ينظّم قانون الأحوال الشخصية في سوريا قضايا: الزواج والطلاق والنسب والحضانة والوصايا والميراث، وتشهد محاكم الأحوال الشخصية السورية تقسيماً تبعاً للطوائف الدينية، حيث لكلّ طائفة محاكمها المذهبية وتشريعاتها الخاصة ـ ينتج عن ذلك واقع تعدّد القوانين تبعاً للانتماء الطائفي، وما لذلك من أثرٍ كبير على تعميق الانقسام الاجتماعي والمذهبي، وتعزيز سلطة رجال الدين، على حساب السلطة التشريعية، المُناط بها سلطة التشريع، بما تُمليه حاجات الواقع، ومبادئ الحقّ والعدالة.
إنّ قوانين الأحوال الشخصية، وخاصة الشرعية منها، تعاني من الجمود أمام واقع المرأة السورية المتحرّك على مختلف الأصعدة، بما يزعزع موضوعياً الأسس والموجبات التي يقوم عليها هذا القانون.
إضافةً إلى أنّ قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها، يتمّ تعديلها بشكل منفصل كلّ طائفة على حدة، هذا يولّد تفاوتاً على أرض الواقع، ليس على أساس إمكانيات وتطوّر الفئات الاجتماعية المختلفة، بل على أساس الانتماء إلى مذهب ما.
أضف لذلك أنّ قانون الأحوال الشخصية، يقوم على التمييز ضدّ المرأة، وينتهك حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، التي تشمل حقّ الحياة والاحترام والعدالة والحرية وحقّ المرأة في العمل وحقّها في الخصوصية وحقّها في حياة كريمة.
كلّ ذلك يدعو إلى ضرورة التغيير لإيجاد حلول تتوافق مع العصر.
إنّ السياق الذي وُضِعَت فيه هذه القوانين، يؤكّد على أنّ الصراع بين الفكر الديني والفكر المدني هو الأساس الذي بُنِيَت عليه قوانين الأحوال الشخصية السائدة.
وبناءً عليه سوف نسلّط الضوء على الحل المدني، وإمكانية العمل على صياغة قانون للزواج المدني، من خلال مقاربةٍ تُساهم في تبديد المخاوف المتداولة حول الزواج المدني.
مقدمة
يلعب قانون الأحوال الشخصية دوراً مهمًا ومؤثّراً في تحديد العلاقات الاجتماعية، حيث يقرّر نوع العلاقة وشكلها بين أفراد الأسرة، ويحدّد حقوق وواجبات كلّ فردٍ من أفرادها، كما يحدّد خيارات الزواج والطلاق ورعاية الأطفال والأمور المالية، سواء الناتجة عن الطلاق، أو الميراث أوالوصية. هذا من جهة؛ من جهةٍ أخرى فإنّ قانون الأحوال الشخصية هو الذي يبيّن ويفضَح وضع المرأة في التراتبية الاجتماعية – والانتهاكات الجسيمة لمبادئ حقوق الإنسان ذات الصلة بها.
جاءت قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في البلدان العربية، نتيجة مساوماتٍ تشريعيّة بين المرجعية الدينية الفقهية، وبين المرجعيات القانونيّة الوضعيّة الحديثة، التي حدثت في سياقاتٍ سياسية واجتماعية. حيث ساهم أنصار الأصولية في الضغط من أجل صياغة هذه القوانين، في ظلّ ضعف قوى المجتمع المدني ومنها المنظمات النسائية، وتجاهل القوى السياسية لحقوق المرأة.
لكن في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، ومع اختلاف الظروف، قامت عدّة دولٍ عربية في إحداث تغييرات هامة في أوضاع النساء، و أجرت تعديلاتٍ على قوانين الأحوال الشخصية. على سبيل المثال: تمّ إلغاء تعدّد الزوجات في تونس والعراق، وتمّ وضع قيود على تعدّد الزوجات في سوريا ومصر.
