يارا الحركة/ رصيف22- ما إن أدخل البيت وفي أيّ وقت من الأوقات: بعد عودتي من العمل، أو سهرة لطيفة كانت أم مملّة مع الأصدقاء، أنظر حوالي، أعيد ترتيب الأشياء، أضع ثيابي في خزانتي – تلك التي كانت أمّي تحاربني أيّامًا وشهورًا كي أوضّبها- أملأ الطعام في صحن قطّي “طبوش”، أذهب الى المجلى مباشرة، أغسل ما فيه من صحون.
أنظر من جديد، لا يزال أمامي المزيد، لم أطوِ الغسيل بعد… “رح أجّل هالشي لبكرا” أقول لنفسي ولكن سرعان ما أنجز ما لم يتمّ انجازه لهذا اليوم. أتطلّع بسعادة الى ما حصدته، البيت مرتّبٌ كما يجب أو على الأقلّ بالمعايير المطلوبة كي أشعر بالرضا ولو لبعض الوقت.
أتساءل يوميًّا كيف تحوّلت إلى “أمي”؟
كيف أصبحت تلك المرأة التي تكافح يوميًًا كي تستطيع النوم ساعة دون أن يتراكم عمل البيت عليها – وكأن المهمّات المنزلية هي كلّ ما تبقى من مسيرتها؟
تستعجلني “رشا” لإرسال مقالي قبل الأربعاء. وأنا لم أنس موعد التسليم، ولكنّي انشغلت كثيرًا في عدم القيام بأيّ شيء يذكر. هكذا أرى نفسي، لا أقوم بأيّ شيء يذكر. حين أُسأل عن عملي، يكون الجواب: لا بأس، متل العادة… حين أسأل عن أنشطتي، لا أجد ما أقوله حقًا سوى سرد التفاصيل الدقيقة في المنزل:”حطّيت “زرّيعة” جديدة بأوضة القعدة، ونظّفت المطبخ مبارح، وغسلت الغسيل! ايه وفي أغراض بعد ناقصة للحمّام بس تاركتها للأسبوع الجاي بس أفضى…”
بس أفضى!؟ تعلق هذه الجملة في رأسي وأسرح بها. وعلى أثرها قد يظنّ البعض أنّ كل وقتي ممتلىء حتى لا أكاد أجد مساحة فراغ واحدة كي أحقق ما أريده أو أشتري ما ينقصني أو أو… المنزل هو خلوتي عن الأفكار، وهو ضياعي فيها، كالعالق في دوّامة أو متاهة لا يعلم كيفية التخلّص منها!
لكن ما علمته منذ شهر تمامًا أنّني على حافة اكتئاب، ربّما لن تكون والدتي سعيدة حينما تقرأ هذا النص، ولكنّي حقّا يا أمّي على حافة الاكتئاب. أنظر يوميًا الى ما تحوّلت اليه، أبكي بوجع وحرقة، أنا وحشٌ، مضغني الروتين كالعلكة، امتصّ السكّر من أجزائي، وجعلني جافةً لا “أنزّ” حتى بعد الجرح.
بدأت التدخين منذ شهر أيضًا لا لحبّي في الدخان ولا لطلب جسمي لجرعات النيكوتين، ولكن كنشاطٍ يُذكر، يُسأل عنه:
– أيمتا بلّشتي تدخني؟
– ما بدخّن رسميّ بعد، يعني ما بشتري علبة ولا بحتاج إنّو دخّن بوقت الشغل أبدًا بس تسلاية!
وها أنا أدخّن سيجارة لفّ في هذه الأثناء، أفكّر في العمل المتراكم في المكتب، في الضيوف الذين سأبتسم لهم عنوة بعد تغيّب يومين بسبب المرض، وزملاء سوف أضطرّ لمجاملتهم كما لم تجرِ العادة من قبل في أيّ عمل سابق، وبخور لا أحبّه سوف أشتمّه رغما عني ويذكّرني بكلّ تلك البلاد التي لم أستطع زيارتها، وحدي أو مع شريكي فارس.
لا بأس، أبدأ كلّ يومٍ بهذا المقطع الموسيقيّ الأليف على أذني، غدًا يوم آخر، سيكون أبهى وأفضل، سأسجّل في نادٍ رياضي، سوف أكمل دروس الغناء وأعود إلى كتب اللغة الأسبانية التي افتقدها. لا شيء يحصل، كلّ شيء يتكرّر، أصرخ على “طبوش” كي لا يوقع زجاجات النبيذ عن الرف وهو يموء مللًا.
أرسل اليّ اليوم صديق من المكسيك رسالة طويلة، يقول فيها أنّه يشعر بمعاناة لا أفصح عنها وهو الذي لا يفهم العربية بتاتًا بل يستخدم ترجمة غوغل. صديقي حسين في رومانيا، قال لي قبل بضعة أيّام، أنّه يستطيع القراءة بين السطور أنّي لست سعيدة، وعليّ صنع تغيير ما في حياتي، أن أكون جريئة لاتخاذ أي قرار يصبّ في مصلحتي. وهنا أنظر في المرآة حرفيًّا، أسأل نفسي ألهذه الدرجة أنا واضحة؟ مكشوفة أوراقي؟ تفضحني ترجمة سيئة لغوغل ومتابعة سريعة لصفحتي على فيسبوك؟
أصمتُ خوفًا من أن يتسرّب الاكتئاب إلى ملامحي، لا أجيب على أيّ منهما سوى بتأجيل المحادثة الى وقت لاحق بحجة عمل أو زوّار…
حين بدأت كتابة هذا النصّ، ظهر لي إعلان عن “كريم” للبشرة على جانب الشاشة، كُتب عليه:
“كثير من النساء راضيات عن النتائج”.
أضحك ويشغلني هذا السؤال: من منّا نحن النساء راضيات حقًّا عن النتائج؟ وهنا لا أتحدّث عن هذا المرهم السحريّ الذي يعيد الشباب للبشرة، بل عن كلّ اختياراتنا، مهما تشعّبت، مهنيّة أم عاطفيّة. أنا امرأة تربّت أن تكون قويّة، وعزّزت تجربتها هذه القدرة ولكن ما إن أتممت عامي الـ32، شعرت وكأنّ دهرًا قد مرّ عليّ، لا لقيمة العمر، ولا أسى على ما مضى ولا ندمًا على خسارات بل لجودة الحياة التي نحاول يوميًا، أحاول يوميًا، أن أقتنصها إلى أن مللت المحاولة.
32 عامًا مرّت يا أمّ وأنت تختارين اليوم دونًا عن أيّ يوم آخر لنشر ما كتبته في محاولة رحيلي الأولى القاسي عن موطني، إلى تركيا “مذكرات في بلاد لا تشبه حتى نعاسنا”. كلّ ما استطعت استخلاصه بعدها أنّي أنا المتحوّلة بين صورة أمّي في كثير من التفاصيل، ووحشٍ في تفاصيل أخرى، لا أعيش سوى في مذكراتي. أكتبها، وأنسى أن أمضي يومًا جميلًا حتى وان لم يُخلّدَ للذكرى.
هل النساء راضيات عن النتائج؟