النساء والشارع: جدلية الاعتداء والإدانة
Laura Berger

feministconsciousnessrevolution- كان الشارع ولايزال يشكّل رعباً في حياة كلّ امرأة، فمنذ العبور الأول نحوه في طفولتنا نتعلّمُ الخوف منه. وقتها لا نعرف لماذا، لكنّ الصراخ المتكرّر علينا كلما خرجنا لأزقته أو تأخرنا عن الوقت المسموح للفتيات في البقاء فيه، ربطه في وعينا بشيءٍ ينبغي الخوف منه.

كبرنا وعرفنا أن الشارع خطير علينا فعلاً، وليس ذلك نتيجةً لأفعالنا؛ بل بسبب هويتنا كنساء، حيث نُستَبعَدُ من ملكية الفضاء العام، فلا نعبر الشارع إلا مُسرِعاتٍ خوفاً مما يمثّله من رعب، وإذا ما أثار وجودنا فيه غضب المالك (الرجل) فإنّنا عرضة للعقاب وللتهديد وللإدانة. قد تكون العقوبة على شكل اعتداء أو قد تكون محاسبةً ومساءلةً مصحوبةً بالتهديد والرعب، كما حدث معي.

فقبل سنوات كنتُ مدعوةً لمنزل صديقتي، وكان الهدف من الزيارة هو العمل على مشروعنا الدراسي. خرجتُ من البيت مبكراً لكي أعود قبل المساء، وأتجنّب التأنيب على التأخر.

وصلتُ الحيَّ الذي تقطنُ به صديقتي زوالا، حيٌّ جديد وسكّانه قلّة، ولأني لا أعرف مكان منزلها؛ كنّا قد اتفقنا أنا وهي على أنني في ساعة معيّنة سأكون واقفةً بالشارع الرئيسي بذلك الحي، وستأتي هي لتأخذني لمنزلها.

وصلتُ الشارع، وبمجرّد أن رحل التاكسي، أتى شابٌ يحمل سكيناً وأوقفني وبدأ يسألني أسئلةً عشوائية: ”إلى أين أنت ذاهبة في هذا الوقت من النهار؟، من هي هذه الفتاة التي ستلتقينها؟، لاتوجد فتاة بهذا الاسم هنا، أنتِ تنتظرين سيارة ستأتي لتُقلّك نحو إحدى بيوت الدعارة، كوني صريحة وسآخذك أنا بنفسي، إذا لم تظهر هذه الفتاة سأقتُلكِ..”.

كان الشارع خالياً تماماً من المارّة، منعني من التحرّك وخِفتُ من أن أتصل على صديقتي، فيعتقدُ أنني سأتصلُ بالشرطة، والتي على كل حال لن تأتي إلا بعد فترةٍ طويلة. قضيتُ أكثر من 20 دقيقة متجمّدةً في مكاني، لم أشعر برُعبٍ في حياتي مثل ماشعرتُ ذلك اليوم، قضيتُ مدّةً طويلة وأنا أستنجدُه وأبرّر لهُ أنني فتاةٌ “صالحة”، لم تدخل يوماً في علاقة مع رجل وكلّ وقتي أقضيه بالبيت أو الدراسة. كنتُ أعتقد حينها وعلى حسب ماتربّيت عليه، أن ذلك سينقذني وأنّ لبسي “المُحتَشِم” سيمنع أذيّتي.. أنني أنا من ورّطتُ نفسي بذلك، فالشارع هو ملكٌ للرجل، مساحتُه، وخروجي من المنزل هو بمثابة التعدّي على مُلكه.

مرّ شخصٌ على مايبدو كان على معرفةٍ به، فاستنجدَهُ هو الآخر كي يتركني، فسمح لي بالذهاب..

بكَيتُ لوقتٍ لا أعرف كم مدّته، لكنه كان كفيلاً بأن يجعل عيناي منتفِختان ورأسي يؤلمني.

