د.صباح ضميراوي/ شبكة المرأة السورية- “أم غازي” امرأة تجاوزت الخمسين من العمر، ولديها كل الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والصحية لتُصنّف في خانة الضحية. لكن هذه المرأة الخمسينية النازحة مع زوجها وأولادها الخمسة من حصار الغوطة الشرقية إلى مخيم دير بلوط قرب جنديرس في الشمال السوري والظروف المعيشية السيئة التي تعيشها مع أسرتها، جعلتها تقرّر التمرّد على واقعها، أو ربما أن تكون نفسها، لتؤكّد أن النساء يلعبن دوراً مفصلياً خلال الحرب.
في منزلها المتواضع بعد أن تركت المخيم، استقبلتني أم غازي. وبحماسة فيها الكثير من الفكاهة الممتزجة بمرارة عميقة، روت قصة “انتصارها” خلال النزوح. قالت: “منذ لحظة وصولنا إلى الشمال السوري قبل عامين، مع ابن مصاب بإصابات بالغة في قدميه، وجدت نفسي وحيدة أتنقّل بين المستشفيات لتطبيبه، أما زوجي فلم يتحمّل أية مسؤولية. لم أكن أملك أجرة المواصلات أحياناً، وهو لم يهتم. كنت أطبخ وأنظف وأعتني بالأولاد وأبحث عن المساعدات، وهو يأكل وينام ويصدر الأوامر. بدايةً بحثت له عن عمل، لكنه رفض الخروج من المنزل فقررت أن أتولى إعالة أسرتي. ابنتي وأنا وجدنا عملاً مع عائلة ميسورة كنّا نذهب ونعود معاً، تجنباً للقيل والقال ممن يحيطون بِنَا أولاً، ومن أبو غازي ثانياً، والذي أصبح يتفنّن في طلباته كلما عدت إلى المنزل أنا وابنتي روان. وهكذا صرت أعمل خارج المنزل وداخله، وأنا مريضة بالضغط، أما هو فبات متسلّطاً وعنيفاً أكثر من ذي قبل، يريدني أن أكون في خدمته طوال الوقت ويستولي على راتبنا أنا وابنته في نهاية كل أسبوع. لم أعد أحتمل، حاولت تغيير عملي كي أرضيه وعملت في منظمة نسائية تعمل في مجال الخياطة حيث تعلّمت روان على الآلات وأنا على بعض الأعمال البسيطة، ومع ذلك لم يكن هذا التغيير ليرضي سيد البيت المتواضع بعد أن كان سيد الخيمة أيضاً، مما جعلني أطلب الطلاق وأنا في هذا العمر وأحتضن أولادي كي نعيش بعد ربع قرن من الحياة المشتركة. بطلاقي أكون قد نفّذت رغبة قديمة كانت تراودني في أحيان كثيرة أيام زمان، لكنني تجرأت على خطوة الانفصال بعدما نُزعت عني صفة “ست البيت” وتحوّلت إلى “معيلة الأسرة”. ولم تجعلني رغبة الأولاد بالعودة لأبيهم أن أعود عن قراري بالانفصال.
أم غازي ليست المرأة الوحيدة التي غيّرت الحرب ظروفها. وفاء سيدة أربعينية هربت من ريف حمص بعد مذبحة الحولة الشهيرة مع زوجها وأولادها الثلاثة فيما بقي الرابع محاصراً هناك. لم تخرج وفاء يوماً من المنزل وحدها، فقد كانت “مدللة” زوجها الذي يكبرها بـأعوام كثيرة. ولكن هنا حيث نزحت لم يعد للدلال مكان، وعندما ساء الوضع، وتضاءلت موارد الزوج، قرّرت أن تعمل.
تقول مع ابتسامة صفراء ترتسم على شفتيها: “لقد تغيّر حالي من امرأة جليسة البيت ومدلّلة الزوج إلى عاملة خارج المنزل، الفكرة التي لم تكن تجرؤ على استحضارها في حالة السلم.” وتضيف: “زوجي عارض بشدة، وحاول إقناعي بأنني امرأة ولا يجوز أن أعمل، لكنني تجرأت وأصرّيت على قراري، وقلت له في الحرب الكلمة للظروف وليست لك، علماً أنني أعدك بأنني لن أقصر في واجباتي المنزلية بل سأنهيها قبل ذهابي إلى العمل وبعد عودتي”.
صفاء لها قصة أخرى، فقد تركت سوريا هي وأولادها قبل عامين على أن يتبعهم الزوج لاحقاً. لتكتشف بعد فترة زواجه وبقائه هناك، وهواليوم يتذرّع بالظروف الأمنية للبقاء حيث هو، لكنها تعلم أن ذلك ليس السبب. هو مرتاح لأنها تعمل ولا يريد أن يأتي ويتعب نفسه.
تقول صفاء إن “البلد الغريب كما الغابة”. وفي المخيم الذي لجأت اليه هو للنساء فقط ومع ذلك فهي تتعرّض للتحرّش بكلّ أنواعه من الذكور العاملين بالمخيم وفي الطريق إلى عملها، أُجبرت على أن تكون قويةً لكي تصمد، والأنكى أن زوجها بات يكرّر على مسمعها بأنها، بعدما بدأت بالعمل، أصبحت كالرجل، ولم تعد تنفعه. فالرجل يفهم الأنوثة على أنها أيد ناعمة وملمّعة، وكيلو ماكياج على وجه المرأة، وصبغة شقراء على شعرها ولا يرى فيها معيلاً كما هو حالها الآن.
كثيراتٌ أجبرتهن ظروف الحرب والنزوح على الاضطلاع بأدوارٍ مصنّفة “غير تقليدية” كالعمل وإعالة الأسر، وهذا ما ولّد شعوراً بالحرية لدى بعضهن. وانعكس ذلك تغيراً في ديناميكية العلاقات التي تحكم المنزل كالحال مع “أم غازي”. في المقابل، هناك عدد قليل من النساء تتمنى أن تنتهي الحرب كي يعدن إلى “دائرة الأمان” في المنزل، ويعتبرن أن الواقع الجديد قد ظلمهن، فالخروج من المطبخ إلى سوق العمل لم يتلازم مع التخفّف من أعباء المنزل والأولاد أو حتى تبادل جزئي في المسؤوليات، بل على العكس فقد أفرط الأزواج في استخدام العنف.
كم تحتاج النازحات لجهد وصبر ليدخلن سوق العمل. في البداية، تتحسّن الأمور مع أول راتب يحصلن عليه، مما يغيّر من وجهة نظر الكثيرات لمفهوم العمل الذي لا يمكن ان يخرجن من أدوارهن النمطية كـ “ستات للبيوت” بدونه، وكم هن بحاجة لتعليمهن ليجدن أعمالاً بظروفٍ أفضل ودخلٍ أكبر.