سارة حبيب/ آلترا صوت- تعرّف النسوية في المعاجم على أنها “مناصرة حقوق المرأة على أساس المساواة بين الجنسين”. لكن هل فهم النسوية هو حقًا بهذه السهولة، كقولنا إن الماء مكوّن من هيدروجين وأوكسجين؟! إن نظرة عامة على تاريخ وممارسات النسوية وردود الفعل تجاهها تثبت أن الجواب “لا”. النسوية ليست ولم تستطع أن تكون حتى الآن بالوضوح المطلوب، و لطالما افتقدت سمات معركة واضحة بين أبيض وأسود على أرضٍ حياد.
لا بدّ أن النسوية مثل الكثير من الأفكار كانت قد بدأت بنقائها التام وبأهداف نبيلة، لكن ثمة انحراف عن الخط حدث في مكان ما، وضاع الكثير من جوهر النسوية بين المبالغات والضغينة وسوء الفهم. يمكن القول إن الكثير من الناشطات النسويات يبدأن معركتهنّ بطريقة معاكسة. يبدو تمامًا كما لو إن “النسوية”، ويمكن هنا التحفظ على نقاء المصطلح، لا تبدأ من محاربة العدو بل من صنعه ثم محاربته أو محاربة ما تراه فيه بمعنى أدق، كما أنها كثيرًا ما تتجه إلى الحدّ الأقصى في معاداة الرجل بما يوصل لعنفٍ مضاد. لكن هذا لا ينفي بالطبع المظالم التي وقعت على المرأة عبر التاريخ تحت ستر دينية، مجتمعية، اقتصادية أو حتى دونما تبريرات.
هل بدأت النسوية بسبب رجل؟
في كتابها “الجنس الآخر” تقول سيمون دو بوفوار جملتها الشهيرة “لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك”. ثم تمضي حياتها محاولةً ألا “تصبح كذلك”، وأن تعيش وفق ما تتصوره، أو وفق ما صُوّرَ لها، عن ذاتها، عن المرأة، وعن الحرية. ولكن واحد من الأسئلة التي لا مفر من طرحها هو هذا: هل صارت بوفوار ما صارته بسبب جان بول سارتر؟!
يورد كتاب “وجهاً لوجه” لِـ هازل رولي حادثة بسيطة قد تعني الكثير عن شرارة النسوية الأولى في ذهن بوفوار عام 1946، “سألها سارتر ذات مرة: ما الذي يعنيه لك كونك امرأة؟ أجابت بوفوار أن ذلك لا يعني الشيء الكثير بالنسبة لها. فهي مثل أصدقائها الذكور تتمتع بامتيازات و لم تشعر أبدًا بأنها أدنى بسبب أنوثتها. ومع ذلك أصرّ سارتر: إنكِ لم تتربي بالطريقة التي تربى بها الولد، ينبغي أن تنظري في الأمر من زاوية أوسع”.
إذن يبدو كما لو إن رائدة النسوية والمرأة الأكثر تحررًا من قيد التعنيف المجتمعي، حسب ما تشي سيرة حياتها، كانت قد فتحت عينيها عنوة على واقعها بدفعٍ من “رجل”. رجل ربما أراد أن يوسّع أفقها ليتسع أفقه هو، لأن حريته كانت تستلزم إلى حد ما حرية بوفوار. إذ كيف يقنعها بأحقيته في خوض هذا التعدد الهائل من العلاقات إذا لم يقنعها بدءًا بأحقيتها في خوض ما تشاء من علاقات؟ هل خُدعت بوفوار يا ترى؟ ربما.. لكنها كانت خدعة حميدة لمصلحتنا.
لماذا نكون نسويين؟
يمكن القول، دون تعميم مجحف، إن الكثيرات ممن يحملن لقب “فيمينست/ Feminist” هنّ ضحايا علاقات عاطفية بائسة وفاشلة. بعضهن خانهن رجل ويعتقدن أن النسوية ساحة ملائمة لمعركة ضد الرجال، ضد صورة/تخيل الرجل الذي خانهن بالدرجة الأولى. بعض النساء يردن ملء فراغ عاطفي أو اجتماعي بمعركة حامية ظاهريًا، باردة على أرض الواقع. بالمقابل، يجد بعض الرجال في النسوية منبرًا ملائماً لتبرئة أنفسهم من تهمة “ظلم المرأة” حتى لو دون قناعة عميقة، وآخرون يستخدمونها كمطيّة للوصول إلى مزيد من النساء. أنت نسوي، إذن أنت مخلص، متحرر، موثوق، إلى آخره من الكليشيهات التي تقفز إلى ذهن المرأة بعملية ربط خادعة. البعض اعتنق النسوية من باب الموضة أو “البريستيج”، من الأفضل في مجتمع حديث أن تكون نسويًا على أن تكون رجعيًا، يبدو هذا أكثر عصريّة.