كففتُ دموعي وتظاهرتُ بعدم حدوث شيء، ورغم علمي لاحقاً باسم ذاك الشخص ومكان سُكناه، إلا أنني لم أشأ أن أُطلِع الشرطة، ليس تعاطفاً معه؛ بل لأنّي أعرفُ أنه بتقديمي لشكوى ضدّه، ستعرفُ عائلتي بما حدث، ومعرفة عائلتي تعني الدخول في صراعاتٍ معهم، ستُفضي إما لمنعي من الدراسة أو لقيودٍ أخرى. وأنا لستُ مستعدةً للتنازل عن دراستي، فيكفي أنني لم أدرس بالجامعة كما كنتُ أحلم بل اكتفيتُ بالمعهد مكرَهةً.

فأنا وكالعديد من الصحراويّات مُنِعنا من الالتحاق بالجامعات، لأنها وبسبب عدم تواجدها بالصحراء الغربية (إحدى سياسات الاحتلال) فإنها تتطلّبُ منا السفر خارجاً نحو المغرب، وبالتالي العيش بعيداً عن عوائلِنا، وهذا مايرفضونه.‏

يتعزّز هذا الرفض بالوصم الذي يُصاحب النساء اللواتي يدرسن بعيداً: “عاهرات؛ بمجرّد تجاوزهنّ المدن الصحراوية، يفعلن مايحلو لهنّ، ..”، إضافةً للأفكار الأبوية المرسَّخة، فنحنُ النساء مآلُنا المطبخ وتربية الأطفال على كلّ حال. لذلك لايُنظَر لدراستنا إلا ككماليات وليست ضروريات. وبالتالي فإنها دائماً على شفا حفرةٍ من المنع والتوقيف لأسباب جاهزة لاتحمل بداخلها أي اكتراث لرغبتنا وطموحنا ومستقبلنا.

ويستغل الاحتلال هذه السياسات الأبوية في التضييق أكثر على الصحراويات والصحراويين، ليس فقط بجعل الجامعات في المغرب بل أيضاً في سياسة الاقصاء والتهديد والاعتقال والقتل التي يشنّها ضدّهم وهذا مايؤدّي لمزيدٍ من القيود من قبل عوائلنا.

أحياناً كثيرة أفضّل أن أحتفظ بذاك الأمل المزيّف الذي يخبرني أن هنالك احتمالية أن تقف عائلتي إلى جانبي، أعلم أنه مزيّف لكني أحتاجه كي أعيش معهم وأطيقهم، مادام ليس في استطاعتي الاستقلال عنهم.

العلاقة بين أفراد عوائلنا، الأبويّة في نظامها، مسمومة، مبنيّة على ثنائية المتسلِّط والمتَسَلَّط عليه، العنف يُعاد إنتاجه، والصمت يمرّر من الأم للبنت، ولأنك تعرفين أنّ محيطك مهيّأ لحماية الرجل وإيجاد تبريرات له، تنئين بنفسكِ عن الحديث عن مايحدث لك في الخارج عن الصراعات مع أقاربك، والتي ستخرجين منها بتهمة أنك السبب في ماتتعرّضين له على كل حال، إن لم يكن لباسك فإنّه بالتأكيد توقيت خروجك، أو ربما طريقة مشيتك، أو حديثك أو ضحكتك، أو وجودك بذلك المكان، وحتى إذا ما قرّرتِ فَرَضاً أنك ستحدّثينهم؛ فإنك ستتأكّدين أولاً من أنّ كل ذلك كان وفق معاييرهم وقت الاعتداء عليكِ.

ستتعبين في النهاية من التفكير في كلّ ذلك وستفضّلين كفّ دموعك عن التحدّث، لأن السبب سيكون دائماً هو أنتِ.

Laura Berger

Laura Berger 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن نتحول بين ليلة وضحاها إلى دعاة سلام! والسلام المقصود هنا هو السلام التبادلي اليومي السائد في الخطاب العام.المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015