حجابي الذي يشطرني نصفين
Banksy mural on the entrance of Bataclan Theatre

زينب كنعان/ awanmedia- أحاول جاهدةً أن أُنجز هذا النص منذ قرابة الشهر. أكتب وأمحو، أنتهي من كتابته، أعيد قراءته، أضعه على الرّف، أعدّل سطورًا، ألغي فقرات، وهكذا. اليوم سأكتب. سأكتب من دون أن أفكّر في ردود الفعل التي ستصلني، من دون أن أفكّر في صواب ما أكتب، ومن دون أن أفكرّ في تماسك النص وتراتبيّة الأفكار. لن أفكّر في شيء. سأكتب لأنّي أحتاج إلى قراءة هذا الصراع المتأجّج في داخلي.

هذا صراع انقسام هويتي إلى نصفين، بينهما شال أبيض وفجوة يكبر قطرها كل يوم، فأغرق في شتاتها أكثر فأكثر. في قبضتي اليمنى هناك النصوص الدينية وثقل اسمي الذي يحمل رمزيّة تمثّل الحجاب. وهناك الموروثات وتربيتي وتنشئتي. وهناك أمي في قبرها. وفي القبضة الثانية هناك زينب التي تصارع وحدها. زينب الرافضة لنفسها، والتي تفتقد السلام الداخلي. زينب التي لا تشبه نفسها. أحشر رأسي بين القبضتين، وأبكي بصمت. تتشظّى الأسئلة أمامي. أتفحّص في الإجابات. وفي داخلي رغبة واحدة: أحتاج أن يجيبني الله!

عندما أخبرت صديقتي أنّ في داخلي رغبة بخلع الحجاب، وفي داخلي خوف أيضًا، سألتني عن الله، عن الخوف من الله وعقابه. تقف أمامي الآيات القرآنية التي تناولت الحجاب وستر الجسد كلّها، ويتبادر إلى ذهني مشهد أقف فيه على درج منزلنا أمام مسجّلة أمّي التي كانت قد أحضرتها معها من الحج؛ كاسيت يروي حديث الإسراء والمعراج. وكنت حينها طفلة. لا زالت حادثة الإسراء والمعراج في ذهني. مشاهد التعذيب التي ينزلها الله بحق النساء السافرات وكاشفات الجسد. أفكّر في الموت. أفكّر في الموروثات الدينية التي تلقيتها وسمعتها في مجالس العزاء. أفكّر في نفسي قبل عشر سنوات وأنا أرتدي العباءة السوداء أو ما يسمّى “الشادور”. ويتبادر إلى ذهني سؤال: هل ما أنا فيه اليوم هو دليل بعدي عن الله؟ أتفحّص قلبي. ما زال كما هو.

أكره الصورة التي زُرعت فينا منذ طفولتنا عن عنف الله. قلبي يرى الله رؤوفًا رحيمًا. لن تكون أمي أرحم من الله على قلبي. أعلم أنّه شديد العقاب أيضًا، ولكن هل يكون الله شديد العقاب عليّ لأنّي خلعت الحجاب؟ هل يسلخني الله ويعلّقني من شعري لمجرّد أنّي خلعت الحجاب؟ في داخلي يقين بأن الله يعلم دوافعي، لأن الله خبير بما يدور في رأسي من اقتتال بين الأفكار. لكن، على الرغم من هذا، لا يهدأ الصراع، ولا أجد مرسى لقراري.

لا أذكر على وجه التحديد متى ارتديت الحجاب. لكن هل يحق لي أن أقول إنّي ارتديته عن قناعة؟ لم أكن قد تجاوزت الثامنة. ارتدت قريبتي التي تكبرني بسنوات الحجاب، فشعرتُ بشيء من الغيرة وارتديت الحجاب بدوري. ولا أذكر على وجه التحديد متى احتدم الصراع في داخلي، وانقسمت هويتي إلى نصفين. لكنّي أعلم أني “خلعته عاطفيًا” منذ فترة طويلة.