شاركت المرأة العربية في الربيع العربي، من أجل استعادة الحقوق، على أمل تحقيق العدالة، وإلغاء التمييز على أساس الجنس في الحياة والقوانين، على طريق المساواة. وطرأت الكثير من التغيّرات على أوضاع النساء والمجتمع، حيث اضطرت المرأة للنزوح والهجرة دون إذنٍ من زوجها أو عائلتها، وأصبحت المرأة المُعيلة لعائلتها، وضاقت كثيراً قوانين الأحوال الشخصية، وتحوّلت الى أداةٍ بيد الاستبداد الديني والسياسي، للجم حركة الواقع نحو التحرّر، من خلال القوانين المُعَادية للنساء، التي وُضِعَت تحت غطاء الأسلمة، لتعزيز سلطاتهم، بما يضمن تقييد نصف المجتمع، والنتيجة ستكون إضعاف المجتمع برمّته.
السياق التاريخي لقوانين الأحوال الشخصية
إن قضية الصراع بين الوحي والعقل، بين الحداثة والتقليد، تمتد جذورها بعيداً في التاريخ العربي والإسلامي، منذ بدأ الصراع بين القدريّة والجبريّة، واستمر الصراع بين المُعتَزِلة والأشاعِرة، وتحوّل فيما بعد إلى نزاعٍ بين أنصار الوحي حيث يكون مصدر العدالة إلهيّاً بالدليل الذي قدّمه الوحي، وبين أنصار العقل، الذين أكّدوا على ضرورة إعمال العقل والاجتهاد وفق مقتضيات العصر.
تمّ في العصر الحديث، إعادة النظر في العدل الإلهي على يد مفكرين مسلمين، بعد أن أدركوا أنّه لم يعد يُلائم الواقع، حيث انقسم العلماء المسلمون حول مسألة تبنّي مقاييس العدل الغربية إلى مدرستين: الأولى المدرسة النهضوية؛ يُدعى أتباعها بالأصوليين، وتتألف من العلماء الذين رفضوا المعايير الغربية لأنها تتناقض مع المعايير الإسلامية بحجّة كونها علمانية. أما المدرسة التحديثية فتضمّ علماء تلقوا تعلميهم في الغرب أو في مؤسساتٍ أُنشئت على النمط الغربي. كما برزت مدرسةٌ في محاولة التوفيق بينهما على يد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده في القرن الثامن عشر (1).
بقيت الأحوال الشخصية من دون تدوين حتى عام 1917م، عندما أصدرت الدولة العثمانية قانوناً[i] لأحكام الزواج والفرقة للمسلمين والمسيحيين والموسويين،كلٌّ بحسب شرائعهم، وأسمته “قانون حقوق العائلة”.
بعد الحرب العالمية الأولى، شهد العالم الإسلامي تحوّلاً كبيراً من دولة عالمية إمبراطورية، إلى دول قومية، بعد أن ألغت تركيا دور الشريعة في الحكم والتشريع، باستثناء أبواب الشريعة التي تقتصر على معالجة الشعائر الدينية والعبادات. في حين بقيت الدول التي انفصلت عنها تُراعي الشريعة أو تعتمدها، على وجه الخصوص في قوانين الأحوال الشخصية.
ولعلّ أول من استعمل هذا المصطلح في الفقه العربي الإسلامي في مطلع القرن العشرين العلامة المصري “محمد قدري باشا”، مؤلّف كتاب “الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية”، صنّفه في 647 مادة قانونية، أخذت جميعها من القول الراجح في مذهب الإمام أبي حنيفة، ثم شاع هذا الكتاب وانتشر في أكثر الأقطار العربية والإسلامية.
