ناصر الرباط/ جريدة الحياة- الولايات المتحدة مشغولة هذه الأيام بفضائح التحرش الجنسي التي انتشرت بشكل هائل في كل الأوساط الفنية والسياسية بعد انكشاف التاريخ القبيح والطويل لهارفي وينستين، مؤسس ومدير شركة وينستين للإنتاج السينمائي، وصاحب الرقم القياسي في التحرش بالنساء حتى الآن.
هذه الحملة حصدت الكثير من الممثلين والمنتجين والمخرجين والسياسيين والفنانين والمسرحيين، بعضهم يستحق الفضيحة التي نالتهم، وبعضهم ذنوبهم أقل بكثير من غيرهم. وهي إلى ذلك ربما أدت إلى تغيير المناخ الثقافي الذي جعل من عملية التواصل الجنسي عبئاً على المرأة ومجال صيدٍ ولهوٍ للرجل في كافة ثقافات العالم.
أي أن هذه الحملة، التي قد تطال الكثير من الضحايا، قد تكون المؤشر الحقيقي لاكتمال الثورة الجنسية التي بدأت قبل خمسين عاماً تماماً، والتي حررت المرأة من أعباء وأخطار الجنس، وسمحت لها للمرة الأولى في التاريخ باختباره على اعتباره متعة (وهي الخاصية الأولى للجنس بالنسبة للرجل منذ الأزل)، وإن لم تحرّرها حقاً من تبعات التحرر سلوكياً واجتماعياً وجندرياً. لكن الوقت ما زال مبكراً للتأكد تماماً من وجهة وآثار هذه الحركة الاجتماعية الصاعدة.
هذا على صعيد الثقافة الغربية، التي قطعت أشواطاً في تحرر المرأة في القرن الأخير، لم تحصل عليها بعد نساء الشرق، وبشكل خاص نساء الدول العربية والإسلامية، لأسباب تاريخية وعقائدية. وربما ما زال أمامهن مخاض طويل للبدء بتنسّم هذه الحقوق. هذا الطريق الطويل زاد طولاً وتعقيداً بتضاعف عذابات المرأة العربية في الآونة الأخيرة بسبب الحروب العدمية في أكثر من بلد عربي والتي أعادت، في ما أعادت، إلى الوراء بعض أشواط التحرر التي قطعتها نساء الشرق في القرن الماضي.
فالمرأة بشكل عام أضحت ضحية أساسية لهذه الحروب الفالتة من حيث كونها ضحية القتل والتشريد والاعتقال، كما الرجل طبعاً، بالإضافة إلى تعرض الكثير من النساء للاغتصاب والهتك والتحرش، وهي أدوات سيطرة وتحكم وتلذذ يستخدمها الرجال المحاربون من دون رقابة.
مئات آلاف النساء في العالم العربي المنهك بحروبه تعرضن لجرائم مريعة وعانين منها وحيدات ومنبوذات، لأن الثقافة ما زالت لا تحب الخوض في مسائل الجنس، تعففاً وتحرجاً على الظاهر وحفاظاً على امتيازات الرجل وتسلطه التاريخي المزمن على الأغلب. وهن يدفعن بسبب هذه المعاناة أثماناً باهظة من الموت في سبيل شرف العائلة إلى النبذ والافتقار والتشرد. وما زلنا كثقافة لا نريد مواجهة هذه المشاكل مباشرة وتحليل جذورها الحقيقية الدفينة.
في هذه المعمعة المؤلمة والتي ما زالت تمتد فصولاً لم تتم بعد، هناك فريق من النساء اللواتي عانين ويعانين الكثير من الألم من دون التعرض للعنف الجنسي أو الجسدي مباشرة. معاناتهن طويلة ومتكررة في التاريخ وإن كانت اليوم في أشد حالاتها تأزماً. وهن في غالب الأحيان يتقبلنها كالقضاء والقدر، ويتعذبن جراءها ببطء مُمض وربما بصمت أيضاً، لأن الثقافة السائدة لا تفسح لهن مجالاً كبيراً للتعبير عن ألمهن ألممض.
