المرأة بين مطرقة العادات وسندان عجز العلم
على مر التاريخ، كانت الهستيريا تعرف على أنها مرض إنتقائي، لا يصيب إلا النساء! وذلك بسبب الرحم.

أميرة حجلاوي/hakaekonline- طالما ارتبطت الهستيريا بالمرأة تاريخياً ولعدة قرون فكان توصيفاً حصرياً لنساءٍ ذوات تصرّفات تشذّ عن السائد والمتعارف عليها. حالياً انتشر استعمال هذا المصطلح وأصبح أكثر تعميماً، فصرنا نصف من يتصرف بانفعالية وغضب شديدين بالهستيري.

فإذا سلّمنا بأن الهستيريا كانت ولا تزال من الأفكار السائدة ” الكليشيهات” الجندرية وهي حالياً تعبير عن درجة عالية من الغضب. فما هو التعريف العلمي القادر على الفصل في الأمر؟ 

تم اكتشاف ورق بردي فرعوني يصف حالات هستيرية كأول دليل مادي تاريخي يدوّن ويقرّ بوجود هذا الاختلال السلوكي الواسع الانتشار في الحضارات القديمة ظهرت انحرافات عن التصرفات المحمودة اجتماعياً لدى الكثير من النساء.

وهي سلوكيات تشترك في عدد من هذه الأعراض: الحزن، البكاء الصياح الانفعالية وحتى الانهيارات العصبية وعدة أعراض جسدية،  في سنة 400 ق. م أطلق رسمياً اسم الهستيريا على المرض (في اللاتينية Hystériat=utérus) أحد أعضاء الجهاز التناسلي الأنثوي.

وتعود أصل التسمية إلى أبقراط وهو طبيب يوناني مشهور، والذي رغم كونه من ضمن من فكوا الارتباط بين الطب والسحر فإنه التجأ إلى أسهل التفاسير؛ إذ أنه أمام عجزه على فهم هذه الظاهرة لم يجد من بديل عن اعتبار الجهاز التناسلي الأنثوي سبب الشر وأصل الاضطراب. 

تاريخٌ من الاضطهاد  كان إنجاب الأطفال (ولا زال ولو بدرجة أقل نسبياً) الوظيفة الرئيسية للمرأة. وكلما كان عدد الأطفال الذكور كبيراً؛ كلما زاد الاعتراف بقوة العائلة وتدعم نفوذها وقدرتها، إما على حماية السلطة أو الثروة أو نشر الدين أو مساعدة الأب في تحصيل القوت.

لطالما اقترن تعريف المرأة بتحديد وظيفتها البيولوجية منها تستمد أهميتها وأحيانا احقيتها في الحياة فانجاب الأطفال هو حجر الأساس في تعريفها وسبب وجودها، وإن يرغب الرجال في تواصل نسلهم؛ فإن قيام المرأة بهذه الوظيفة حتى على أحسن وجه ودون نقائص لا يميّزها عنه. قدرتها على الاضطلاع بهذا الدور بإتقان هي وظيفة فرضها الله/الطبيعة عبر التكوين الفيزيولوجي وهي معيار لتحديد الوظائف الاجتماعية على مستوى أكبر، فالمرأة وعاء حمل مطالب بتوفير الظروف الملائمة لنشأة الأجنة.

وبالتالي فإن أي اضطراب في سلوكها مردّه خلل في جهازها التناسلي، لأن هذا الأخير يتطلّع حسب علماء عصور الظلام بلهفة محمومة إلى القيام بوظيفته الطبيعية الغريزية أي إنتاج الأجنّة. وُصِمَت كل امرأة مصابة بالهستيريا بوباء جنسي مخجل، هكذا فسّر علماء الحضارات الهستيريا دون اعتبار للجوانب الاخرى من اهتزاز نفسي واضطراب عاطفي وشخصية خاضعة. حتى إن الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا كانت تشجّع على التخلّي عن النسوة المصابات وحرقهن. 

إضافةً إلى دورها في تأمين استمرار النسل، تضطلع المرأة بدور الحفاظ على شرف القبيلة والعائلة. وبالتالي فإن تصرّفات المرأة لطالما كانت محط أنظار ومراقبة السلطة الأبوية في كلّ الأزمنة والأمكنة.

وإن ارتفعت نسبة التمدرس حالياً لدى الفتيات في البلدان العربية، وإن مشت المرأة خطوات (قليلة) في اتجاه التحرّر، فإن تلك المراقبة لم تُرفع عنها إلى حدّ الآن في كثير من البلدان العربية. بل ظلّت سمعة العائلة مرتبطة حصراً بأخلاق بناتها. وظلّ هذا يشكّل ضغطاً على البنات، إن لم يُواجه ردة فعل حالية؛ قد ينفجر لاحقاً في وقت غير متوقع. ليس في هذا إنكار لدور الرجل الاقتصادي لكن هذا جعله يمنح الحق المطلق لنفسه ليستأثر بدور القرار والقيادة في أغلب الحضارات.

