تاريخ الخوف والنظام الأبوي
Hanna Barczyk

feministconsciousnessrevolution- استخدم النظام الأبوي منذ ظهوره معظم أدوات العنف والتخويف والتدجين، لكسر النساء واخضاعهن وتأجيجهن ضد أنفسهن وغيرهن. من بين هذه الأدوات نزع الشرعية عن خطاب النساء، والصاق التهم بهن، وخلق منظومة قيمية وثقافية متسلحة بالدين والأسطورة تصور المرأة كعدوة لغيرها من النساء، كمتآمرة، وكيدية، ومؤذية، وغير جديرة بالثقة.

كان لسلاح نزع الأهلية عن المرأة وتحريضها ضد نفسها الذي استخدمته المنظومة الأبوية نتائج كارثية على مصالح النساء، حيث حولتهن لدروع بشرية تكسر بها كل بذرة رفض للعنف أو الاضطهاد الأبوي.
أدى ذلك إلى تقسيمهن لفئتين متقابلتين امرأة “جيدة” وامرأة “سيئة” تتحول من خلالها كل واحدة لرقيبة على الأخريات لعلها تثبت أنها ليست مثلهن، حيث تنشأ الذكورية كل فتاة على أن النساء الأخريات منافسات وعليها دائما أن تحافظ على وجودها ضمن الفئة “الصالحة”.

زرع فينا بعنف أن كل امرأة هي منافسة وعلينا أن نتغلب عليها، أن نثبت أفضليتنا عنها، أن نثبت أننا “الأنقى”، “والأحسن”، وأحيانًا “الأذكى”، “والأصدق”.

في الطريقة التي تربينا بها كانت حيوات النساء الأخريات، أجسادهن، نمط عيشهن، أفكارهن، أصواتهن، ضحكاتهن، وأسرارهن، شيء نتعلم أن نتخطى حدودنا نحوه ونسمح لأنفسنا بإنتهاك خصوصيته.

قاد هذا عبر الزمن إلى جعل النساء موضوعات للتدوال والضبط، والسيطرة، ومشاعاً للنقد، والتقييم.

هي آلية أبوية هدفت لجعل النساء محركات أبدية لاستمرار تواجدهن منفصلات في فئتين، مقسمات لجماعتين، من تكون في الصف الذي لم ينصع للسلطة ستعاقب وتكون مثالًا تخويفياً للأخريات، عليهن انكارها لكي لا يكن مثلها.

لم يكن هذا التقسيم تاريخياً منعطفاً اعتباطياً بل مساراً ممنهجاً لاستمرار النظام الأبوي، فتحويل نظر المرأة عن اضطهادها نحو المحافظة على سمعتها أو الحرص من “كيد” النساء الأخريات ومحاولتهن لإفساد حياتها، كان حلاً ناجعاً لتقسيم صفوف النساء، خصوصاً بعد استمرارهن في مساعدة بعضهن وخلق شبكات للتضامن والنجاة من العنف والقمع الأبوي.

فقد كانت ولازالت النساء في كل منطقة من العالم كجارات وصديقات وأفراد من العائلة، ينتظمن بشكل غير رسمي ويشكلن شبكات للنجاة، منها المساعدة المادية والنفسية لبعضهن، ومنها طرق لمقاومة العنف أو تحديه.

في كل مجتمع كانت جلسات النساء أماكن لاحتضان الألم والقهر، لمناقشة المشاكل، ونزع القداسة عن الأسرة، لتبادل المعلومات، وللكثير من التعاون.

لذلك وصمت أحاديث النساء “بالثرثرة” وأصبحت مضرباً على النقصان، فكل رجل يراد أن ينتقص منه يُشبه حديثه “بأحاديث النساء”. هذا الوصم هو آلية أخرى لتفخيخ كل ما يجمع النساء، ولنزع الشرعية عن أصواتهن، لأن وصم أحاديثهن بالسخافة والدناءة والثرثرة، سيؤدي لنزع السياسية عنها.

فالقضايا والمواضيع التي يناقشنها تتعلق بتجارب شديدة الذاتية والسياسية، أن تشارك امرأة تجربتها مع العنف وتشتكي لصديقاتها وجارتها سيؤدي في النهاية لكسر حلقة العنف وتبريره.

عندما يتحدثن سراً عن الجنسانية ويخلقن مساحة لتبادل المعلومات مهما كانت مغلوطة وشحيحة، سينتقلن شيئاً فشيئاً لنزع العار عن أجسادهن والمقاومة لامتلاكها.

عندما يشتكين لبعضهن من الظروف، أو من شخصيات الأزواج، أو من قيود العائلة وقمعها، سيصلن مع الوقت لنوع من المساحات التي تفهم أن هذا الوضع ليس طبيعياً ولا يوجد له تبرير.

مَثل هذا التضامن تحدياً وتهديداً للمنظومة الأبوية، وقيمها المؤسسة على تفرقتهن واقناعهن بتقبل السلطة والهيمنة الذكورية كشيء طبيعي وفطري.