لكن بالطبع لا يمكن ولا يجوز إنكار وجود نسبة جيدة من المؤمنين حقًا بفكرة النسوية الأصل، وهم، رجالاً ونساءً، متحمسون للفكرة ويحاربون لأجل مساواة في مجتمع أفضل. لكنهم غالبًا متهمون على مبدأ “الصالح يطيح بالطالح”. في مجال الأدب النسوي العربي يمكن مثلاً الإشادة بأعمال فاطمة المرنيسي. تقول في كتابها “شهرزاد ليست مغربية”، “لن يتحول العربي المقهور والمهان والمخدوع إلى سيد نفسه ما لم ترضعه امرأة هي سيدة نفسها”. علمًا أن فاطمة المرنيسي كتبت أيضًا برد فعل على واقعها ذاته كامرأة محرّرة من “الحريم”.
في الستينيات ظهرت كذلك مجموعة من النسويات اللواتي استطعن فعلاً تطبيق مبدأ الفصل وتخليّن عن دورهن كربات بيوت وعشن بدون رجل “أبدي”. كرسن وقتهن لفنهن أو للكتابة مثلاً، مع بضع علاقات عابرة “كعلاقات الرجال”. وذهب البعض منهن إلى درجة الإيمان بأن فكرة الحمل والولادة تحوّل المرأة إلى مدجنة فتخلين عن الأمومة كذلك. والأمثلة كثيرة حتى في البلاد العربية. ولا بدّ من أن هذا مرتبط بشكل أو بآخر بظهور اتجاه “نسوية الأجر مقابل العمل المنزلي” ضمن التيار النسوي الماركسي التي يعتبر أن العمل المنزلي وفعل الولادة أو إنتاج البشر هو مكان استغلال المرأة.
في هذا السياق، نشرت النسوية الأميركية بيتي فريدان عام 1963 كتابها “اللغز الأنثوي” الذي أظهرت فيه عدم رضى الكثير من ربات البيوت عن حياتهن وبناء على ذلك استطاعت، إلى حد ما، تحطيم أسطورة “ربة المنزل” كامرأة سعيدة مكتملة حسب ما يتخيله المجتمع عنها. تعتقد بيتي فريدان أن النساء قد تم إجبارهن اجتماعيًا ليصبحن ربات بيوت، ولكن هذا الدور، كربة منزل وزوجة وأم، لا يشكل كفاية نفسية للمرأة ولا يغنيها عن باقي أدوارها، بل تجعل محدوديته المرأة عرضة لفقد هويّاتها وسعادتها.
المجتمعات الحديثة.. كم هي حداثية؟!
في المجتمعات الحديثة يبقى موضوع النسوية وحقوق المرأة شائكًا، ساخنًا وغير منتهٍ إلى حلول. كما لو إن صفة “الحديثة” تفقد تعميمها المفترَض و يصح تحويرها إلى “الحديثة فيما عدا موضوع المرأة”.
تعاني المرأة الشرقية خصوصًا والمرأة في البلدان المحافظة عمومًا مما عانته المرأة على الدوام دون تقدم ملحوظ في كثير من الجوانب، ويتأرجح اكتساب الحقوق بين المعدوم والمتوسط دون استحقاق كامل، وبشكل متمايز بين مجتمع وآخر. احتفلت المرأة السعودية مؤخرًا بحق قيادة السيارة. بينما يُعتبر هذا حقًا أوليًا مضمونًا، وغير ذي قيمة، في بلدان أخرى. ما يشكل استفهامًا أساسيًا حول الطبيعة الاجتماعية والسياسية لبلاد تنتج مثل هذه الظاهرة.
يمكن بمقارنة بسيطة تعتمد حتى على حكايات الجدات القول إن امرأة الستينيات مطلع السبعينيات في سوريا والعراق ومصر والكثير من البلاد العربية كانت أكثر تحررًا اجتماعيًا مما هي عليه الآن في بعض المجالات وسار الأمر للأقلّ بدل الأكثر، حالات سير معاكس مشابهة سُجلَّت في الفرق بين نساء أفغانستان وإيران بين الماضي والحاضر لكن باختلاف أكثر حدّة. يعود ذلك إما لتغيّر أيدولوجيات القوى التي تستلم السلطة فيسير البلد اجتماعيًا على خطّها بعمى، أو بسبب تطعيم الحكم بالدين، أو كردّات فعل عصابية على الحروب والهزائم.
