منى عباس فضل/مدوّنة”ضفاف”- ثمة منظمات نسائية عربية وخليجية تنظر إلى المنجزات التشريعية المتحققة للمرأة التونسية بشئ من الدهشة والإعجاب المشوب بالحسرة في آن، ذلك على الرغم من التبريكات والتهاني التي ترفع إليها. فهي ربما تبحث عن السر الكامن وراء قوتها وجلادتها وصبرها الذي ساعدها في تحقيق ذلك؛ والذي بالطبع لم يأتى اعتباطاً ولا صدفة ولا نتاج مكرمات وشعارات جوفاء خاوية من المضامين، بل إفرازاً لنضال نسائي واع ودؤوب استند إلى واقع تعليمي متطور وحصيلة معرفية تتميز بها قيادات النشاط النسائي مضافاً إليه تجربتهن السياسية وانفتاح ذهني وعقلي وسلوكي على الأفكار والتجارب الإنسانية التي لم تمنعه من المرور بسبب أي محرمات ذكورية أو دينية.
الأهم من هذا وذاك قدرتهن الاحترافية على التقاط اللحظة التاريخية وبلورة مطالبتهن الحقوقية بجدية وجرأة ووعي عال لا يضيع في خضم مجالس الثرثرة ولا التنافس غير ذي معنى، إذن هي الجدية والوعي والإصرار والمعرفة.
نعم ربما أسعفتهن الظروف الموضوعية منذ أيام الرئيس بورقيبة، لاسيما حين أقرت “مدونة الأحوال الشخصية” بيد إن المهم، هو تفاعل كل تلك العناصر مجتمعة وتشابكها الذي انتج واقعاً متطوراً أفضى إلى مكتسبات متحققة، وعلى من يخامره شعور الحسرة والغيرة ألا يستغرق فيه طويلاً، وعوضاً عنه أن يمعن النظر بالانكباب على دراسة وتفكيك التجارب المتقدمة للمناضلات التونسيات وغيرهن بعمق وبعد نظر، ومواجهة ذاته بالنقد والى ما وصل إليه من ضعف واهتراء ساهمت فيه أنظمة الاستبداد السياسية والدينية، كذلك بسبب ما يسود في أوساطه من تنافس ووهن وتراجع واستسلام لممارسات هذه الأنظمة وقيودها التي تعزز مفاهيم الذكورة واستلاب النساء بإخضاعهن للثقافة السائدة والفتاوى الدينية ولمنظومة أعراف القبيلة والطائفة وعاداتها، على الرغم من شعارات البهرجة التي تتصدر مشاريع تمكين النساء بإقرار تشريعات وقوانين مبتورة من سياقاتها كي تعيد إنتاج واقع إزدواجي متخلف عن عصر الحداثة من خلال تطبيق بنودها التمييزية ضد المرأة.
حدث ثوري ولكن؟
نعود ثانية للتونسيات، مالذي حدث؟
الذي حدث أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وبمناسبة “عيد المرأة” الذي تحتفل به التونسيات بمصادفة إقرار المدونة عام 1956، والتي شكلت حدثاً ثورياً متقدماً في تحرير المرأة وإقرار القوانين والتشريعات التي تحميها من الاستغلال وأبرزها منع تعدد الزوجات وزواج القاصرات ومنح التونسية حق الزواج والطلاق والتعليم والعمل والسكن والسفر بمفردها، فقد أفصح السبسي عن مراجعات قانونية جريئة للوصول إلى المساواة بين الجنسين في الميراث، فضلاً عن السماح للمرأة المسلمة بالزواج بغير المسلم، موضحاً بالإحصاءات بأن حضور التونسيات في النشاط العام قوي إذ يشغلن “75 مقعداً في البرلمان من أصل 217 مقعداً”، فيما نسبتهن في أغلب قطاعات المهن كالطب والهندسة والقضاء والمحاماة تمثل “60%، 35%، و41%، و43%”على التتالي، ونسبة “60%” منهن يحملن الشهادات العليا، وتساهم “45%” منهن في مصاريف أسرهن؛ الأمر الذي يؤهلهن برأيه لقضية المساواة في الإرث، لكنه لم يشر إلى حضورهن المتواضع في المناصب القيادية “4%” فقط.
ومنه يجوز السؤال؛ هل كان السبسي صادما حين ألقى بقنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة بشأن النصوص الشرعية؟
بالتأكيد نعم، فقد فتح عش الدبابير حيال المنظومة الذكورية وأكثر القضايا تعقيداً وحساسية في نصوص الشريعة الدينية ومقاصدها فأطلق سجالاً حولها، لاسيما حين أشار إلى أن الدولة ملزمة بتحقيق المساواة كاملة بين الجنسين، وضمان تكافؤ الفرص بينهما في تحمل جميع المسؤوليات، وفق البند “46” من الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
إضافة لما سبق، كلف لجنة رئاسية تضم رجالاً ونساء قانونيين لدراسة القضية وإعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة استناداً إلى دستور 2014 في فصله “21” المتعلق بالمساواة بين المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات، وذكر بأنه واثق من ذكاء رجال القانون لإيجاد صيغة قانونية لا تتعارض مع الدين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه، وتُجنب الاصطدام بمشاعر أغلب التونسيين المسلمين، وإنه لن يمضى في أي اصلاحات صادمة، لكن يجب التوجه نحو المساواة في جميع الميادين، منوهاً إلى أن المنشور “73” المتعلق بزواج التونسيات من أجانب من غير المسلمين قد أصبح عائقاً أمام حرية اختيار القرين، وبالتالى من المهم مراجعته وفق “الفصل 6” من الدستور الذي يقر بحرية المعتقد والضمير ويحمل الدولة مسؤولية حمايتهما، وتسوية الوضعية القانونية للكثير من التونسيات المرتبطات بأجانب وما خلفه من مشاكل.