فكان لابد من استخدام العديد من الفزاعات التخويفية منها تحميل النساء وزر اضطهادهن، وتصوير أن استمرار هذا الاضطهاد مرده إلى المرأة، فهي من تنقله وتحافظ على استمراره. ولحد ما نجح هذا السعي المؤسسي في تفرقة صفوف النساء وتزييف وعيهن، بل واستدماج قيم الأبوية. خصوصاً عندما تقوت بالنظام الرأسمالي والاستعماري الذي نشر ومول قيم الفردانية والأنانية وحرض بإستمرار ضد أي قيمة للتضامن أو مقاومة الظلم.

ورغم ذلك وجدت في مراحل مختلفة من التاريخ حراكات وتنظيمات فردية وجماعية لنساء ناهضن النظام الأبوي، وسعين لمقاومته فكرياً وسياسياً حتى اكتملت بظهور النسوية، التي أتت كتوليفة من النظريات والنضالات السياسية والفكرية، التي تهدف إلى تغيير وتفكيك وتحليل البنى الاضطهادية الأبوية في تجلياتها السياسية والدينية والرأسمالية والثقافية، التي تُبقي على خضوع واضطهاد النساء ومختلف الهويات الجندرية في المجالين الخاص والعام.

هذا التحدّي للنظام الأبوي منذ بداية ظهور النسوية وإلى اليوم، جعله يوظف جميع أنواع التحريض والتشويه لمحاربة النضال النسوي.

منها أنه مستورد، ومؤامراة تهدد استقرار المجتمع والأسرة، في اشارة واضحة أن استقرار هذه البنيات مشروط بخضوع واضطهاد النساء وأن أي مقاومة لذلك هي تهديد لهذا النظام.

ومنها التحريض بإستخدام الوصم وأن النسويات لاينسجمن مع نموذج المرأة “الصالحة” فهن “عاهرات” “عانسات” “أصواتهن فاجرة” “عميلات” “غاضبات” “بذيئات”.

واستخدام وصم الجنسانية التي لا توافق المعيارية الغيرية المهيمنة، من خلال رفع كرت “نشر الشذوذ”، وأن النسوية هي حرب على الفطرة السوية التي اخترعها النظام الأبوي لمصالح قلة من الرجال.

لكن ربما تكون الدعاية الأكثر استخداماً هي اعتبار النسويات خطراً على النساء، ويخططن لسرقة حيواتهن واجبارهن على نمط حياة لا يردنه ويضمرن لهن العداء، يخططن لاجبارهن على عدم الزواج، والانجاب، وعلى العمل، وعلى ارتداء ملابس متخيلة من فانتازيا الخوف الأبوي من أي مقاومة لدوامة الاجبار التي يفرضها على النساء.

غرس النظام الأبوي أوتاد الشك والريبة بيننا، وصور أن سلب تقرير المصير وفرض السلطة والقواعد الأبوية على حياتنا، والزامنا بها كأدوار حتمية هي في حد ذاتها اختيار.

فنحن نعيش في حصار سياسي واقتصادي وديني يعدنا بالعقاب، ويفخخ عقولنا وواقعنا بالخوف، والترهيب، والحرمان، والاستغلال.

نتخيّل أن مقاومته سترتد علينا بالأذى، لذلك نفضل أن نبقى في الجزء الآمن رغم أننا واثقات جيدًا أنه ينافي الأمن، نستشعر تهديده كل يوم لكننا ننكره، نخاف أن نعرف، أن تؤلمنا معرفة لن تحمينا ولن تنقذنا.

تعلّمنا أن نثق في كل ما وجدناه أمامنا، في العائلة والمجتمع، والنظام السياسي، والسماء، والرجال.

لكننا بالمقابل فُرض علينا أن نتعلم أن لا نثق في أنفسنا، أن نُكذب مشاعرنا، عند الاعتداء، عند الانتهاك، عند العنف، عند الخرافة، عند الرغبة، وعند اللذة.

فُرض علينا أن نعرف أن هناك ثمن باهظ لكسر هذه الحلقة، سنعاقب إن اخترنا أنفسنا، سنعاقب إن رفضنا لومنا على العنف، سنعاقب إن واجهناه، سنعاقب إن رغبنا، إن رغبنا فوق قيودنا.

لم نعرف التحدي يومًا لكننا عرفنا الخوف جيدًا، عرفناه منذ تاريخ القهر، والقسر، والعنف، على أجسادنا، وقلوبنا، وعقولنا.

إن زراعة الخوف والحصار وتقويض فرصنا في ابصار الاضطهاد، ساهمت بشكل كبير في أن يحرضنا النظام الأبوي ضد أنفسنا. عملية مؤلمة تبدأ بتخويفنا من أن نصدق أنفسنا، أن ننظر إلينا بعيوننا لا بعيون النظام، حتى نصل إلى التواطؤ ضد أجسادنا وحقوقنا.

كيف لا نفعل ذلك وقد سُرقنا مِنا منذ ولادتنا؟ سُرقنا مِنا قبل أن نعرفنا، قبل أن نتشكل. لقد شُكلنا، وفرضت علينا المقاسات، كما القواعد والمحظورات.

