المرأة الكاملة بين الوهم والحقيقة
المرأة الكاملة بين الوهم والحقيقة

آية الأتاسي/ رصيف 22- بعد عقود على الثورة النسوية، تجد غالبية النساء أنفسهن أمام “كذبة” كبيرة. المرأة القادرة على كل شيء، غير موجودة إلا في المنشورات النسوية أو على صفحات الكتب أو في أشد الأحلام وردية.

هذا ليس انتقاصاً من شأن المرأة، ولكننا اليوم نعيش في الألفية الثالثة، ومن المفترض أننا قد تجاوزنا نقاش القدرات العقلية لدى المرأة، بعدما أثبت كفاءتها على جميع الأصعدة، ووصلت في كثير من البلدان إلى أعلى مناصب الدولة والقيادة.

اليوم نحن نعيش حقبة ما بعد “النسوية”. فمع أن المرأة خرجت إلى سوق العمل، فما زالت تتقاضى أجراً أقل من الرجل رغم تمتعهما بالكفاءة الأكاديمية والمهنية نفسها، وما زالت مسؤولية البيت والأولاد على عاتقها بالدرجة الأولى، وما زال تحررها مكبلاً بالأعراف والتقاليد. لأن “تحرير المرأة” لم يحررها إلا جزئياً فيما يخص الاستقلالية الاقتصادية المترتبة على العمل، لكنه لم يحررها من الأعباء الأخرى، بل زاد عليها عبء الوظيفة، وصارت مطالبة بأن تكون “المرأة الخارقة”، أي أن تكون، بالإضافة إلى عملها “خارج البيت”، ربة لهذا البيت.

وكما خلية النحل تعمل بلا انقطاع، فكذلك هي إذ تعمل مربية ومدرّسة وراوية حكايات وطباخة وممرضة وسائقة ومعالجة نفسية ومهندسة ديكور، أي مديرة وعاملة في مؤسسة يطلق عليها اسم “الأسرة” بلا راتب ولا تقاعد ولا ترقية ولا إجازة سنوية.

هكذا تجد المرأة نفسها غريزياً أو بحكم الظروف “بهلوانة” تمسك بمئة عصا، وهي مهمة يعجز أغلب الرجال عن مجاراتها فيها كما يعجزون عن فهم عالم النساء الشائك المليء بالسراديب والممرات السرية.

على سبيل المثال، عندما حاول بعض الرجال الأوروبيين النزول إلى الشارع بأحذية نسائية ذات كعوب عالية، تضامناً مع المرأة في يوم المرأة العالمي، بدت أجسادهم مترنحة وخطواتهم ثقيلة، فلا يكفي أن يحشر الرجل قدميه في حذاء المرأة ليمشي مثلها، فهي قد اعتادت القفز فوق الحواجز والسير على خيط رفيع، بحكم ثقل الحمل الملقى عليها.

ولأنه من المحال الإحاطة بعالم المرأة في مقال واحد، سأحاول أن أسلط الضوء على أحد الأعباء الثقيلة التي تقع على كاهل المرأة، هو عبء “الأنوثة والجمال”، على أمل الكتابة عن الأعباء الأخرى لاحقاً.

عبء الأنوثة

عبء لأن المرأة مطالبة دائماً بالتزامات تجاه أنوثتها، في تجلياتها الأبسط من صبغ وتصفيف للشعر وتقليم للأظافر وإزالة للشعر الزائد، الذي يعتبر صفة ذكورية لا يليق بالمرأة الإبقاء عليها.

ومع كل ما يتطلبه هذا من استثمار في الوقت والمال، لا يجد الرجل نفسه في المقابل مطالباً بأكثر من دوره الاقتصادي التقليدي كمعيل للأسرة، ولا يتجاوز اهتمامه بذكورته حلاقة ذقنه، بل إن الذقن غيرالمشذبة صارت موضة عصرية، حتى الشيب الذي يغزو الشعر مع العمر يعتبر جاذبية ووقاراً للرجل، بينما هو شيخوخة للمرأة واشارة إلى قلة اهتمامها بنفسها.

