يارا نحلة/ المدن- إختار قاموس ميريام ويبستر الأميركي “نسوية” (feminism) كلمةً للعام 2017. فقد إرتفعت هذا العام نسبة البحث عنها بحوالي 70% مقارنةً بالعام الماضي. أما أسباب هذه الطفرة اللغوية، فقد أعادها القاموس إلى أحداثٍ سياسية وإجتماعية شهدها العام، أهمها إنتخاب ترامب رئيساً لأميركا وما تبعه من تحركاتٍ إحتجاجية إتّخذ بعضها بعداً نسوياً، لا سيّما “المسيرة النسائية” التي قامت في واشنطن”.
من جهةٍ أخرى، لقي مفهوم النسوية هذا العام إهتماماً كبيراً من قبل الشاشة الصغيرة، وقد “تضاعفت نسبة البحث عن مصطلح “نسوية” بعد إطلاق مسلسل “The handmaid’s Tale”، وفيلم “Wonder woman”،” وفق القاموس. والحال أن هذين العملين ليسا الوحيدين اللذين يتناولان قضايا نسوية، فقد طغى النقاش النسوي على المشهدين الدرامي والكوميدي للمسلسلات الأميركية التي أطلقت هذا العام. حتى أنه تمّ الرجوع إلى كلاسيكيات الأدب والسينما النسوية لصناعة نسخات عصرية منها. وقد إستعاد كلّ من نيتفليكس وهولو، من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، روايتي the handmaid’s tale وAlias Grace للكاتبة النسوية مارغريت آتوود. وقد لقي المسلسلان نجاحاً لافتاً على المستوى الجماهيري والنقدي.
The Handmaid’s Tale
منذ ثلاثين عاماً، كتبت آتوود في روايتها الديستوبية The Handmade’s Tale عن مجتمع “جيلاد” الذي عصفت به الحرب والكوارث البيئية، ما أدّى إلى إنتشار العقم بين المواطنين. وفي محاولة لإعادة الاستقرار والتناسل، إستولى على “جيلاد” نظام بطريركي توتاليتاري يستعبد النساء ويعتبرهن ملكاً للدولة، كما يختزل المرأة في رحمٍ لحمل الأطفال. وبعد خمسة أعوام على صدور الرواية التي لاقت نجاحاً باهراً، تمّ إطلاق فيلم مستوحى منها. إلا أن الفيلم، الذي تلا الرواية وسبق المسلسل، لم ينل النجاح الذي ميّزهما. وأحد التفسيرات التي قدّمها النقاد عن ذلك هو أن المحتوى النسوي كان فوق قدرة إحتمال السينما الهوليوودية في وقتها.
فقد واجه منتجو الفيلم صعوبات جمّة في إيجاد استيديو يقبل “لمس” هذا العمل، أو ممثلة تجرؤ على لعب دور “Offred”، شخصية الرواية الأساسية، التي تنقلب حياتها رأساً على عقب عند فرض ديكتاتورية “جيلاد”، فتتحوّل من امرأة عصرية عاملة ومستقلة، إلى خادمة لدى أسرةٍ نافذة سياسياً، مهمتها الوحيدة هي إنجاب طفل لهذه الأسرة. وقد عرض المنتج سيناريو الفيلم على عددٍ كبير من الممثلات الأميركيات، إلا أنهن رفضنه جميعاً، خشية أن تقترن أسماؤهن بعملٍ صريح ومباشر بنسويته إلى هذا الحدّ. وقد كتب الصحافي الكندي شيلدون تيتيلبوم في العام 1990 أنه “خلال عامين ونيف، دقّ المنتج كل أبواب شركات الإنتاج والإستديوهات، إلا أن المدراء كانوا يرفضونه دائماً بذريعة أن فيلماً عن النساء ولهن سيكون محظوظاً إن وصل إلى الشاشة”.
وحين تمّ تنفيذ الفيلم في النهاية، خضعت صناعته للمعايير السينمائية الهوليودية التي جاءت على حساب الجودة الفكرية والعمق العاطفي والسياسي للرواية الأصلية. فبينما تروي “Offred” أحداث قصتها في الرواية، يضحي صوتها الداخلي أحد أركان الشخصية وأداتها الوحيدة للمقاومة في عالمٍ أنزل الصمت على النساء. إلا أن هذا الصوت يكاد يختفي في الفيلم، وتختفي معه ملامح إنسانيتها من قوةٍ أو ضعف، محبّة أو كراهية، متحولّةً إلى شيءٍ مجرّد من أي كيان معنوي، أي عكس كلّ ما تمثّله الشخصية الأصلية. إلا أن صناع المسلسل عالجوا هذه الثغرة، فردّوا للبطلة صوتها، ما أدّى إلى إختلافٍ جذري في طبيعة العمل وقيمته السياسية، وقد أضحى هذا المسلسل رمزاً للحركة الإحتجاجية النسائية ضد ترامب.
Alias Grace
أما Alias Grace، فيمكن إعتباره هو الآخر عملاً سابقاً لعصره. فبعيداً من الأنظمة والديكتاتوريات، يغوص المسلسل المؤلَّف من ست حلقات، في أعماق اللاوعي الأنثوي بكلّ ما فيه من رغبات وعدوان. وهذه القصة ترويها أيضاً الشخصية الأساسية، سجينة مجرّدة من حريتها هي الأخرى، قضت سنوات طويلة خلف القضبان بسبب تورطها في جريمة قتلٍ لم تتضح ملابساتها.