نحن نولد للنظام الأبوي لا لنا، نولد للعائلة التي هي مولودة أخرى لهذا النظام القاتل، نولد لمجتمع يعمل كماكينة انتاج لأفراد مشوهين ومكسورين ومحرضين ضد كل شيء حتى أنفسهمن.

نولد في عالم مصمم على عدائنا وكراهيتنا، على تكذيبنا وتشكيكنا في أنفسنا وتحسيسنا بالعار. لذلك نستسلم ونضعف ونتواطأ ضد أنفسنا وغيرنا من النساء، لذلك نكذب شعورنا وتجاربنا. لأننا نعرف مصير الصوت المقاوم في عالم الصمت القسري.

لذلك تتفاضل ردّات فعلنا على الاضطهاد وعلى العنف وعلى الاعتداء، فلا يوجد كتيب قواعد نخضع له وننتصر، لكن يوجد خوف موحد وتاريخ من الكسر والترويع والترهيب.

فتاريخنا هو تاريخ الاضطهاد، هو تاريخُّ من نزع الشرعية عن خطاباتنا، وحياتنا، وأصواتنا.

رُسّخ عبر القرون أننا كائنات كاذبة، مريبة، شيطانية ومتآمرة، بحصرنا في وضعية كيد دائمة جُرّدنا من الصوت وحقّ الرفض وحقّ الاعتراض.

لذلك يستخدم النظام الأبوي هذا التاريخ ضدنا، ضد نضالاتنا، ضد خطابنا الذي يواجه زيفه وأساطيره، ضد مقاومتنا التي ترفض عنفه وسلطته.

استخدم ضدّنا التاريخ الذي فخخ علاقتنا ببعضنا، وجعل الفئات الواسعة منا ترفض أن تستمع إلينا قبل أن نتكلم. فمن السهل أن تكذب النساء بعضهن مادام يقف فوق رؤوسهنّ غرابٌ يتوعّد بالموت والنفي والعذاب.

لا أعرف كيف سنوقف هذا التاريخ الذي يعود إلينا كل مرة كمأساة، لا أملك اجابات، ولا أعرف كيف سنجد القوة لمواجهة نظام لم يكتفي باضطهادنا وحصار حياتنا بالعنف والاستغلال والمواجع، بل أصر أن تكون مخيفة وخالية من أي آثار تُصدق فتُتبع.

لكنني بالمقابل أثق في تاريخ خرج من قبضة المهيمنين وصنع واقعًا أفضل. أثق في تاريخ انتصرت فيه معظم الشعوب على الاستعمار وقاومته. أثق في تاريخ انتصرت فيه الأيدي العاملة والطبقات المفقرة وتوحدت ضد رأس المال وركعته حتى وإن استمرت المعركة. أثق في نهج الشهداء والشهيدات من قدّمن طريقًا تلتحم به ضمائر من بقين خلفهنّ وقاومن رغم الغزو والتهجير والإبادة والأسر.

أثق في تاريخ النسوية التي عبدت لنا الطريق بدماء وعرق وحرية ملايين النساء حول العالم، ونساء الهامش بشكل أكبر.

أثق في تاريخ من شكلن تواريخنا البديلة، من نظرن، وكتبن، ودحضن كذب وأساطير النظام الأبوي كي نسطيع اليوم أن نسميه، ليس النظام الفطري ولا الطبيعي بل النظام الأبوي القائم على سلطة الرجال من الرجال إلى الرجال.

أثق في أصوات من صرخن، وواجهن، وقاومن، في الشوارع، والسجون، والبيوت، ومثّلن لنا أمثلة في التحدي والشغف والتصميم على أننا لن نستمر قرابين على مذابح الأبوية.

أثق في تاريخ من قاومن سلطة الأبوية، والاستعمار، والرأسمالية، والعنصرية، ووقفن ببسالة ليقلن لنا أن خلف كل مقاومة ستولد مقاومة جديدة.

أثق في تاريخ كل من قالت لا وبصقت. في تاريخ كل من غرست أظافرها في قلب الاضطهاد وأدمته وأضعفته حتى لا يبتلع أثر من قاومنه ويصلنا، ومن لازالت تفعل ذلك بجسارة من أجلنا وتنادينا.

أثق في تاريخ سارة حجازي، وسلطانة خيا، واسراء جعابيص، وخالدة جرار، ورزان زيتونة، وماهينور المصري، ونبيلة جحنين، وآساتا شاكور، ومارثا بي جونسون، وأودري لورد، وروزا لوكسمبورغ، ولجين الهذلول، ونسيمة السادة، ومارييل فرانكو، ومارثا مبراتو. في تاريخ من لم يذكر اسمها لكننا نتذكر نضالها.

أثق أننا سنهزم الخوف ونتوحّد، وأن نجاتنا لطالما كانت جماعية، وتلك نبوءة تحتاج التضامن والصبر والثقة والنفس الطويل.

Hanna Barczyk

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015