بعد الحرب العالمية الثانية؛ تمت الدعوة إلى الاجتهاد وإذكاء روح الاجتهاد المعاصر وأسهم الفقيه القانوني الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (الوسيط) وكتابه (مصادر الحق) في تشجيع رجال القانون على الموازنة بين الفقه الإسلامي والنظريات القانونية الحديثة: بلدان المغرب العربي، تونس، المغرب، الجزائر، أخذت بهذا المبدأ وعملت على إبراز قانون الأحوال الشخصية على هيئة اجتهادٍ شرعيّ معاصر.
ويعتبر قانون العائلة التونسي منذ عام 1956؛ الأكثر تطوّراً حيث أُجريت عليه تعديلات جذريّة لصالح النساء، واستمر التعديل عليه حتى تمّ إلغاء كلّ إشكال التمييز بين المرأة والرجل بعد الربيع العربي(2).
القانون والأحوال الشخصية في سوريا
صدر قانون الأحوال الشخصيّة السوريّ بالمرسوم التشريعي رقم 59 بتاريخ 7/9/1953 وتمّ تعديل القانون في 1975، ثمّ في 2004. وحافظ النظام السياسي على هذه القوانين دون تعديلٍ جوهري، وجاءت التعديلات التي طرأت عليه، شكليّة، لم تؤثّر على الأساس الذي بُنِيَ عليه القانون، كتعديل سنّ الزواج وتعديل سنّ الحضانة.
تنصّ المادة 305 من قانون الأحوال الشخصية[ii] على أنّ: كل ما لم يرد عليه نصّ في هذا القانون يرجع فيه إلى القول الأرجح في المذهب الحنفي. مع أنّ هذاالقانون استقى بعضاً من مواده من مصادر فقهية أُخرى الحنبلي والشافعي والمالكي. وما لذلك من تأثيرٍ على تفسير القوانين في معرض تطبيقها أمام القضاء.
أهم ما يُؤخذ على النصوص القانونيّة الشرعيّة، إنّ المرأة في هذا القانون موضوعٌ للإنجاب والمتعة مقابل مهر ونفقة من قبل الزوج على زوجته، أثناء قيام الزوجيّة وفي العدّة وعليه أُجرة الحضانة والإرضاع، ويعكس القانون تقسيماً معيّناً للعمل يمتلك به الرجل المرأة، مقابل طاعتها الكليّة وخدماتها الجنسيّة والإنجابيّة والمنزليّة.
هذا القانون ينزع المرأة من الحيّز العام، فعملها رهنٌ بموافقة الزوج حتى عندما تشترط المرأة في عقد الزواج على حقّها في العمل، يمكن للرجل منعها، ويمنحها القانون في هذه الحالة الحقّ في التفريق. كما يضمّ القانون مواد تضع المرأة تحت الرقابة والوصاية وولاية الذكور من عائلتها، ثم تنتقل هذه القيود إلى زوجها، فاسحاً في المجال أمام استخدام كلّ وسائل العنف لتأديب المرأة بدءاً بضربها وحتى قتلها.
قوانين الأحوال الشخصية للطوائف الدينية من غير المسلمين
تنصّ المادة 306 من قانون الأحوال الشخصية في سوريا: تطبّق أحكام هذا القانون على جميع السوريين سوى ما نستثنيه في المادتان التاليتان:
المادة 307: لا يعتبر بالنسبة للطائفة الدرزيّة ما يخالف الأحكام التالية: أهم هذه الأحكام: أن لا يقع الطلاق إلا بحكم القاضي وبتقرير منه.[iii]
لا يجوز عودة المُطَلّقة إلى عصمة مُطَلّقها. تنفّذ الوصية للوارث وغيره بالثلث وبأكثر من الثلث. لا يجوز تعدّد الزوجات، لا تسري أحكام اللِعان والرِضاع على أفراد الطائفة.
المادة 308: تطبّق بالنسبة إلى الطوائف المسيحية واليهودية ما لدى كلّ طائفة من أحكام تشريعيّة دينيّة تتعلّق بالخطبة وشروط الزواج وعقده والمتابعة والنفقة الزوجية ونفقة الصغير وبُطلان الزواج وحلّه وانفكاك رباطه وفي البائنة والحضانة.