الكثير من الأمثلة في عديد المجالات توضح أن البشر لديهم مشكلة حقيقية مع المسميات. يمكن لهم أن يمارسوا الكثير من الأشياء لكن تسميتها بأسماء محددة لها مرجعية قد تسبب نفورهم. قد يلتقي حبيبان مثلًا بشكل يومي في بيت منعزل، لكن تصنيف “مساكنة” يثير حفيظتهما، تمامًا كما يثير حنق مرتكب “جريمة الشرف” صفة “قاتل”.
النسوية على وجه الخصوص نالت حصتها من الرفض والتهكم، وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بصفحات تسخر من النسويات والنسوية دون فهم حقيقي لماهيتها. يربط الكثير من الأفراد النسوية بالعهر، بالتحرر السافر من كل قيد، بينما يرى فيها آخرون تحدياً للدين، لا سيما النسوية اللادينية. ويصوّر البعض النشاط النسوي على أنه محض حركة انتقامية من كل رجل حي. كثيرون كذلك يعتبرونها “فزلكة” زائدة ومجرد باب للتبجح الثقافي، ويرى الكثير من العرب فيها مدخلاً غير مقبول لتقليد الغرب “السافر”.
بالمقابل قد يطبّق البعض مبدأ المساواة في حياتهم دون ارتكاب أي مظالم تحيّزية ضد المرأة لكن يرفضون مع هذا اعتناق اسم “فيمينست” كما لو إن الاسم تهمة أو لوثة مجتمعية. في لقاء صحفي معها سُئلت الممثلة ميريل ستريب: “هل أنتِ نسوية؟” أجابت: “لا، أنا لا أستخدم هذه الكلمة وأؤكد حبي الرجال” كما لو كانت تدفع عنها تهمة. هل يكون الحل مثلاً في اختلاق اسم أكثر تخففًا وأقل ارتباطًا بمرجعيات مجتمعية تراكمية؟ ربما شكل من هذا التحايل قد ينفع.
خلف الأقنعة
تحاول المرأة غالبًا أن تثبت نسويتها للرجل قبل حتى أن تثبتها لذاتها. تبدو كما لو أنها تحتاج لصك براءتها من القيد المجتمعيّ أن يكون مختوماً من الرجل.
المرأة التي يعطيها شريكها حقوقها تظهر غالبًا أكثر تساهلاً فيما يخص المطالبة بحقوق الأخريات. ونسبيًا تنطوي جمعيات حقوق المرأة على الكثير من العازبات أو اللواتي تجاوزن سن الزواج أو المضطهدات في علاقات سابقة. وهكذا تصبح المعركة شخصية أولاً و من ثم عامة.
في المجتمعات الشرقية خصوصًا تبدو المرأة الشرقية، في الغالب، كما لو أنها تستمد قوتها من الرجل ذاته التي تحاربه أو تدعي محاربته. وتأتي الأمثال الشعبية لتكرس فكرة مفادها أن وجود الرجل بأي شكل، بأي تشوه وبأي درجة، أفضل من عدم وجوده. و قلما يوجد امرأة بإيمان حقيقي أن الحياة تكتمل فعلياً بدون رجل.
كذلك يبدو أن الكثير من النسويات يعانين من بعض الانفصامات ومن تخبط عميق بين ما تحققه النسوية وما تسرقه. في حافلة مثلاً، تتمنى كل امرأة واقفة أن يعطيها رجل ما مقعده؛ فكرة بسيطة تعارض مبدأ النسوية القائل بالمساواة التامة.
يمكن في الحديث عمّا يظهر وما يخفي الإضاءة على تخبطات سيمون دو بوفوار ذاتها. المرأة التي كتبت عن كون المرأة كائنًا تامًا بدت دوماً كما لو إنها نصف سارتر وبموته لم تعد هي ذاتها أبداً، حتى أنها لم تكتب بعده سوى كتاب واحد غير نسوي “وداعاً سارتر” وماتت بعد ذلك بمدة قصيرة.
تُظهر سيرة بوفوار أنها قلّما كانت المرأة القوية التي نتخيلها أو نتمناها في امرأة “نسوية” حرة مستقلة. الواضح أنها ظلّت طوال حياتها امرأة ضعيفة في داخلها إلى حد ما؛ يبكيها، أكثر ما يبكيها، كل ألم يصيب سارتر، بينما تبدو غافلة قسراً عن الألم الحقيقي الذي يسببه غياب سارتر أو تغييبه المتكرر لها. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُضعف الحب جذوة القضايا المصيرية في داخلنا؟ هل بوسعه أن يعمي أكثر امرأة نسوية بالدرجة ذاتها التي يعمي بها أكثر امرأة مستكينة؟ وهل يتعارض الحب مع نيل الحقوق؟ كثيراً ما تكون هذه المعركة حامية بين القلب والعقل.
