنمية للأمم المتحدة. لكن عند التدقيق، نجد أن المرأة بعيدة كل البعد عن مجمل مراكز القرار».
وعلى صعيد السلطة التنفيذية، فيجدر الذكر أن نجاح العطار كانت أول وزيرة للثقافة في الوطن العربي. واستلمت حقيبة الوزارة التي تعتبر من حقائب البعث السيادية، وبقيت في منصبها هذا عدة وزارات متتالية من عام 1976 وحتى عام 2000. وقدمت بتعاونها مع المفكر أنطون المقدسي ترجمة لأمهات الكتب العالمية. كما كانت العطار أول إمرأة عربية تستلم منصب نائب رئيس الجمهورية منذ عام 2006.
وعلى صعيد مجالس الإدارات المحلية، فنسبة تواجد النساء لم يتزحزح عن نسبة ضئيلة، والذي إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن هذه النسبة مقرّرة سلفاً بقرار سياسي، وليس هناك وجود ملموس للمرأة في القيادات النقابية، ولم تصل أيّ امرأة حتى الآن لمنصب نقيب.
أما على صعيد المعارضة، فنسبة النساء فيها قليلة، وقد اعتقلت أعداد منهن في الثمانينيات إما لانتمائهنّ للحزب الشيوعي، أو على خلفية كونهنّ زوجات أو قريبات من قيادات الإخوان المسلمين. وإن كانت أعدادهنّ غير واضحة، لكنهنّ على الأغلب لم يكنّ مشاركات في هذه الحركة.
وفي ظلّ الحرب التي بدأت في سوريا منذ أكثر من ستّ سنوات، برزت على الساحة السورية لجان إحياء المجتمع المدني، والتي دعت إلى عودة السياسة إلى المجتمع ومشاركة المرأة فيها. فلمعت أسماء عديدة، بعضهنّ شكّلن أحزاباً سياسية معارضة أو تيارات سياسية في الداخل، وأخريات انتقلن إلى الخارج كمُعارضات للنظام.
على العموم، فإن مشاركة المرأة السورية في السياسة، كما في معظم دول العالم، ليست على قدر طموحاتها. فالإرث التاريخي، والمعوّقات الاجتماعية التي تعرقل انطلاق المرأة، والتحديات التي تواجهها، وأنظمة الحكم الشمولية الاستبدادية التي ألغت الديمقراطية وأصرّت على حصر النضال النسوي في منظمات شبه رسمية نفعية مترهلة، لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار إذا أردنا النهوض بواقع المرأة، وبالتالي بالمجتمعات العربية التي ما زالت تعاني قهراً وتخلّفاً ومواتاً.