أنجيل الشاعر/ جيرون- بعد مرور عشرات العقود على حركات تحرر المرأة، والغلو في الصيحات والشعارات الرنانة التي تتناسب طردًا مع تطور الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ ما زالت المرأة تخضع لشروط قانونية وأعراف اجتماعية تعيق إمكانات تحررها، على جميع الأصعدة في الحياة العامة، وما تزال المرأة تخضع لانتهاكات تمسّ إنسانيتها، تحت مسميات حقوقية وأعراف اجتماعية يعترف بها جميع أفراد المجتمع، بمن فيهم المرأة ذاتها، كحقها في “بيت المقاطيع“.
قد يخفى على بعض القراء والقارئات معنى “بيت المقاطيع”، لأنه مصطلح محليّ خاص بالبيئة الدرزية، في جبل حوران (محافظة السويداء)، وبيت المقاطيع غرفة واحدة (مقطوعة) هي الأخرى من منزل العائلة؛ يسجلها الأب في وصيته لإناثه (بناته وأخواته وزوجته) مهما بلغ عددهن، قد تكون من دون مطبخ أو حمّام وقد تكون مصحوبة بهما، بحسب الوضع الماديّ للذكر الموّرث، لا تُسجّل تلك الغرفة قانونيًا بأسمائهن؛ إذ ليس لهن سوى حق الانتفاع بها، ينقضي حقّ أيّ منهن فيها، إذا ما تزوّجت أو ماتت، ولا يحقّ لهنّ توريثها أو التصرف بها إذا اقتضى الأمر، هذا هو إرث الإناث من مال أبيهنّ.
أما المقاطيع فهن الإناث اللواتي ليس لهن معيل شرعي؛ أي كل أنثى ليس لديها ابن أو زوج أو أب أو أخ هي أنثى مقطوعة، والمقطوع في اللغة هو المبتور، وقد استكثر مبتكر المصطلح أن يجمع “المقطوعة” جمع مؤنث سالم، كما تقتضي اللغة العربية، فجعلهنّ “مقاطيع” بجمع التكسير مثل الإناث اللواتي من دون رجال يكنّ مكسورات الجناح. تلك التسمية وحدها تدل على نفي الأنثى وبترها من الوجود الإنساني؛ إذ ليس لها كيان إلاّ بما أنعم الله عليها من الذكور، كما أنها باتت تقف حامدةً وشاكرةً لهذه المنّة الأبوية، لأنها على أتم المعرفة بعدم حصولها على جزء من الميراث، مما يمتلكه الأب حتى لو كان نصف ما يرثه الأخ، حسب الشريعة الإسلامية “للذكر مثل حظ الأنثيين”، لكن فقهاء الشريعة الإسلامية وجدوا لها فتوى تتناسب مع العرف الاجتماعي في كفالة المرأة؛ إذ إن “الأخت المتزوجة هي في إعالة زوجها، لكنها ترث نصف ما يرثه أخوها الذي يعول زوجته وأولاده، فإذا كانت أخته غير متزوجة فهو يعولها أيضًا، فترث مقدار نصف ما يرثه هو، ومالها ذمة مالية خاصة بها، لكنه لا يزال مسؤولًا شرعًا عن رعايتها وكفالتها، وكذا الحال مع الأبناء” كما يقول خالد الحربي.
لذلك، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. أما رجال الدين في المذهب الدرزي، فلم يجدوا فتوى لما نصته الحكمة في توريث الأنثى، إنما تجاهلوه تمامًا بحجة زواج الأنثى من رجل خارج نطاق “العائلة الكريمة”، التي تنتمي إليها، إذ أوصت تلك النصوص بتساوي الإناث والذكور في الميراث، ويحق للزوجة في حالة الطلاق أن تقاسم زوجها كل ما يملك، وإن كان قميصًا يستر جسده فقط، أما القانون فلا يعترف إلاّ بما هو مسجل قانونيًا باسم الأنثى في أثناء عقد الزواج في المحكمة (المذهبية) الخاصة بالدروز، وبما هو مسجل في وصية الأب أو الأخ فيما يخص التوريث.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الشرائع الدينية أكثر إنصافًا للمرأة من الأعراف الاجتماعية المتوارثة جيلًا بعد جيل. فيا حبذا لو ترتقي الأعراف إلى مستوى الشرائع الدينية، لكي يمكن لها أن ترتقي إلى مستوى القوانين الوضعية، التي أرست مبادئ المواطنة المتساوية، على قاعدة تساوي النساء والرجال في الحقوق المدنية والسياسية، فتمنع تعدد الزوجات، وتنصف الزوجة، في حال انفصالها عن زوجها وانفصاله عنها، وتساوي بين الذكور والإناث في الميراث.
