موقع (ساسة بوست)- يحكي التقرير الذي نشره موقع «إيه بي سي» الإسباني قصة الملكة زنوبيا التي هزّت عروش الممالك القديمة في فترة قصيرة، وتركت سيرة عظيمة لامرأة صنعت منها المحنة ملكة قوية.
كان أسوأ يوم عاشته الملكة زنوبيا هو يوم وفاة زوجها الإمبراطور أذينة عام 267، كان زوجها – كما سيكون بعد ذلك ابنها – ضحية صراعات أسرية على تولي الحكم. أرملة لديها طفل تواجه كل البؤس الإنساني، ورغم أن الوصية على العرش لم تكن تطمح لأكثر من أن تبقى على قيد الحياة فقد حوّلت مدينة تدمر لإمبراطورية هددت روما إلى أن استطاع قوات الإمبراطور أوريليان أسرها عام 272.
الأمومة مصدر القوة
مع زنوبيا شكّلت هذه الأرض الشقية – التي دُمّرت آثارها تقريبًا خلال الأعمال التي ارتكبتها «داعش» – قطعة جمالية ومصدر للقوة وبالطبع فجرًا سياسيًا نسائيًا في الشرق الأوسط.
وكما تصدّر نظام ذلك الوقت – الذي لا يبدو بعيدًا أو غريبًا – فقد كانت المرأة على هامش القرارات الأسرية والسياسية. مع ذلك وربما بسبب نزعة الأمومة الفطرية فقد تحدثت زنوبيا بقوة وبوضوح لتفرض إرادتها، وهكذا بدأت في تشييد تلك الإمبراطورية التي ستؤول لابنها وهب اللات.
ما إن دُفن أذينة وجففت زنوبيا الدموع حتى اقتادت القوات مرتكب هذا العمل الخسيس موينيوس – ابن أخي زوجها – وأكمل ابنها عامًا بالكاد حتى بدأ الحديث عن مملكته المستقبلية التي تحولت من تدمر المستقلة إلى الإمبراطورية الرومانية من مدينة تظللها أجواء سمحة للمعابد والميادين إلى قوة جديدة تثير رهبة واحترام جحافل روما، ورغم أن الفرس طمعوا في سوريا القديمة، إلا أنهم لم يتمكنوا من الوصل إليها أبدًا، ولم يسعهم سوى الإعجاب بها، ومضت زنوبيا تصنع المجد وتثبت أن السلطة لا تتعلق بالجنس، وإنما تتعلق بالرؤية.
ربما لم تكن تدمر لتصل إلى الخلود لو كان أذينة قد بقي على قيد الحياة، لقد صارت امبراطورية – رغم قِصر عمرها – بفضل تصميم زنوبيا، وتحولت تضحيات هذه الملكة إلى تراث فني وتاريخي للبشرية بأسرها. وبقيت بقايا المدينة السورية تثبت أن شغف المرأة قد يصل بها لآفاق لم يكن ليتخيلها الرجال. وهكذا في ظروف مشابهة على مر التاريخ سمح الترمّل للمرأة أن تؤمن بنفسها. وكان ذلك «العجز» الذكوري يحررها في الوقت نفسه من الخوف، ومن أن تعيش في صمت في كنف الرجل.
تقول الكاتبة: «حتى نصف قرن تقريبًا كانت هذه الرموز النسائية التي تتمرد على النظام الأبوي تُطلق صرخاتها بطريقة متقطّعة، ولم يكن هناك طرق متوازية تسير فيها هذه المطالبات بحيث يصبح تحقيقها محتملًا، ولم يمكن التنسيق بين هذه الجهود لتمضي في الاتجاه ذاته: إنهاء التلاعب النفسي بجنسنا الذي استمر ملايين السنين».
تدمر تتصل بروما
حين بدأ الإمبراطور فاليريان إحدى حملاته في الشرق الأوسط هزمه الفرس وأسروه. وهذا الحظ السيئ جدًا للإمبراطور الروماني سمح لأحد أبرز رموز تدمر، وهو أذينة، بأن يصبح ملكًا على المدينة.
وصار أمام الأرض التي تتبع الإمبراطورية الرومانية أحد اختيارين: أن تقوي صلاتها بروما، أو تواجه العنف من جانب الإمبراطورية الساسانية، وفي عام 250 دخل أذينة إلى المشهد بنموذج جديد في حكم تدمر.
في كتابه «بقايا تدمر» يقول الفيلسوف والكاتب المستشرق قسطنطين فرانسوا ڤولني (1757- 1820) «لم تكن تدمر مستقلة فقط، فقد سجّلت تحولًا في بنيتها من الحكم غير الدينية إلى النظام الملكي، وكان رمز هذا التحول هو أذينة، ولم يكن سبب صعوده إلى الحكم معروفًا على وجه التحديد، لكنه جاء على أثر الصراع بين الساسانيين والرومان الذين حاولوا استعادة الأراضي المفقودة في الشرق الأوسط، وكان حصوله على تلك الأراضي يعني حصوله على لقب إمبراطور أو ملك الشرق المُعترف به من روما».
تزوج أذينة مرتين، وأنجب من زواجه الأول وريثه الذي قُتل معه على يد ابن أخيه، وعاش طفله الثاني فابالاثوس الذي كان قد أكمل عامًا واحدًا ليكون وريثه الوحيد.
تدمر.. قطعة الجمال
بعد هذه المحنة، وبدافع من أمومتها سعت زنوبيا لأن تترك لابنها مملكة تثير الإعجاب. في عام 267 تولت الوصاية على عرش تدمر، وبعد ثلاث سنوات أُعلنت الملكة. لم تكن تبعية المدينة للامبراطورية الرومانية موضوعًا مُثارًا إلى أن استدعى الإمبراطور زنوبيا وابنها.
حين أمسكت زنوبيا مقاليد الحكم بدأت مشاريع قوية للتحصين – تقول المصادر: إن السور الذي كان يحمي تدمر كان يشكل دائرة قطرها 21 كيلومترًا – وبناء المعابد والمسارح والأعمدة التي ارتفعت لأكثر من 15 مترًا، وتحولت إلى رمز لإمبراطورية تدمر، وظلت أثرًا باقيًا منها. لذا كان التدمير الذي سببه احتلال (داعش) للمنطقة من أكبر الخسائر التي مرت بالإنسانية؛ إذ فُقد معها آثار فترة من أعظم الفترات في تاريخ الشرق.
الملكة العسكرية
أسهمت الصراعات الداخلية لحكم تدمر ليس فقط في تحرير تدمر وإنما في توسّع مدهش في أراضيها، وتركت زنوبيا في تاريخها سيرة لقدرتها التنظيمية والاستراتيجية العسكرية العظيمة.
الملكة التي قورنت في جمالها وذكائها بالملكة كليوباترا هزّت الروح المعنوية للرومان والفرس بحملاتها العسكرية، وقد حُكمت آسيا الصغرى باسمها، وأصبحت مصر في يدها عام 269.
حين تولّى الإمبراطور أوريليان حكم روما عام 270 شهد توسع تدمر تراجعًا، فقد اتجه الإمبراطور الغاضب من توسعات الملكة نحو مصر، ورغم أن الملكة استطاعت وابنها الفرار بحثًا عن ملاذ فارسي؛ فقد تمكنت الخيانة من الإيقاع بها عند نهر الفرات. وبقيت نهاية الملكة زنوبيا مفتوحة، فقد حكت المصادر التاريخية نهايات مختلفة، تقول بعضها: إنها أُعدمت، وتقول أخرى: إن الإمبراطور منحها العفو وسمح لها بأن تعيش مواطنة عادية في روما.