من ناحية أخرى، إن من يقرأ تفاصيل حياة بوفوار وسارتر وتشعبات علاقتهما يخلص إلى نتيجة شبه أكيدة تتبدى ملامحها بقسوة. إن ما أرادته بوفوار قد لا يكون حرية المرأة أو حقها بممارسة ما يمارسه الرجل. بوفوار حاولت كثيرًا أن تكون مرآة لسارتر. تعددت علاقاتها كرد فعل على تعدد علاقاته وبتشجيع منه. بدأت بالبحث في موضوع النسوية لأنه لفت نظرها لذلك. لقد أرادت بوفوار ليس فقط أن تهرب من خيانات سارتر بخيانته، بل أن تثبت له كذلك أنها قادرة على أن تكون ندّاً له في الفكر والسلوك. كان مرارًا قد أوحى لها أن الإبداع إنما يتطلب الحرية قبل كل شيء، كما لو أنه حدد لها الطريق الوحيد لتكون مبدعة بقدره أو أكثر منه، ولو كان هذا الطريق يمرّ بتجردها من حقها النسوي الأول، أي الاحتفاظ بحب الرجل الذي أحبته حتى النهاية وأحبته لدرجة تقمصه والتغير لأجله، التغير ظاهريًا بمعنى أدق. في داخلها كانت بوفوار تتمزق من الغيرة والرغبة المكبوتة بالتملك “غير النسوي”، وحين يمضي سارتر الوقت مع أخريات تهرب بتناول جرعات من الفاليوم والويسكي وتبكي بكاء مرّاً.
ليست ثمة مهرب من السؤال: هل كانت بوفوار لتكون على ما كانته من تعدد العلاقات والانفتاح للأقصى لو قدم لها سارتر حياة مستقرة بين طرفين لا أكثر؟! ربما ليس ثمة من سبيل لمعرفة ما ستكون عليه الأمور لكن التساؤل يطرح ذاته بقوة لا يمكن ردعها.
متلازمة ستوكهولم
واحد من ملامح اللحاق بنزعة النسوية هي التشبه بالرجل، العدو المفترض، إذ كثيرًا ما تتخذ المرأة النسوية صفات مصنفة كذكورية وتنسى أو تتناسى أنوثتها كما لو أنها تتخيل فصلًا لا يجوز ردمه بين النسوي والأنثوي. كثيراً ما تتخلى النسويات عن التبرج، عن الثياب الأنثوية، وكل ما يعتبرن أنه يظهر أنوثتهنّ فيضعفهنّ أو يضعف موقفهنّ. لكن ما تنادي به النسوية افتراضًا ليس نبذ الجسد ولا احتقار الرغبة بالجمال، بل التعويل على بناء الفكر ضمن عملية بناء شخصية تامة لا يشوهها بعض الجمال الجسدي.
تصبح المرأة “النسوية” نزقة أكثر وهجومية أكثر، وتميل غالباً إلى التعميم “كل رجل هو عدو”، “كل رجل خائن”، “كل امرأة ضحية”، وما إلى ذلك، ويصل الأمر أحيانًا ببعض النسويات إلى مقاطعة الرجال نهائيًا. كما إنهنّ كثيرًا ما يصبحن في مواقع القيادة متسلطات ومهووسات بالتحكم، للمفارقة بالرجال والنساء على حد سواء. ربما لتعويض كونهن مُتحكمَّاً بهنّ لكن برد فعل مبالغ به، تماماً كما قد يحدث أن يتحول السجينُ جلاداً أكثر قسوة من نظرائه في عملية تعويض مقلوبة، أو كما ينتهي المرء إلى أن يشبه عدوّه.
في أعماقها يبدو كما لو إن المرأة النسوية، وغير النسوية، تعتقد برواسب مجتمعية أن الرجل هو الشكل الأكثر تفوقاً من الإنسان وأن الرب “ذكر”. فتحاول قهر أنوثتها بالتحول رجلاً أو “بين بين” في أفضل الأحوال، فيما يتماهى جزئياً مع النظرية الفرويدية “للحسد القضيبي” كما تشير بعض الدراسات النفسية. ربما يكون الرد هنا أن هذه ليست بنسوية حقيقية بل نسخة ممسوخة عما يجب اتباعه. وهذا ممكن طبعاً. لكن الأمثلة كثيرة عن هذا الذهاب للأقصى تستوجب العجب. من هذا كلّه يمكن الخلاص إلى أن النسوية “غير السليمة” للمرأة تتجه في اتجاهين، إما تشبّه استعراضيّ بالرجال، أو كراهية بالغة وغير مبررة لجنس الذكور ككل.