بعد صدور المرسوم رقم 76 لعام 2010 القاضي بتعديل المادة 308 من قانون الأحوال الشخصية، أصبحت المحاكم الروحيّة للطائفة المسيحيّة: ذات اختصاص في مسائل الإرث والوصية اللتان كانتا من اختصاص المحاكم الشرعيّة.
و تبعاً للمذاهب سار قسمٌ منها، الروم الكاثوليك، على خطى الكنائس في الغرب، وعُدّلت تشريعاتها وصدر القانون رقم 31[iv] لعام 2006، حيث حصلت المرأة السورية التي تنتمي إلى الطائفة المسيحية على المساواة مع الرجل في ما يتعلّق بالإرث، وأصبح لها سلطة متساوية على الأولاد في الوصاية والنفقة والولاية، بينما يتدخّل القاضي للفصل في حال الخلاف بين الزوجين في موضوع الوصاية والولاية على الأولاد. كما سجّلت المحاكم الروحيّة تطوّراً آخر لجهة اعتماد الحمض النووي في إثبات النسب.
قانون الطوائف الكاثوليكية: رقم 31 لعام 2006 في المادة 1: يختصّ هذا القانون بالطوائف المسيحية الكاثوليكية التالية: طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، الطائفة المارونية، الطائفة الأشورية الكاثوليكية، الطائفة الأرمنية، الكاثولكية الطائفة السريانية الكاثوليكية، الطائفة الكلدانية، الطائفة اللاتينية. نُشير هنا إلى أنّ كلّ واحدةٍ من هذه الطوائف لها محاكمها الروحيّة الخاصّة.
بينما تتميّز أحكام الأحوال الشخصية للروم الأرثوذكس وفق القانون رقم 23 لعام 2004 بالمحافظة والجمود، مثالٌ على ذلك ما ورد في المادة 6 فقرة ب من القانون إقامة الخطبة بين قاصرين لم يبلغا سنّ الرشد. ونصّت المادة 57 على أنّ المحكمة بمحض إرادتها أن تحكم بالهجر حتى ولو لم يُطلب إليها ذلك.[v]
تشكيل محاكم الأحوال الشخصية في سوريا
استحدث المشرّع السوري المحاكم المذهبيّة والروحيّة والشرعيّة وفق المواد 34 و35 و36 من قانون السلطة القضائيّة رقم 98 لعام 1965.[vi]
المحاكم الشرعيّة: وهي المحاكم التي تفصِل في قضايا الأحوال الشخصيّة للمسلمين، واتخذت اسمها من أنّ مصدر أحكامها الشريعة. ويتمّ تعيين أعضائها من قبل مجلس القضاء الأعلى.
حدّد قانون السلطة القضائية الاختصاص المكاني للمحكمة المذهبيّة الدرزيّة في نطاق محافظة السويداء، أما في بقيّة المحافظات، يبقى الاختصاص للقضاء الشرعيّ العادي لينظر في دعاوى الدروز وفق أحكامهم.
نصّت المادة 90 من القانون 23 لعام 2004 على أن: “يتولّى البطريرك تشكيل محكمة الاستئناف من رئيس ومستشارين ويعيّن رئيساً رديفاً ومستشارين ملازمين.” نلاحظ أنّ البطريرك هو من يقوم بتعيين القضاة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الطوائف الأخرى في تشكيل المحاكم الروحيّة.. ويشكّل التعيين من قبل المراجع الطائفية، تعدّياً على اختصاص مجلس القضاء الأعلى صاحب الصلاحية بالتعيين.