ثم إن اعتبار المرأة عاجزة عن توفير الحاجيات المعيشية، هو قرار ذكوري شوفيني صرف.لا يتسع المجال لتوصيف دقيق وموضوعي لوضع الاضطهاد الذي عانت منه أغلب نساء البشرية، يكفي ألا يوجد مجال لنفي تركيز المرأة في المواقع الثانوية رغم بعض الاستثناءات. 

تشابه وضعيتا المرأة حديثاً وقديماً تؤكّده كلّ من الدكتورة المغربية كنزة ناجي مختصة في الأمراض النفسية والتحليل النفسي، والدكتورة رجاء بن سلامة وهي باحثة مختصة تونسية. تُشير أطروحة الدكتورة كنزة ناجي، التي اهتمت بالفتيات الهستيريات، إلى الدور الذي يُعهد إلى الأم في مراقبة بناتها بأمرٍ من الأب في سنواتهنّ الأولى.. لكن بعد بلوغ الفتيات، يأخذ الأب من جديد زمام الأمور، دورٌ منحَهُ إياه الدين والثقافة، وهو فعلاً مع حسناء التي تغيّرت حياتها بعد بلوغها، لتدخل مرحلة جديدة أصعب وأخطر بالنسبة لها، لكن خاصةً بالنسبة إلى والدها الذي يرتبط شرفه باستقامة ابنته…. تلعب الام دور الوسيط في نقل معلومة هذا التحوّل الجسدي والهرموني إلى الأب كإشعارٍ له بان يتولّى هذه المهمة الأصعب بنفسه وبأنّ المراقبة يجب أن تُضاعف، لتفادي أي ” شر”.

هذا ما تؤكّده حالة حسنة، التي أصيبت بالهيستيريا وهي عيّنة من ملايين الحالات المشابهة في عموم المجتمعات المُحافِظة. 

وتُشير الدكتورة إلى فتاة أخرى أضطرت الى دخول المستشفى نتيجةً لإصابتها بنوبات هستيريا. وبعد أسابيع، تحسّنت حالتها، واختفت النوبات، واستطاعت التعبير عن علاقتها الباردة مع أبيها؛ أبٌ كان يمشي على ساقيه ليقيس المسافة الفاصلة بين البيت والمدرسة وليحدّد وقت عودة ابنته بـ 8 دقائق، هكذا قضت الفتاة فترة طفولتها في خوف ورعب من هذا الرقم، في فترة حملها بانت نتائج هذا الرعب حيث رافق الحمل حالات اختناق وفقدان للوعي.

وتقول رجاء بن سلامة وهي باحثة مختصة تونسية “لا نجد دراسات عن الهستيريا وثقافتها في بلادنا. لكنني أذكر شكوى النساء.. طفولتي عشتها بصحبة نساء كنّ يشكين من شلل اليد، الغشية أحاديث النساء عن انتقال الوجع من عضو إلى آخر………”.

إنّ تاريخ الإنسانية هو جريمة كاملة الأركان ومتواصلة في حقّ النساء، جريمة باركتها بل وشاركت فيها المؤسسة العلمية أو الطبية في تواطؤ مع نظام أبوي انعكس حتى على الاستنتاجات الطبية.

لكن كيف يمكن نقد الأضرار النفسية التي أدّت بما لا يترك مكاناً للشك إلى الهستيريا في مجتمعٍ يسمح، يشجّع ويلقّن مثل هذه الوسائل في التربية، وفي تصالحٍ معها؟ ولمن كان الفضل في توفير التشخيص الدقيق للحالات المصابة؟ ما الذي يدين به التحليل النفسي لمعاناة النساء؟ 

في ظلّ تواصل انتشار الوباء ومع حتمية التطوّر البشري الطبي منه أساساً، اقترن جزء من أبحاث علوم الطب بدراسة هذا الوباء، ومن أهم العلماء ظهر في هذا السياق اسم عالم الأعصاب Charcot. Jean-Martin Charcot هو عالم فرنسي مؤسس علم طب الأعصاب الحديث وطبيب رائد في العلاج النفسي. يُعتبر من أهم، إن لم يكن أهم عالم أعصاب اهتم بدراسة علاقة الدماغ بالهستيريا. وأعتمد في ذلك على طريقة البحث السريري، وبحث الفرق بين الهستيريا والصرع؛ حيث اعتبرهما اضطرابين عُصابيين يشتركان في جملة من الأعراض ومتشابهين كثيراً.