كما يجب على المرأة اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن تبقى جميلة وشابة، فالإعلانات في كل مكان تعد بالشباب مدى الحياة، إعلانات تبدأ بالكريمات مروراً بالحقن وصولاً للشد والنفخ، كل شيء متاح لتبدو المرأة شابة ونضرة، وكل ما تحتاجه هو الشجاعة للمغامرة، والكثير من النقود للاستثمار في شكلها أو الاستسلام لذائقة السوق التجميلي أو لطبيب التجميل، لإن الجمال تحول اليوم إلى سلعة تباع وتشترى وتُسوّق وتستثمر.

كوني جميلة وادفعي

بدايةً، لنعترف أن نسبة قليلة جداً من النساء يجدن أنفسهن جميلات، فالمرآة ليست كما في الأساطير ولا تنطق إلا بما يحبط الهمم. ولإبقاء المرأة شابة مدى الحياة خرج علينا العلم باختراع “البوتكس” وهو سم لا يميت بل يحيي الشباب، وقد أصبح اليوم  إجراءً روتينياً أشبه بصباغة الشعر لمن استطاعت إليه سبيلاً.

المشكلة أن الحقنة السامة تقضي على التجاعيد، ولكنها تقضي أيضاً على علامات التعجب والغضب وكذلك الفرح، فالبوتكس منتج قادر على إبادة الفراشات التي تتطاير من غمازات الفرح بسهولة، وكأننا أمام مقايضة: قايضوا ذكريات وعلامات الزمن بوجه أكثر شباباً، من دون أن يعني هذا أكثر جمالاً.

فكثيرات هن النساء اللواتي حوّلت إبرة البوتكس وجوههن إلى قناع بلا تعابير، أو تحولت عيونهن اللوزية إلى دائرية، من دون أن يمنعهن هذا من معاودة الحقن من جديد ما دامت الآثار تزول بعد أشهر معدودة، وما دمن يظهرن في كل مرة بوجه مختلف وفق حرفية الطبيب وخبرته.

ولمن تختار حلولاً أبسط، فهناك صناعة كاملة تقوم على زيادة النضارة والشباب، من خلال سيرومات وكريمات العناية بالبشرة، التي أصبحت تشمل كل شيء وتطيل كل شيء حتى الأعمار. وهكذا تشمل الإطالة وإعادة الصيانة الأظافر والشعر والبشرة والرموش، وكل هذا يضع المرأة أمام عبء نفسي واقتصادي ثقيل، فإما أن تستسلم في النهاية أو عليها أن تقبل علامات شيخوختها أمام نساء يكبرنها سناً ويبدون أكثر نضارة وشباباً منها.

أما التي لا تكتفي بتخدير الزمن، فتعدها الجراحة التجميلية بالمزيد، وهذه المرة تحت التخدير العام حيث تستلقي المرأة تحت مشرط الجراح وتحت مسميات عديدة من شفط للدهون إلى شد للوجه أو تكبير وتصغير الثدي.

وكل هذا لكي يبدون أجمل، حتى ولو كلفهن هذا الاستدانة من البنوك.

وربما يصح أن نطلق على ما يتم اجراؤه عبارة “الصناعة التجميلية” أكثر من “الجراحة التجميلية”، فنحن أمام عملية تصنيع كاملة للمرأة، تصنيع قد يحولها إلى دمية بلاستيكية، إن تجاوز حدوداً أو معايير معينة.

المؤسف أن هذه الصناعة هي الوحيدة الرائجة في بلداننا العربية. صناعة وصلت حتى إلى “الجمال الداخلي”، أي الإشعاع الغريب الذي يلفنا في حضرة أشخاص لا تنطبق عليهم ربما معايير الجمال الخارجي التقليدية، فعيادات التجميل تعرض أيضاً تحت مسمى “الجمال يأتي من الداخل” كل ما يزيد الألق الداخلي ويساعد على الاسترخاء والتوازن في غرف الملح والضوء واللون والحرارة والثلج.

وكأن مقولة “تكلمي لأستطيع أن أراك جميلة”، أفسحت المجال لمقولة أخرى: “ادفعي …لتبدين جميلة”.