الآليّة في تشريع قوانين الأحوال الشخصية
يتم بدايةً وضع القوانين من قِبَل المرجعية الدينية الخاصة بكلّ طائفة، وتُطرح في مجلس الشعب لإقرارها وبعدها يتمّ التصديق والنشر وتصبح قانوناً. على سبيل المثال: في الأسباب الموجبة للقانون رقم 23 لعام 2004؛ نقرأ: أودعنا غبطة اغناطيوس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس قانون الأحوال الشخصية وأصول المحاكمات، الذي تمّ اعتماده من المجمع المقدّس 16/ 10 /2003، وطلبنا اعتماد هذا القانون.
غالباً يتمّ إقرار هذه القوانين دون الكثير من النقاش، وقد يتمّ رفض مواد تحت مُسمى مخالفة النظام العام. دور المجلس في هذه الحالة يكون سلبياً ويدعم القيم المُتخَلّفَة. حيث رُفِضَت مواد تتعلّق بالولاية والتبنّي من القانون رقم 31 لعام 2006؛ لمخالفتها النظام العام.
الزواج والاختلاف في الدين
تُواجه الزواج المختلط ما بين السوريين، مشكلة تمنع الزواج من خارج الطائفة تقوم على أساس قانوني. كلّ المذاهب تمنع الزواج من خارج الطائفة، أمام محاكمها الطائفية. حيث يُمنَع زواج الدرزيّ أو الدرزيّة من خارج المذهب أمام المحكمة الدرزيّة، حتى أنّه لا يُقبَل طلب الدخول إلى المذهب من قِبَل المحكمة. ويُمنَع زواج المسيحي من خارج الطائفة إلا بعد المعموديّة. ويُعتبر اختلاف الدين من موانع الإرث وفق المادة 178 من القانون رقم 31 قانون الطوائف الكاثوليكية.
المادة 48 من قانون الأحوال الشخصية؛ فقرة 2 تنصّ: أنّ زواج المسلمة بغير المسلم باطل. وفي المادة 50 من القانون الزواج الباطل لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح لا نسب ولا توارث لاختلاف الدين. وبناءً عليه على المسيحي تغيير دينه، حتى يُقبل زواجه من مسلمة.
قرارٌ مبني على الإكراه والقسر ونتيجته مقاطعة ورفض اجتماعي، المرأة المسيحيّة في حال تمسّكت بديتها فأولادها من زوجٍ مسلم لن يرثوها ولا ترثهم بحكم القانون لا توارث مع اختلاف الدين.
لهذه الأسباب يعيش الأبناء تحت رقابة وتدخل الأهل في صداقاتهم وعلاقاتهم، والتحذير من توطيد علاقاتهم خارج طوائفهم خوفاً من إقدامهم على خيار الزواج من خارج الطائفة؛ لأنّ التفكير بهذه الخطوة عواقبها وخيمة خاصّةً اتجاه النساء، حيث يتمّ تهدديهن بالقتل.
الحل عبر الزواج المدني
“تعتبر الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع، تتمتع بحقّ حماية المجتمع والدولة. الرجل و المرأة، متى أدركا سن البلوغ، يحقّ لهم الزواج وتأسيس أسرة، دون أيّ قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق عند الزواج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله” ( المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
في الدول التي تطبّق الزواج المدني، هناك نوعان من الزواج المدني: الأول يُدعى “الزواج المدني الرسمي” الذي ترعاه الدولة، والثاني “الزواج المدني على أنه عقد خاص”. وسواء كان العقد خاصاً أم عقداً مدنيّاً رسميّاً، يعتبر الزواج: أنّه عقدٌ حرٌّ قانوني يجمع بين رجل وامرأة.
أما مبرّرات تدخّل الدولة بعقد الزواج الرسمي، فهي لما يترتب على الزواج من نتائج هامة تتعلّق بحقوق الأطفال، والإرث وتوزيع الملكية والضمانات الاجتماعية. حيث يتمّ تقسيم الملكيّة في حالة الطلاق بين الرجل والمرأة، لأنهم يعتبرون الزواج يخلق قواعد الشراكة الاقتصادية، وتتدخّل الدولة في حال الخلاف بشأن تقسيم الملكية.