وقد حافظ مفهوم الهستيريا على صفة العُصاب في تعريفه إلى الآن والانسان العُصابي هو المُدرك لحالته، واعتبر Charcot أن هذا المرض يجد مصدره في الجهاز العصبي دون وجود إصابات خارجية مرئية. وقد حاول إثبات أن مرض الهستيريا يرتكز على ضرر في الوظيفة الديناميكية للأعصاب.

في مستشفى de la Salpêtrière تمّ تعيين Charcotعلى رأس قسم يهتم بحالة الهستيريا، وتعتبر Augustine أشهر مريضة اهتم بها، جاءت إلى المستشفى سنة 1875 عندما كانت تبلغ 18 سنة. وما جعل هذه الحالة الفُضلى لدراسة المرض هو الصيغة المتكررة لنوباتها العصبية، أولاً اعتبر دماغها مهيأً بصفة وراثية وبالتالي حتمية لظهور المرض، وكان يعرضها أمام عموم الزوار في حصص استثارة لمرضها. وقد حافظ على قناعة الأولين بأن الجهاز التناسلي على علاقة بالمرض، وشاعت حصص تصوير فوتوغرافي للنساء المريضات في نهاية القرن 19، و تجدر الاشارة أنّ اسم Augustine هو اسم مستعار يضمن اخفاء هوية الحالة كما كان يفعل Freud مع حالاته المعروفة.

أما Freud الذي كان تلميذاً مجتهداً لدى Charcot سنتي 1885 و1886 فلم ينطلق من كلّ منطلقات أستاذه، كان مديناً لـ Charcot في معطى أن الهستيريا هي نتيجة صدمة عاشها المريض وعوامل جنسية، وكان مدركاً أن للدماغ طبقات من مادة لا واعية تختفي في وجود الوعي. وبالتالي كان أقرب الاثنين لما وصل إليه العلم الحديث واعتبر أن حالة الهستيرية هي أساساً وليدة اضطرابات نفسية وهو ما أكّدته حالة Dora. 

مع دفع الأبحاث في هذا المجال يؤكّد الخبراء اليوم على وجود فرق كبير بين المعنى العلمي الحقيقي لمرض الهستيريا والمعنى الدارج المستعمل تعسّفاً على اللغة والعلم. تعرّف الهستيريا على أنها “مرض نفسي عُصابي مع تحويل الحالة الانفعالية إلى إسقاط جسدي للتمييز أو التميّز أو هروباً من الواقع أو جلبا للانتباه”. توصيف الانفعالي يعني أن الحالة الوجدانية العاطفية للمريض هي في أوجها إلا أن عُصابية المرض لا تعني أن الاسقاط يحدث بصفة إرادية على الجسد؛ بل يحدث لا شعورياً بعد قرار يأخذه اللاوعي بتواطؤ مع النفس.

الدليل على ذلك أنّ الأعراض تكون حقيقية وصارخة وأحياناً شديدة الخطورة كالشلل المؤقت أو العمى المؤقت أو الصمم المؤقت أو فقدان الوعي، الذي إذا تواصل قد يؤدي إلى غيبوبة فعلية.

حالياً لا يعتبر السبب الوراثي من العوامل المسبّبة للمرض، وبالتالي تسقط إحدى فرضيات Charcot، حيث يعتبر العاملان الرئيسيان: معالم الشخصية والمعايير الاجتماعية، ويقصد بمعالم الشخصية: الجنس: فتاة في مقتبل العمر (وهي نفس حالة Augustine وDora) -العاطفية- تمركز الفعل حول الذات – الرغبة في لفت الانتباه -، هذه الدوافع الداخلية تدخل في صراع مع المعايير الاجتماعية الجندرية والظالمة. وتتولّد حينئذ رغبة في استدرار العطف مبنية على حاجة فعلية إلى جلب الانتباه وكأنه نداء استغاثة. 

نوبات الهستيريا بمختلف أعراضها هي حاجة للتنفيس عن احتقان داخلي لجلب الانتباه إلى اضطراب نفسي تعاني منه شخصية رافضة للتمييز الاجتماعي مهما كان نوعه.

وإن ظلّت المرأة عامةً في العصور الوسطى ضحية عجز العلم الذي كلّفها قروناً من العذاب، فإن المرأة العربية ظلّت إلى اليوم حبيسة قفص العادات والرجعية.

على مر التاريخ، كانت الهستيريا تعرف على أنها مرض إنتقائي، لا يصيب إلا النساء! وذلك بسبب الرحم.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015