السيطرة الذكورية لم تبدأ من العرف المجتمعي عند الدروز، ولا تنتهي عنده، ففي جميع المذاهب والأديان هناك جور على الأنثى في التوريث؛ في الدين اليهودي، على سبيل المثال، يورّث الابن الأكبر كل ما يملكه أبوه، وذلك حرصًا على عدم تبعثر الملكية الخاصة وتشتتها، وتعترف لليهود كل القوانين الوضعية في العالم، القوانين التي أسست للحرية والعدالة والديمقراطية هي ذاتها تخضع لعُرف دينيّ أو مجتمعيّ، يتسبب في إيذاء الذكر والأنثى على حد سواء.
نقول (الأنثى) ولا نقول (المرأة)، ذلك لأن ليست كلّ أنثى امرأة؛ لكن كلّ امرأة هي أنثى، فلا يحقّ للأنثى في المجتمعات المتخلّفة أن تمتلك من مال أبيها إلا بأحكام خاصة، كأن تكون الأنثى الوارثة وحيدة أبيها وأن لا يكون للأب أقارب من العصب، ويمكن أن تمتلك من مالها الخاص، يتوقف ذلك على حرية المرأة الاقتصادية التي تأتي من عملها الخاص، وليست كل أنثى في تلك المجتمعات هي أنثى عاملة.
لم يكن العُرف وحده المسؤول عن انتهاك حقوق الأنثى، بل كان للسلطة السياسية والمؤسسات القانونية الدور الأكبر في ذلك، عدم المساواة السياسية بين المواطنين والمواطنات، وعدم المساواة القانونية في الحقوق المدنية تنعكس سلبًا على الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فما زال قانون الأحوال الشخصية في سورية، حتى بعد التعديل، ينتهك حق الأنثى بعدم مساواتها بالذكر.
يقول مونتيسكيو في كتابه روح الشرائع (روح القوانين): “… القول بعدم وجود عدل أو جور غير ما تأمر به القوانين الوضعية أو تنهى عنه، هو قول بعدم تساوي جميع أنصاف قطر الدائرة قبل رسمها”. إذن لا يمكن أن تكتمل الدائرة إلا إذا كانت أنصاف أقطارها متساوية، ضمن قوانين وضعية تحقق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن دين وسياسة وعرق ومرتبة الفرد الاجتماعية.
لم يكن حديث مونتيسكيو وليد القرن الحادي والعشرين؛ إنما سبقه بثلاثة قرون، وما زالت المجتمعات تعاني الجور وعدم المساواة بين أفرادها، فكيف ستكتمل دائرة مجتمعٍ ما ونصف أنصاف أقطارها مبتورة أو تابعة لأسياد هم أتباع لعادات وأعراف مورثة وسائدة، أصبحت -فيما بعد- قوانين اجتماعية عامة، يخضع لها القانون الوضعي بكل عظمته، مجتمع لا يعترف بحرية الأنثى وإنسانيتها وفرادتها الذاتية، مجتمع لا يسمح للتملك إلا لذكورته المتفوقة على الرجولة، يجترّ آفات الماضي بكل عفنها، ليمزجها بنقص معرفته وإدراكه للإنسانية، فيعيد إنتاج التخلف ليورثه للأجيال القادمة.
“بيت المقاطيع” بيت الرقيق في زمن الحريات.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.