أما في عقود الزواج الخاصة: عندما تكون بنوده واضحة وقابلة للتطبيق على شرط أن لا تتعارض مع المبادئ الإنسانية وحريّة التعاقد، لا شيء يمنع الدولة من احترام عقد الزواج المدني الخاص، المُحَرّر بين طرفين وتنفّذ بنوده.
في الزواج المدني الخاص، يتم تحديد قواعد الإرث فيه ضمن العقد، أو في الوصية التابعة له،.. أما فيما يتعلّق برعاية الأطفال بعد الطلاق أو الفسخ، يمكن تحديد قواعدها في العقد نفسه (ضمن قواعد تحدّد من قبل الدولة لتجنّب النتائج السيئة) مما يسمح بحفظ حقوق الأطفال المادية والإنسانية..
بالنسبة إلى المرأة غير العاملة: يفرض عقد الزواج المدني حمايتها ماديّاً في حال وقع الطلاق، ويمكن تحقيق هذه الحماية عبر العقد الخاص الذي يمكن تنفيذه عبر مؤسسات القضاء في حال وقع الخلاف.
نجد أنّه لا مبرر من المخاوف المطروحة حول الزواج المدني، في حال أراد شخصٌ أن يتزوّج وفق قانونٍ مدنيّ خاص، له الحقّ أن يضع شروط العقد وفق أحكام الشريعة الإسلامية.. مع وضع قواعد عامة محدّدة من قبل الدولة. وعليه لم يتم فرض نموذج واحد محدّد للزواج المدني، مراعاةً للحاجات الشخصيّة المتنوّعة.
أما المخاوف التي ترى القانون المدني يهدّد رابطة الزواج بسبب سهولة حلّه، فهذه ميزة تكسبها المرأة من خلال العقد المدني، لأنّ الرجل له حريّة الطلاق بالإرادة المنفردة، وفق القانون الشرعيّ، وبسهولةٍ أكبر من القانون المدني، الذي يضمن حقّ المرأة بقوّة العقد، وتوزّع بينهما الملكية مناصفةً، وحقوق الأطفال مضمونة.
اختلاف الدين بين الزوجين؛
لاعلاقة لقانون الزواج المدني، في مسألة الاختلاف في الدين بين الزوجين، بل من أهم مظاهره، استقلال القانون عن الدين، ولو افترضنا مجتمعاً جميع أفراده يعتنقون نفس الدين، هذا لا يعني عدم ضرورة وجود عقد زواج مدني، كذلك الأمر في حال الاختيار من الطائفة نفسها سيكون أيضاً زواجاً مدنيّاً، يقوم على حريّة الاختيار بين طرفين راشدين يتمتّعان بالحقوق والواجبات نفسها.
ومن جهةٍ أُخرى؛ قانون الزواج المدني سيقدّم حلاً لمشكلة هامة وهي الاختيار من خارج الطائفة.
النتيجة
بين واقع حال قانون الأحوال الشخصية القائم الذي ينتهك حقوق الإنسان والمواطنة ويقوم على التمييز على أساس الجنس وعلى أساس الطوائف، وبين ما يجب أن يكون عليه القانون والدستور: عادلاً له طابع تجريدي عام، يضمن مساواة جميع المواطنين، لا يخدم أيديولوجية خاصة، وضرورة أن تُصاغ القوانين، بما ينسجم مع العدالة وحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية.
وهنا نشير إلى ضرورة إلغاء التحفّظات على اتفاقية السيداو؛ التي وقّعت عليها الحكومة بالمرسوم رقم 333 لعام 2002، لكن بعد أن وضعت العديد من التحفّظات التي جرّدت الاتفاقية من معناها، حيث جاءت التحفّظات على المواد:
المادة 16 بند 1 فقرة ج، د، و، ز؛ التي تمنح المرأة حقوقاً مساوية للرجل في الزواج والطلاق والقَوامة والوصاية وحقّها في اختيار المهنة والوظيفة واسم الأسرة وتحديد سن أدنى للزواج والتسجيل الإلزامي للزواج.