فغرايس التي عاشت قبل السجن كخادمة مجهولة الإسم، لم يعرها المجتمع أي إهتمام، أضحت فجأة محطّ فضول وأنظار كلّ من يحيطها، وكأنهم يلاحظون وجودها للمرة الأولى، وذلك لمجرّد تحوّلها إلى قاتلة. فالجميع يريد أن يعرف ما طبيعة هذه القوة الميتافيزيقية التي دفعت بأنثى بهذا الضعف والهامشية إلى إرتكاب عملٍ بهذا الحجم والعنف. إلا أن غرايس كانت قد فقدت ذاكرتها وكلّ ما يتعلّق بالحادثة، ما ساعد في إدانتها. وفي مواجهة التهم والتساؤلات، إلتزمت غرايس الصمت، كنوعٍ من المقاومة ضدّ هذا الفضول البرجوازي، وإحتفظت بالحقيقة في أعماق لاوعيها، بانيةً حولها الجدران، ومتمنعةَ عن منح العالم شرف حلّ لغزها.
كذلك، إستحوذ لغز غرايس على إهتمام معالجٍ نفسي شرع في محاولة فكّ شيفرتها السيكولوجية. إلا أن غرايس أظهرت آليات المقاومة نفسها تجاه هذه النظرة الذكورية التي جاءت لتحلّلها، ولتعرّيها كما فعلت كثيرات قبلها، فحرمته من أي إعتراف بالذنب، البراءة أو الجنون. وحين بدأت ملامح اللغز تتكشف، بدا الطبيب غير قادر على إحتمال أوزار هذا اللاوعي الجامح، فهرب!
She’s Gotta Have It
كما إحتلّت قضايا المرأة الأفريقية الأميركية، مساحة إستثنائية في الشاشة الصغيرة في الفترة الأخيرة. وقد إستعادت شبكة “نيتفليكس” مجدداً، من سينما الثمانينات، أول عمل للمخرج سبايك لي، وهو فيلم “She’s Gotta Have It” الذي أحدث ثورة في تصوير الجنسانية السوداء في الشاشة. فالفيلم الذي تحوّل إلى مسلسل من عشر حلقات، يتحدّث عن امرأة سوداء عشرينية (نولا دارلينغ)، تسعى إلى إثبات نفسها كفنانةٍ صاعدة وتكافح من أجل كسب عيشها والحفاظ على إستقلاليتها، في مدينةٍ تشهد طبقتها الوسطى إقصاء إقتصادياً ممنهجاً. وإلى جانب رسمها الذي تكرّسه “لإكتشاف الجسد الأنثوي الأسود”، تحاول نولا إكتشاف جسدها الخاص، برغبته وقلقه، عبر مواعدة ثلاثة رجال مختلفين، بالإضافة إلى امرأة.
وبالرغم من مرور ثلاثة عقود على إبتكار شخصية نولا دارنلينغ، رأى المخرج أنها لا تزال شخصية معاصرة، بل ومثيرة للجدل. وقد أشار لي في إحدى مقابلاته إلى أن المرء يرى اليوم مزيداً من النساء مثل نولا، أي اللواتي يحاولن التوفيق بين إستقلاليتهن وبين عدد من الشركاء، “إلا أن الأحكام التي يطلقها عليهن المجتمع ولا سيما الرجال، لم تتغيّر بالضرورة”. أما ما أتاح نقل هذا العمل إلى الشاشة الصغيرة، فيعيده لي إلى الحضور النسائي المتنوع عرقياً في شركة “نيتفليكس”. فقد فهمت النساء السوداوات العاملات في “نيتفليكس” قيمة العمل الثقافية، في حين أن معظم الغرف التي يتمّ فيها إتخاذ القرارات الإنتاجية تفتقد إلى التنوع العرقي.
Dear White People
لكن العمل الذي قدّم الموقف السياسي الأبرز والأكثر جرأة في “الدراما السوداء” هذا العام، هو مسلسل “Dear White People”، الذي تبدو السخرية واضحة في عنوانه. فبأسلوب كوميدي ساخر، يعرّي المسلسل واقع العنصرية المستترة في أعرق جامعات أميركا وأكثرها تقدمية. فبعدسةٍ ذكيةٍ، إخترق صناع المسلسل ستار شعارات التنوّع الثقافي الذي تتنكر به المؤسسات التربوية، ليسلّطوا الضوء على الإمتيازات التي يتمتّع بها الطلاب البيض دون غيرهم، لا سيما الذكور منهم.
ومن خلال الشخصية الأساسية، وهي سام وايت، طالبة وناشطة سوداء لها برنامج إذاعي ساخر في الجامعة تنتقد عبره الممارسات العنصرية، يُظهر المسلسل ما تتعرّض إليه النساء السوداوات من إضطهادٍ مزدوج على خلفية العرق من جهة، والجنس من جهة أخرى.
يضع المسلسل ممارسات البيض وعاداتهم تحت المجهر، ويسخر منها بشكل صريح، وهو ما أثار حنق الكثير من المشاهدين، لا سيّما البيض منهم الذين إتهموه بالعنصرية العكسية. أمّا ردّ سام عبر برنامجها الإذاعي فكان المزيد من السخرية.