سوسن جميل حسن/ تلفزيون سوريا- أوقفوا العنف ضدّ المرأة.. شعارٌ من الشعارات التي تُرفَع، وقد تصبح عنواناً لمدوّنة عالميّة تقرّها الأمم المتحدة ويتفرّع عنها وفي فلكها مئات الآلاف من النشاطات والهيئات والوسائط ويمكننا تعداد الكثير.
لكن من هم أولئك المعنيون بالخطاب؟ أوقفوا أنتم..! فهل هؤلاء الـ (أنتم) الذين يُوجّه إليهم الخطاب مجموعة واحدة منسجمة ومتّفقة ومتّسقة النشاط وصاحبة هويةٍ واحدة ومشروعٍ واحد ومصالح وغايات وطموحات واحدة؟.. ليتهم كذلك لكان الأمر أسهل ولكانت النتائج المرجوّة أكثر.
تعاني المرأة من العنف والإقصاء والإهمال والتهميش ومسخ الذات والإرادة في مجتمعاتنا العربية مرتين، مرةً كفرد من مجتمع بشري تحكمه أنظمةٌ قمعيّة، وأخرى بسبب الجندر واضطهاد الثقافة الذكوريّة للمرأة متّكئةً تاريخيًا على منظوماتٍ قيَميّة وعاداتٍ وتقاليد يتوّجها الدين والنصوص والشرائع.
أثارت قضية الفتاة السودانية “نورا” ضجةً إعلاميةً كبيرة في الأسابيع الماضية، نورا التي زُوّجت بالإكراه من رجلٍ لا تريده وهي في السادسة عشرة من عمرها، فهربت واختبأت في بيت خالتها لمدّة ثلاث سنوات، وعندما اكتشف أهلها سرها أعادوها بالإكراه إلى بيت زوجها الذي منعته من معاشرتها، وطعنته بعدما اغتصبها بمساعدة بعض أقاربه الذين قاموا بتثبيتها ليقوم بجريمته. نورا “المُغْتَصبة جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً” تقبع اليوم في سجن النساء المعروف في منطقة أم درمان، غربي العاصمة السودانية الخرطوم، بانتظار الإقرار بحكم الإعدام بحقّها حتى الموت.
المؤسف والمحبط أكثر هو تمكّن الثقافة والنزعة المعادية للمرأة من نفوس شريحةٍ كبيرةٍ من هذه المجتمعات، فما زالت هذه الشرائح تحمّل المرأة مسؤولية اغتصابها وممارسة العنف ضدّها، بينما في ألمانيا التي لنسائها تاريخٌ مؤلم في الاغتصاب أثناء الحرب العالمية الثانية نجم عنه، من جملة النتائج التي استخلصت كدروسٍ من عثرات التاريخ المؤلمة، إعادة الاعتبار للمرأة ووضعها في مكانها المناسب كمواطنة في دولة قانون تحترم إنسانية الإنسان وتصون حقوقه بلا تمييز، صدر منذ عامين قانون يجرّم من يتحرّش بالمرأة ولو باللفظ حتى لو كان زوجها أو شريكها، يوسِّع فيه تعريف “جرائم الجنس”. اختصر تعريفه على جملة صارمة: لا.. يعني لا. وهذا يعني، من الناحية النظرية، أن رفض المرأة بكلمة “لا” يعني عدم وجود موافقة، وبالتالي، الاغتصاب.