خلعت الحجاب عاطفياً بسبب الشرخ الذي يزداد في داخلي عندما أعرض رأسي وأفكاري على رجال الدين. الأجوبة التي أتلقّاها تزيد من حيرتي. لا أؤمن بأن الحجاب يحميني. لم يحمني الحجاب. لا أفهم القاعدة التي تقول إن عليّ أن أجنّب الرجل الوقوعَ في المعصية عن طريق حجابي، حتى لا أكسب إثمه. لا أرى في الكشف عن لحمي عاراً كبيراً. لا أرى أن الحجاب يقيني من التحرّش. أسأل لِمَ نرتدي الحجابَ في سن التاسعة وليس بخيارنا؟ كي لا نكبر ونرفض ارتداءه. أرى في الجواب هذا شيئاً من القمع، فأقمع نفسي عن التعبير! تتداخل عندي الأجوبة التي أتلقاها بين الذكورية وبين الدين، وبين الأعراف والتقاليد وبين الدين. فأختنق أكثر بأفكاري. أقول لنفسي: حسنًا، لستِ مقتنعة، ولكن هذا ما يريده الله وكفى!

على الطرف الآخر، أعلم أنّي لا أرى في الحجاب قيداً. لا أراه سجناً. لم يُعقني الحجاب في أي خطوة في حياتي الدراسية أو العملية أو في علاقاتي الاجتماعية. ولكنّي بكل بساطة إن سُئلت عن السبب، فجوابي وجواب الكثيرات هو: لا أشبه نفسي.

خلع الحجاب ليس خطوة سهلة. لنقل إنّي رسوت على قرار خلع الحجاب. لن ينطق الله. سيتولّى المجتمع النطقَ بلسانه والموعظةَ باسمه، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. ستتهاوى عن قائمة الأصدقاء العديد من الأسماء. وستدعو العائلة الكبيرة الله أن يغفر لي ذنبي العظيم. خلع الحجاب يعني أنّي أتخلّى عن السترة. لكن السترة مفهوم فضفاض جداً، سيودي بي لا محالة إلى سماع عبارة “الله يستر على كل الولايا”، وهي جملة أعلم حجمَ ما تخفيه من ذكورية. خلع الحجاب يعني النكث بتربية أمي ووعودي لأمي، يعني غضبها في قبرها. خلع الحجاب يعني الخسارة الأبدية لرضا الله. يعني التخلّي عن أعظم نعمة عليّ كامرأة مسلمة. يعني العذاب وجهنّم. والعودة إلى ارتداء الحجاب بعد خلعه يعني استخفافًا بالدين وقلّة وعي ومهزلة.

من يقررّ كل هذا؟ أرغب بشدّة بسماع صوت الله!

خلع الحجاب يعني الخروج من السرب الذي لا أرغب بالانسلاخ عنه كليًا لأنّه منّي. السرب نفسه الذي يعتبر أفكاري اليوم بقايا ما خلّفته بيروت في داخلي من تلوّث فكري، ونتيجة لابتعادي عنه! بيروت نفسها التي أخشى وأرفض أن تضمنّي تحت جناحيها بصفة “المتحرّرة” من الدين. أين أنا من كل هذا؟

أفكاري قفيرُ نحل في رأسي، يهيّجه دخانُ الحيرة فيّ وغيابُ السلام. لهذا أكتب، على الرغم من أنّي أعلم أن هذا النص سيعود عليَّ بردود فعل قاسية، من الدائرتين القريبة والبعيدة. ربّما سأُقابل من جهة بعبارات تشجيع مثل “أنتِ اليوم حرّة”، وسأسمع من جهة أخرى عبارات مثل “الله يهديكِ”، و”شو صرلِك”. في الحقيقة لا أكتب لأي من الطرفين، بل لأن الساعات الطويلة التي أُمضيها مع صديقاتي اللواتي يعايشن الصراع نفسه، باتت حملًا ثقيلًا على عقلي وقلبي. أغرق في دوّامة حزن قاتم أهرب من تسميتها اكتئاب. أهرب من دموع صديقتي التي تعيش الصراعَ نفسه مع الضغط الممارس عليها من أهلها. أكتب لأنّي أبحث عن نفسي، ولأنجو من الصراع بصراع.

Banksy mural on the entrance of Bataclan Theatre

Banksy mural on the entrance of Bataclan Theatre

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015