لكن ما يسهل إدراكه أنه في عمق الأمر ليس ثمة من فرق جوهري بين أنثى تتمحور حياتها حول إرضاء الرجل، سواء بتغيير شكلها أو الاستسلام لاستكانتها، و بين نسوية تتمحور حياتها حول مناصبة العداء للرجل؛ فكلا المرأتين من حيث المبدأ يشكّل الرجل محور أفكارها. تقول الحكمة “إن عكس الحب ليس الكراهية وإنما اللامبالاة” و ينطبق هذا هنا.
ضد النسوية
لا يقتصر الأمر على الرجال في معاداة النسوية. الكثير من النساء كذلك يجدن فيها عدوًا أخطر من الرجل ذاته. بعض النساء يعارضنها لأنها تضعهن في موقع “الضحية” فتؤكد ضعفهنّ بدل أن تنفيه. بينما تعتقد أخريات أن النسوية تحاول حرمانهنّ من “السلطة داخل المنزل” وأنها ستؤدي إلى سحب مكانة “قائدات المنزل والأولاد” من تحت أقدامهنّ. كذلك تخاف الكثير من النساء أن يفضي تحقق المساواة فعليًا إلى تخلي الرجال عن مهمة حمايتهن. بالمقابل، تؤمن الكثيرات أن “النساء اللواتي يطالبن بالمساواة يتخلين عن تفوقهن”، لكن هذا لا يعدو كونه تحيّزًا من نوع آخر ضد الرجال ويخلق مزيداً من التخبط.
هل نجد الحلّ في الميثولوجيا؟
إن مجمل هذه الملابسات عن “ما هي النسوية و ما لا يجب أن تكون” يؤدي إلى خلط واضح في المفاهيم وتذبذب في الماهية، بما قد يفضي غالباً إلى معاداة النسوية ضعفاً مضاعفاً إما من الرجال والنساء غير المنتمين إليها، أو ممن لديهم تصور أفضل عن حياة إنسانية مشتركة قوامها التكامل وليس المساواة.
ربما يكون الحل بإعادة خلق كائن الميثولوجيا الذي تحدث عنه أفلاطون في تفسيره للحب. الكائن “نصف امرأة/ نصف رجل” الذي فصَلته الآلهة اثنين لإضعاف قوته. ماذا لو استطعنا استعادة قوتنا القديمة المسلوبة ليس فقط بمعنى التكامل مع كائن آخر من الجنس المعاكس، بل كذلك بمعنى الاتصال مع الجنس المعاكس في داخلنا. أي أن يتصل الرجل أحياناً مع جانبه الأنثوي بما يخفف “جبروته” ويفضي لفهم أفضل لكينونة وخصوصية طبيعة المرأة. وأن تحقق المرأة توازناً تدرك معه متى تكون قوية ومتى تكون رقيقة، لا تتخلى عن أمومتها ودورها التقليدي لكن لا ترضى بالمقابل أن يستعبدها، ترتدي فستانًا وقت تحب وبنطالًا إن لزم الأمر، فتتماهى وتنتقل ذهاباً إياباً دون تطرف بين تعدداتها.
في هذه المحاولة لإعادة الاتصال مع أنصافنا الداخلية الضائعة يمكن الاستعانة ليس فقط بمشاعرنا الذكرية/الأنثوية بل كذلك بأدمغتنا المركّبة. إذ تشير دراسة حديثة إلى أنه ما من أدمغة “مذكرة” وأخرى “مؤنثة”، بل يمكن نسب معظم الأدمغة البشرية لخانة تسمى “التباين الكبير” لاحتوائها خصائص أنثوية وذكورية في آن معًا؛ ميزة لا جنسانية أخرى يمكن لنا الاستفادة منها.
إن الإله/ الحياة، أو أيًّا يكن اسمه/اسمها، لن يستطيع مرة أخرى فصل كائن متكامل يشكلّه رجل وامرأة مندمجان في عملية بناء مجتمعي متكاملة، أو كائن رجل وامرأة في واحد دون مبالغات في العداء أو إشعال معارك في غير مكانها. لتكن المرأة حرة بذاتها، فيما تمارسه وتنجزه وتبنيه ثم بوسعها بعد ذلك أن تكون نسوية أو لا تكون.