إعادة تدوير الدهون

هو زمن الرشاقة بلا هوادة، فقد ولى زمن المرأة المكتنزة بمنحنيات أنثوية، وحل مكانه زمن التسطيح على جميع الأصعدة.

ولى زمن السفوح والسهول الأنثوية الطبيعية وأصبحنا في زمن المساحات الفارغة على شاكلة أو زمن جسور البيكيني المعلقة: “Thigh Gap” “Bikini Bridge ” حيث العظام النافرة لم تعد دليلاً على نحول الجسم بل صارت معياراً للجاذبية.

وكما في المثل القائل: “العقل السليم في الجسم السلم”، نحن مطالبون بأن نحمي العقول من العطب إن تكورت الشحوم في الأرداف أو استدارت البطون، حتى لو استدعى الأمر اللجوء إلى الجراحة، التي أصبحت تسمى “نحت الجسم”، وكأن الانسان تحول إلى تمثال بين أيدي جراحي التجميل.

حتى الساعات الطويلة التي كان المرء يقضيها في المراكز الرياضية، أصبحت قابلة للاختصار، فهناك اختراعات جديدة تختصر ساعات طويلة من التدريب الشاق بدقائق معدودة، إذ يخضع الجسم لتيارات كهربائية تحرق الدهون المتراكمة.

ولكن حذار من إتلاف الدهون جميعها، فآخر الصيحات هي “إعادة تدوير الدهون”، أي شفطها من مكان وحقنها في مكان آخر، بمعنى “دهونك منك إليك”. بالإضافة إلى أن الدهون ليست كلها مؤذية، فهناك ما يسمى بالدهون غير المشبعة، ويكفي الاسم وحده ليذكرنا أنه لا يحق لنا باسم الجمال أن نشبع.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل هذا هو متى سيتوقف الهوس بالمظهر الخارجي، وإلى متى سيتابع العلم اختراع ما يجعلنا أجمل وأكثر شباباً؟

عندما تسأل النساء عن السبب وراء خضوعهن لعمليات التجميل، تكون أغلب الإجابات بأنهن يفعلن هذا لأنفسهن.

لكن “أنفسهن” تلك تربطهن بها غالباً علاقة مشوشة، فقليلات هن النساء المتصالحات مع صورتهن في المرآة، والبعض يصل إلى مرحلة رؤية صورة مشوهة غير حقيقية، كما يحدث لدى مريضات فقدان الشهية، إذ يتخيلن أنفسهن بدينات ووزنهن لا بتحاوز بضعة كيلوغرامات.

المشكلة تبدأ إذن من الصورة في المرآة، التي يجب أن تكون “مرآة” بأسطح مصقولة لا متشظية، و”صورة “يجب علينا أن نحبها.

وعلينا أن نصل إلى مرحلة نقف فيها أمام المرآة وننظر إلى الهالات السود بعد سهرة الليلة الماضية، والعوامات حول البطن من بقايا لذة المائدة، والخطوط في أعلى الجبين التي تذكر بلحظات الفرح….

ونقول هذه هي حياتنا بحلوها ومرها، وهذا “نحن” ويحق لنا أن نترهل وأن نسمن وأن نشيخ، وأن نقول: أنا أترهل وأنا أتجعد، إذن أنا موجودة.

ملاحظة أخيرة…

عندما كنت أزور مركزاً للتجميل من أجل كتابة هذا المقال، رأيت في الجهة المقابلة مركزاً لعلاج السرطان، وامرأتين، واحدة تخرج من المركز الأول بشفتين منفوختين وأخرى تخرج من الثاني برأس حليق وثدي مبتور…

امرأتان في جهتين متقابلتين، وحالتان لا تتركان مجالاً للشك بأحقية وضرورة التجميل في حالات معينة، وبسطحية وترف التجميل في أخرى.

أمام المرأتين لا شك أن الحصول على السعادة هو أن نكون أصحاء وبكامل لياقتنا الفكرية والجسدية، وكل ما عداه ثانوي وهامشي.

وكما قال الأولون: الله يديم الصحة علينا، فهي كنز لا يعوض.

المرأة الكاملة بين الوهم والحقيقة

المرأة الكاملة بين الوهم والحقيقة

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015