عبد الرحمن عرفة/ arageek- تُعرّف النسوية على أنها الإيمان بالمساواة بين كلا الجنسين في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. رغم أنها لاقت رواجاً واسعاً خصوصاً في الأوساط الغربية، فإن النسوية في أصلها موجّهة لجميع أنحاء العالم، وقد استطاعت أن تعبّر عن نفسها من خلال الكثير من المؤسسات والمنظمات المهتمة بحقوق المرأة وما يُعنى بذلك.
خلال معظم التاريخ الغربي، كانت المهام المنزلية مَنوطة الفعل بالمرأة، بينما الخارج وما يشمله من تبعات، يتولى الرجل مسؤولية القيام به. وفي عصور الظلام الأوروبية كانت المرأة ممنوعة من حق امتلاك عقار، أو الدراسة، أو حتى مجرّد المشاركة في الحياة العامة. وفي نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا، كانت النسوة يُجبرن على أن يُغطين أيديهن عند المشي في الطرق العامة، وفي أجزاء من ألمانيا كان لا يزال الزوج يمتلك الحق في أن يبيع زوجته.
وحتى نهايات القرن العشرين، كانت المرأة لا تملك الحق في التصويت، كما أنها كانت ممنوعة من إدارة عمل ما دون وجود كفيل ذكر، كوالدها، أخيها، زوجها، أو أي أحد على علاقة قانونية بها، كابنها مثلاً. كما أنها كانت ممنوعة بشكل شبه كامل أحياناً، أو بعوائق كثيرة أحياناً أخرى من الحق في التعليم لكثير من مجالات الدراسة والمهن.
وفي الكثير من بقاع العالم إلى وقتنا الحالي، لا تزال هذه العوائق موجودة. إن لم تكن قانونياً، فوجودها اجتماعياً ما يزال قائماً.
النسوية في العالم القديم أو الموجة النسوية الأولى
ترجع إلى حدود الألفية الثالثة قبل الميلاد. إذ تُشير بعض الأدلة إلى أنّ النسوة الرومانيات قمن بالحشد في معبد الكابيتولين على هضبة الكابتوليوم الرومانية، وحظروا الدخول وأغلقوا المخارج، ذلك عندما قام الحاكم ماركوس بورشيوس كيتو بمقاومة إلغاء بعض القوانين التي تحدد على المرأة الرومانية بيع واستخدام بعض السلع النفيسة غالية الثمن.
حينها بدأ الحاكم كيتو باللطم والنواح والقول: إذا انتصرن بفعلتهن هذه، ماذا سيفعلن حينها؟ لا بد أنهن سيطالبن بالمساواة. ومن بعدها يصبحن أكثر تفوقاً منّا.
وقد كان تمرداً استثنائياً وبارزاً في تاريخ روما القديم. على الرغم من أن التاريخ المدوّن لا يتكلم إلا عن مجرّد أصوات فردية وتكتلات صغيرة هي التي كانت تصرخ وتنادي ضد حالة المرأة المتدنية ذاك الوقت. أما في نهايات القرن الرابع عشر وبدايات الخامس عشر، فقد ظهرت في فرنسا الفيلسوفة النسوية “كريستين دي بيسان” التي انتقدت المواقف المتحيزة ضد النساء وطالبت بصوت جريء بالسماح للمرأة بالتعليم. وقد أخذت فيما بعد مسؤولية حمل هذه العبء عنها “لورا كيريتا” وهي كاتبة إيطالية قامت بنشر مجموعة من الرسائل تحت عنوان رسائل شخصية: من أجل نهضة نسوية. تناولت بها شكاوي النساء بما تشمل من قمع وحرمان من التعليم وتشديد نمط شكل اللباس عليهن.
ولم يحتد هذا الدفاع عن الحقوق إلا في القرن السادس عشر مع ظهور “موديريتا فانتي” التي نُشرَ كتابها بعد وفاتها. وقد نقدَ البعض هذا التوجه الأنثوي الجديد بالقول بأنّ النساء في طبيعتهن سطحيات وغير أخلاقيات. لكن ظهور الأفكار النسوية ساهمَ في انبثاق نمط جديد من النسوة الشجاعات الطامحات لتحقيق إنجازات، والوصول إلى نتاج فكري مميز مساوي للبقية، في حال أُعطوا الحق في التعليم بشكل حر.
ولم يصل الجدل في موضوع النسوية إلى إنكلترا حتى نهايات القرن السادس عشر، عندما نُشرت بعض الأعمال الورقية الساخرة من النساء ومن طبيعة المرأة. عندها ظهرت أول كتابة نسوية في إنكلترا على يد “جاين آنجير”. واستمر هذا الأخذ والرد طيلة القرن، حتى ظهرت في القرن السابع عشر نسوية أخرى تدعى “ماري آستيل” قامت بنشر كتاب تحت عنوان: مقترح جدي للسيدات، اقترحت فيه أن النسوة اللاتي لا يملن إلى الزواج ولا إلى الإذعان الديني، ينبغي عليهن إنشاء حركة علمانية يطالبن بها بالعيش والعمل والدراسة.