لا تأويل ولا اجتهاد
تباينت المواقف وردود الأفعال على خلفية تصريحات السبسي بين ترحيب واختلاف، ومما زاد الأمر تعقيداً القراءات المختلفة للدستور الجديد لعام 2014، إذ تشير آراء قانونية بأنه يفتقد إلى قراءة رسمية ومحكمة دستورية تفصل في النزاعات المرتبطة بالدستور، كما لايخلو الأمر من فرط حساسية رجال الدين ممن ينظرون إلى مسألة الإرث استناداً للنص “للذكر مثل حظ الانثيين” وبأحكام شرعية ثابتة لا تحتمل التأويل والاجتهاد، فمن جهة “حزب تيار المحبة”، أدان بشدة تصريحات السبسي وقال: “…وكأن المفهوم ضمنياً من الكلام أن شرع الله ورسوله لم يُعدل في الأمر” كما أطلق عريضة شعبية تسعى إلى جمع مليون توقيع، متهماً إياه بإثارة الفتنة والفوضى، وطالب مجلس نواب الشعب بسحب الثقة منه وعزله بتهمة مخالفته الصريحة للفصل الأول من الدستور.
في هذا الصدد يشير الكاتب التونسي توفيق المديني” إنه وبقدر الثناء على المبادرة الجرئية، التي تدخل في سياق مزيد من دعم الحقوق المادية للمرأة عبرة المساواة، ودعم حرياتها عبر تمكينها من الزواج من الشخص الذي تريد، بقدر ما رأى قسم من التونسيين بأن طرح الرئيس التونسي لا يخلو من التوظيف السياسي الذي يخدم مصالحه نفسه ومصالح حزبه “نداء تونس”، لاسيما مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية للبلديات في ديسمبر القادم، وللتشريعية والرئاسية في 2019، فالمرأة التونسية برأيه أصبحت مصدراً من مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة سواء في عهد بورقيبة أو قائد السبسي، لم لا وهي “خزان انتخابي” حيث صوتت له مليون امرأة في 2014، ما يعني إنهن لعبن دوراً حاسماً في فوزه، إذ بلغ عدد أصواتهن نسبة “60%” من مجموع الأصوات التي حصل عليها.
ومع أن كلام السبسي لقى تأييداً من دار الإفتاء، إلا إنه أثار حفيظة الجامع الأزهر، الذي اعتبر مراجعة أحكام الميراث خطوة عكسية ضد حقوق المرأة، كذلك لم يسلم من الانتقادات الصارمة من مشايخ جامع الزيتونة، كمفتي الديار السابق الذي تساءل قائلاً: “هل يحق للرئيس التدخل في مثل هذه القضايا التي ثبتت بالقرآن القطعي متناً وسنداً. هذه نصوص لا يجب أن نحوم حولها، فالتسوية في الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم، لا أقول به ولا ينبغي لأحد أن يقول به، هذا خروج عن الإسلام”، وأضاف عليه وزير الشؤون الدينية السابق: “بأن هناك حكم قطعي ثابت بنص صريح لا يجوز المساس به أو الاجتهاد فيه. وأحكام المواريث فيها نص قرآني في سورة النساء في الآيات من 11 إلى 14”.
مفارقة اليساري والقومي
المفارقة أن موقف رفض المساواة لم يقتصر على التيارات الدينية؛ إنما انضم إليهم بعض الأحزاب القومية واليسارية ممن وجدوا بأن هذه الدعوة ستنقل الصراع ضد رأس المال إلى فتنة داخل الأسرة، أما اللافت فكان في موقف حمائم “حركة النهضة” الذي كان برغماتياً وبأنها لا تمانع في أي مراجعات قانونية طالما أنها تنضوي تحت طائلة الدستور، إلى جانب صمت صقورهم وتلميح بعضهم بأن هذه المقترحات لن تمر.
بقى القول، إنها ليست المرة الأولى التي تثار فيها قضية مساواة الإرث بتونس، فهناك الطاهر الحداد أول من تجرأ على طرحها عام 1930 في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” والذي طالب فيه بالتجديد الديني، وواجه بسببه الاتهامات بالزندقة والكفر، وأن بورقيبة نفسه أدرك حساسية المسألة فلم يدرجها ضمن مجلة الأحوال الشخصية…” وقال حرفياً: “سأموت وستبقى مسألة المساواة في الإرث في نفسي”. أما في 2016 وتبعاً للتقارير فقد تقدم “27 نائباً” من كتل برلمانية مختلفة بمبادرة تشريعية تتعلق بتحديد نظام المنابات “الأنصبة” في الميراث وهي تتضمن “3 بنود” وتقر المساواة في الإرث بين الجنسين، إلا إنها -أي المبادرة- واجهت معارضة برلمانية شديدة توقفت إثرها النقاشات ودون تبرير.
الخلاصة، لاشك أن انتصار رئيس الدولة لقضية المساواة في الإرث وزواج التونسية بغير المسلم، تعتبر من أكثر القرارات جرأة في مجال تمكين المرأة، وهي منعطفاً يرتكز على تراث أصيل في الإطار الحقوقي للمرأة، وقيمة مضافة في بناء الدولة المدنية التي تقبل بالاختلاف والتعايش، بيد إن الطريق لا يزال عسيراً أمامه للمضي قدماً في تحقيق أي تقدم لمراجعة المساواة بالإرث، لكن ذلك لا يعني التوقف والركون للوضع السائد.