هذه المأساة التي تكثفها الحروب القائمة هي مأساة الأمهات بفقدان أبنائهن وبناتهن، والزوجات بفقدان أزواجهن، قتلاً واختفاءً قسرياً واعتقالاً تعسفياً وهجرةً وتشرداً، والتي لا يعادلها من الجهة الأخرى مأساة الأبناء والبنات بفقدان أمهاتهم أو الأزواج زوجاتهم، على رغم حقيقتها، لأن الطبيعة هيأتنا لتقبل ذلك على اعتبار أنه سنّة الكون، ولأن الثقافة السائدة طورت كوابح اجتماعية عدة تمنع النساء من التعبير عن ألمهن كما لذتهن.
فقدان الولد، فلذة الكبد كما يقال، هو مأساة مئات الآلاف من النساء في سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين وغيرها من بلدان العرب المنكوبة. صحيح أن للأولاد آباء يتألمون لفقدانهم أو اختفائهم، ولكن ألم الأب يجد لنفسه مخرجاً نفسياً واجتماعياً يخفف من وطأته. أما الأم، فهي الصابرة الساكتة، مفلوذة الكبد حقاً التي تعاني ولا تعبر ولا تجد منفذاً للتعبير عن ألمها إلا بمضاعفته بالعويل والبكاء، الجماعي أحياناً، أو الاستسلام والدعاء والصلاة وأخيراً تقبل القضاء.
معاناة النساء من كوابح الثقافة حرباً وسلماً موضوع آن أوان تسليط الضوء عليه ثقافياً وسلوكياً وقانونياً، من ضمن جملة معطيات موروثة قمعت المرأة من التعبير عن نفسها إرضاءً لبطركية المجتمع بشكل عام وذكورية امتيازاته بشكل خاص. وهي طبعاً غيض من فيض من معاناة النساء في كل مناحي حياتهن، من اللغة التي تحجبهن أو تضعهن في خانة سفلى إلى العادات والطقوس المجحفة بحقهن أو المهينة لهن ولكرامتهن الإنسانية، ومن التراتبية الاجتماعية والثقافية، إلى وسائل وفراغات التعبير عن الذات وانعدامها بالنسبة للعديد من نسائنا في فرحهن وحزنهن، وانتهاءً بالعنف المباشر على أجسادهن وأنفسهن.
هذه المنظومة الثقافية مترابطة حقاً وهي عاشت بلا تحديات حقيقية لقرون مما أكسبها نوعاً من المناعة التي تظهر في مقاومتها للعديد من التحديات الثقافية والاقتصادية والاستعمارية التي واجهتها في القرنين الأخيرين، وخاصة بسبب تقاربنا مع الغرب وقيمه وعاداته وإنجازاته وسيطرته على عالمنا الاستهلاكي. فنحن فتحنا فراغنا الثقافي لكل منتجات الغرب إلا ما يتعلق منها بتحرر المرأة، ما عدا القليل القليل مما يدغدغ الرغبة بالمزيد ولكنه لا يرضيها. ونحن ما زلنا لا نقرّ بتراثنا الذكوري بامتياز الذي أزال المرأة تماماً من الفراغ العام بحجة خطره عليها وأزال مشاعرها ورغباتها وشهواتها تماماً من الفراغ الخاص والفراغ الجنسي بحجة خطرها على شرف وعفة المجتمع، أو على الأقل ذاك النصف من المجتمع الذي لا يريد أن يتحمل تبعات شهواته.
ليس لدي أي وهم بأن النساء في مجتمعاتنا سيحصلن على ما أراه حقوقاً طبيعية لهن في أي وقت قريب، وإن كنت أجزم أنهن حاصلاتٍ عليها ولو بعد حين. ولكن الحروب في التاريخ بشكل عام قد فتحت المجال الثقافي لمراجعات أدت بعد زمن إلى تغييرات جذرية في بنية وقيم المجتمعات التي خاضتها.
لا يمكننا التنبؤ بما ستحدثه الحروب العـدمية المتطاولة في بلاد العرب على المدى الطويل، وإذا كان لنا أن نحكم على ما يحصل الآن، فالنتائج بالنسبة للمرأة كانت أكثر من سلبية. ولكن التغيير يغير من وجهته دوماً، والقوى الاجتماعية الواعية تساهم في دفعه باتجاه التحرر والتقدم. هذا طبعاً إذا كانت هذه القوى واعية ومؤهلة للعب دور تاريخي.