في سوريا “العلمانية” بالادعاء وليس بالواقع، شهدت المادة 548 من قانون العقوبات، المعمول بها منذ العام 1949 والتي كانت تنصّ على أن القاتل بذريعة الشرف يستفيد من العُذر المحلّ، لتصبح “يستفيد من العُذر المخفّف كلّ من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته بجرم الزنا المشهود أو صلة جنسيّة فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو إيذاء أحدهما، على أن لا تقلّ العقوبة عن الحبس من 5 إلى 7 سنوات، في حالة القتل”. والتبرير القانوني هو “الدافع الشريف” الذي يُشرح على أنه “عاطفة نفسيّة جامحة تسوق الفاعل إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مُقدَّسة لديه”، فماذا عن المُقدَّس عندما يُترك للفرد أن يضعه ويتبناه؟ وأي فوضى يمكن أن تندلع من وراء منح هذا الحق، حقّ توليف المُقدَّس وإشهاره؟
في الواقع، وعلى مدى عقود حكم البعث، لم تسعَ الحكومات المتعاقبة إلى النهوض بالوعي الجمعيّ وتنقية الثقافة العامة أو تحريرها من أغلالها المتوارثة والمتراكمة عبر التاريخ، بالرغم من ادّعاء العلمانية والعلم منهجاً في التفكير والسلوك. سوريا لم تكن دولةً علمانيّة ولا مدنيّة، كانت دولةً قمعيّة دينيّة يديرها نظامٌ سياسي متحالفٌ مع رجال الدين، ولم يعمل النظام على تفتيت البنية القيَميّة المُتحكّمة في الوعي العام، بل تركت المجتمعات المتنوّعة المحليّة في سوريا لتناقضاتها ومنظومات قيمها تدير حياتها بموجبها، فبقي النظام العشائري أو القبلي مُتحكّماً في مناطقه، والنظام الدينيّ القائم على الشريعة والنصوص مُتحكّماً في مناطق أخرى، بل إنّ قوانين الأحوال المدنيّة مُنبثِقة من التشريع الديني، ومادة التربية الدينيّة تُدرَّس في مناهج التعليم بشكلٍ إلزامي، والمناهج التعليمية بشكلٍ عام كانت تكرّس الفروقات الجندرية وتعزز الصورة النمطية للمرأة التي تشكّلت تاريخياً بما تحمل من تهميشٍ ودونيّة. وبقي الموروث الثقافي القائم على اضطهاد المرأة حاضراً في تنظيم حياة الناس بكل زخمه وجبروته.
لم تكن الحقوق مُصانةً في سوريا، بل كان هناك تشجيعٌ ممنهجٌ للخلافات بدلاً من رعاية الاختلاف والتعدّدية، كان هناك تشجيعٌ على الفساد والإفساد، على بقاء المجتمع في حالة ركود واستنقاع، لم يسعَ النظام السياسي إلى بلورة مفاهيم ونشرها تنهض بالمجتمع وتتيح له مجال السير في ركب الحضارة الإنسانيّة، وإذا كان المجتمع قد تُرك يعبّر عن نفسه مناطقيّاً فهذا أمرٌ كان بالنسبة له من الحوامل التي تخدم شعاراته وادّعاءاته بالتقدّم ومواكبة التطوّر، هناك في بعض المناطق كان المجتمع المدني مُتقدّماً على القوانين الشخصيّة وليس للحكومات أيُّ فضلٍ في ذلك، بل على العكس عندما قام بعض العناصر التابعة لسرايا الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي بنزع الحجاب عن رؤوس الفتيات في الشارع بالقوة كان هذا الإجراء سلوكاً استفزازياً فيه إشهارٌ سافرٌ وفجٌّ للقوة واغتصابٌ للإرادة، وفي الوقت نفسه فيه تحفيزٌ موارب على نمو التناقضات الثقافيّة والطائفيّة في البلاد.
في سوريا العقود الماضية تمّ التأسيس لعوامل تفتيت البنية المجتمعيّة، بما جرى من إفقارٍ للفكر وتفريغٍ للعقول وحشوها بالأفكار التي تُكرّس واقع الاستبداد والخنوع السياسي والديني والاجتماعي، ففي الوقت الذي كان الرأي التنويري يودي بصاحبه إلى غياهب السجون والمعتقلات، كانت الكوادر البشرية تُصنّع بما يخدم سلاطين الاستبداد من دينيّ وسياسيّ واجتماعيّ وغيره، في سوريا العلمانية ازدهرت الجماعات الدَعَوية ومدارس تحفيظ القرآن والحسينيّات وحتى الجماعات الدينية المتشدّدة والمتطرّفة بينما النظام السياسي يُشيح بوجهه عن كلّ هذه النشاطات، بل يدعم بعضاً منها بدعوى حريّة المعتقد وصون الحقوق، بينما الحقوق تُهدر ويُمسخ الفرد ليصبح رقماً في مجموعةٍ بشرية تُقاد بالقوّة.
في بلادنا، هذه الأوطان المغموسة بالدم والقهر والحروب والاقتتال، للعنف شكلٌ آخر، بل أشكالٌ أخرى. هو عنفٌ يتغوّل في حياة أبنائها بلا رادعٍ ولا خوفٍ على مرأى العالم كلّه، وليس غريباً، مثلما سيُحاجج البعض باعتبار تلك المناطق هي في الأساس بيئاتٌ حاضنةٌ للجهل والتعصّب والتطرّف في رأيهم، أن تزداد الجرائم بذريعة الشرف في ظروف القهر والظلم والتشرّد والقتل والتدمير، بعدما جرى تغييب الوعي قبل هذا بكثير.