وعلى المادة 15 الفقرة الرابعة التي تمنح المرأة حقّاً مساوياً للرجل فيما يتعلّق بالقوانين المتصلة بحركة الأشخاص واختيار مكان السكن والإقامة.
وعلى المادة الثانية التي تقضي: بتجسيد المساواة بين المرأة والرجل في الدساتير الوطنية والتشريعات والقوانين.
أتحفنا النظام بالمرسوم التشريعي رقم 230 بتاريخ 16 ـ 7 ـ 2017 القاضي “بإلغاء تحفّظ الجمهورية العربية السورية على المادة الثانية من اتفاقية القضاء على كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة؛ وفق قيد أن لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
نجد أنّ التحفّظات الموضوعة تقوم على أساس عدم المساس بالقوانين السائدة، وعدم الاستعداد لتغيير هذه القوانين، وعدم الاستعداد حتى للاجتهاد بالنصّ الديني وفق مقتضيات العصر.
التوصيات
1ـ ضرورة جمع تشريعات الأحوال الشخصية في قانون مدني واحد يكرّس مفهوم المواطنة والانتماء إلى دولة وليس إلى طائفة.
2ـ توحيد المرجعيات القضائيّة وبناء قضاء مختص بالأحوال الشخصية ….
3ـ أهمية الفصل بين السلطات حيث تكون السلطة التشريعيّة وحدها المُناط بها مهمة تشريع القوانين، والقضائية عليها تطبيق هذه القوانين وإصدار الأحكام وحماية حقوق المواطنين. وعلى السلطةالتنفيذية ضمانة تنفيذ هذه الأحكام.
4ـ استقلال الدين عن الدولة، يعني ذلك استقلال عن أجهزتها، أي لا تكون سلطتها القضائية والتنفيذية والتشريعية تابعةً للمصالح الخاصّة من أيّ أيديولوجيةٍ كانت.
المراجع :
[1] كتاب: د. مجيد خدوري مفهوم العدل في الإسلام ص 228
[2] على سبيل المثال في المملكة المغربية؛ حيث يعتبر الملك المغربي هو “أمير المؤمنين” دستوريًّا. أجرى الملك تعديلات على مدوّنة الأحوال الشخصية المغربية، وصفت بالثوريّة، تركّزت على 11 نقطة تتعلّق باقتسام مسؤولية رعاية الأسرة بين الزوج والزوجة، واعتبار الولاية حقّاً للمرأة، وتقييد التعدّد، وتوحيد سنّ الزواج وسنّ اختيار الحاضن بالنسبة للذكر والأنثى، وحماية حقّ الطفل في النسب، وجعل الطلاق حلّاً لميثاق الزوجية يُمارس من طرف الزوج والزوجة، وإعطاء أبناء البنت الحقّ في الإرث من جدهم، وحقّ المرأة في الأموال المكتسبة أثناء الزواج وجعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين.
[i] كتاب مفهوم العدل في الاسلام د. مجيد خدوري صفحة 228
[ii] قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 تاريخ 7/9/1953. .
[iii] المادة 307 من قانون الأحوال الشخصية في سوريا.
[iv] قانون الطوائف الكاثوليكية في سوريا: رقم 31 لعام 2006
[v] الأحوال الشخصية للروم الأرثوذكس وفق القانون رقم 23 لعام 2004
[vi] قانون السلطة لقضائية رقم 98 لعام 1965.
ورقة بحثية أعدّتها المحامية سحر حويجة لصالح ARAB REFORM INITIATIVE “مبادرة الإصلاح العربي” & نشرها مؤخراً موقع (المنتدى القانوني السوري) الإلكتروني.