تأثيرات عصر التنوير على الحركة النسوية
لم تجتمع الأصوات النسوية في عصر النهضة لتشكل نسيجاً واضحاً لرؤيا متكاملة عن المرأة. هذا الأمر حدث فقط مع بداية عصر التنوير في أوروبا، عندما بدأت النساء تطالبن بإعادة تشكيل المفاهيم السائدة عن التحرر، المساواة، وطبيعة الحقوق الممنوحة لكل من الجنسين.
مع بداية التنوير، كان التركيز الفلسفي منصباً على التحقيق في عدم المساواة بين الطبقات الاقتصادية، وحتى الطبقات الاجتماعية والإقصاء الجنسي. فالفيلسوف المشهور صاحب العقد الاجتماعي، جان جاك روسو كان يرى في النساء كائنات سخيفة وتافهة، وُلدوا كي يكنّ تَبعة للرجال. وحتى الإعلان الحقوقي الذي عقب حدوث الثورة الفرنسية لم ينجح في تصحيح حالة المرأة وتصويب صورتها.
عندها تسارع عمل النسويات أكثر مع استشعارهن للضعف في تناول الموضوع وعرضه، إذ نشرت الكاتبة الفرنسية “أوليمي دي جوجيس” إعلاناً تحت عنوان: إعلان عن حقوق المرأة كمواطن. صرحت فيه أن المرأة ليست فقط مساوية للذكر في كل شيء. بل هي شريك حقيقي له أيضاً. وفي السنة التالية قامت “ماري فولشتونكرافت” بنشر مخطوط تحت عنوان: إثبات حقوق النساء. وهو عمل نُشرَ بلغتين، تحدت فيه مفهوم أن المرأة مخلوقة فقط من أجل خدمة الرجل، واقترحت إعطاء فرص متساوية في التعليم، والعمل، والسياسة للذكور والنساء؛ فالمرأة في نظرها عقلانية بنفس درجة عقلانية الذكر. وإن أبدين سخافة ما، فهو نتيجة للقمع المجتمعي الذي جعلهن غير مطلعين على الأمور.
لم يلبث عصر التنوير إلا أن تحوّل إلى حالة من الصراع السياسي مع انطلاق الثورات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وصعود حركات التحرر وإلغاء العبودية.
في الولايات المتحدة الأمريكية، أخذت الأفكار النسوية بعداً أعمق في ضوء إلغاء العبودية، إذ سعوا إلى تطبيق مبادئ الحرية والمساواة على حالتهم الاجتماعية والسياسية أيضاً. وهذا ما جمعهن مع نفس المبادئ التي تبنتها النسويات التحرريات في إنكلترا وتوصلن إلى نفس النتائج. وفي منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت القضايا النسوية وما يرتبط بالمرأة من أكثر محدثات الاضطراب في الوسط الاجتماعي، لا سيما مع انتشار أفكارهن لكل من أوروبا وأمريكا الشمالية.
وفي أول مقالة نسوية لها، تجرأت بها على تذيلها باسمها الحقيقي. قامت الكاتبة الألمانية “لويز اوتو” بالتعقيب على عمل “تشارل فورييه” وهو منظّر اجتماعي فرنسي. مقتبسة رأيه بالقول: “بالنظر إلى حال النساء في أرض ما، يمكننا أن نعرف هل هذه الدولة متحررة أم لا تزال تسبح في الضباب”. بعدها بدأت النساء في باريس بإنشاء جريدة يومية تحت اسم: صوت المرأة. وتتالت المنشورات، إذ قامت أيضاً كاتبة ألمانية تدعى “لويز ديتمار” بإنشاء مجلة بعنوان: إعادة صياغة المجتمع.
توّجت هذه النقاشات والجدالات بقيام أول معاهدة في حقوق المرأة عام 1848 في مدينة نيويورك. كانت فكرة تلقائية جداً حدثت خلال اجتماع “لوكريشيا موت” الناشطة الاجتماعية و”مارثا رايت” وهي أخت موت، وماري ان ميكلينتوك” و”جاين هونت” و “اليزابيث ستانتون”. تم التخطيط لهذه الاتفاقية وتنسيقها خلال خمسة أيام، ثم نشرت كإعلان صغير في إحدى الصحف المحلية بدون إشارة لأسماء أصحابها.
قامت إليزابيث ستاتون بالتمهيد لهذه الاتفاقية من خلال إعلان تشويقي صغير، أشبه ما يكون بإعلان استقلال ينص على أن كل الذكور والنساء قد ولدوا بحقوق متساوية، بالإضافة لكتابتها ما يقارب من 11 بنداً تضمنت مطالبها الأشد نسويةً ألا وهي الحصول على حق التصويت. ذلك بالتعاون مع “فريدرك دوغلاس” أحد العبيد المحرَّرين المدافعين عن الحقوق النسوية. وقد مرت هذه البنود الـ 11 كلها، وحصلت النسوة حينها على ضمانات في مشاركة الرجل في حقوق المِهن والتجارة.
واستمرت حركات الأخذ والرد والجدالات على مختلف الأصعدة مع صعود وتنامي تدريجي لحقوق المرأة وتخفيف تزمت المجتمع تجاه ذلك، إلى أن دخلت مرحلة جديدة عرفت باسم الموجة الثانية.
الموجة النسوية الثانية
تسمى الحركة النسوية خلال الفترة الممتدة بين الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين بالموجة النسوية الثانية. وقد ارتبطت بدايات هذه الموجة مع تغير الأفكار الأمريكية السائدة عن المرأة في التقليد الريفي والثقافة الشعبية في أنها أداة جنسية أقرب للـ «مفرخة» منها للإنسان، وحاولت تغيير الصورة وتحويلها لناحية أكثر إيجابية؛ إذ أن التأثر الأكبر للموجة الأولى كان مترافقاً مع حركة تحرير العبيد وإلغائها. أما الموجة الثانية فقد تأثرت بالحقوق المدنية وشعارات الحرية والعدالة والثورية، خصوصاً دعم الاحتجاجات في الولايات المتحدة التي حدثت خلال حرب فيتنام.
خلال تلك الفترة كانت الجهود ساعية لتحقيق تكافؤ الفرص بين الجنسين والمساواة في القوانين وتقديم خدمات رعاية الأطفال، وقد تُوجت هذه الجهود مع قانون عام 1963 الأمريكي في ضمان المساواة في الأجور، كما تم تعديل القانون في عام 1964 وذلك لمنع الإقصائية في فرص العمل بناءً على التحيز الجنسي.
وعلى النقيض من الموجة الأولى، فقد اهتمت الثانية بأصول اضطهاد المرأة وطبيعة الجنس ودور العائلة، ووضعت النسوية “كيت ميليت” أحد أهم الكتب وأكثرها مبيعاً لعام 1970 تحت عنوان السياسة الجنسية. أوضحت به طبيعة العلاقات بين مفهوم السلطة وبين البنية الاجتماعية القائمة على إضعاف المرأة. وبعدها نشرت النسوية “شولاميث ستون” في نيويورك كتاب جدلية الجنس. ومن بعدها الأسترالية “جيرمين غرير”، التي قالت في ما نشرته أن قمع النساء يعوقهن عن تحقيق نماذج إبداعية ويحرمهن من كثير من الفرص المتاحة.
اتجهت النسوية إلى التطرّف مع نشوء حركة النسويات الفوضويات Anarcho Feminist التي استحضرت أفكار “إيما غولدمان” وتبنت مبدأ أنه من غير الممكن تحرير المرأة إلا عن طريق هدم منظومة الأسرة والملكية الخاصة وتقويض سلطة الدولة بكاملها، وقد لاقت أفكار هذه الحركة رواجاً في أوروبا أكثر من الولايات المتحدة.
بعض النسويات المستقلات كان لهن رأي آخر، إذ رفضن فكرة اللجوء إلى الحكومة من أجل تحقيق مطالبهن والوصول لحلول. فمثلاً “نسويات الأمازون” كنّ قد طالبن بنموذج “المرأة القوية” ودعون إلى أخذ الحقوق عن طريق القوة الفيزيائية. بينما النسويات الأخريات صاحبات الميول الأنثوية “السحاقيات” ومعاداة الذكور، دعين إلى التحرر من خلال التخلي عن الذكر بشكل كامل.
فكانت هذه الفترة مليئة بالأفكار المحتدة الهادمة للمجتمع، وأحياناً الهادمة لآراء نسوية أخرى تتبنى نفس موقفها أيضاً.
إلا أن الخطوط العريضة كانت ثلاث توجهات رئيسة: أولها النسوية التحررية: التي سعت إلى تحقيق تغيرات من خلال العمل الحكومي المؤسساتي، ذلك بإدخال المرأة إلى الحكومة وزيادة فرصها في الوصول إلى المناصب. وتجلت مبادؤها بتحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. مع بعض الاستثناء للمرأة كما في حال الأمومة مثلاً.
ثم لدينا الخط الثاني: النسوية المتطرفة. والتي تتمركز أهدافها في إعادة صياغة المجتمع وتفكيك منظوماته ولا سيما الأسرة، التي اعتبرت مؤسسة دينية يجب الثورة عليها بشكل دائم. كما يجب هدم العلاقة الهرمية السائدة لأنها متحيزة للذكور في طبعها.
وأخيراً لدينا النوع الثالث: النسوية الثقافية أو النسوية الاختلافية. والتي ترفض فكرة أن الذكور والإناث في طبيعتهم متشابهين بل هناك ميول واضحة وتباينات في كل منهم. وتدعم هذه النسوية عدم انخراط المرأة في المجالات التي لا تتناسب معها والتي تحمل طابعاً ذكورياً. كما أنها تقوم بنقد التيار النسوي المتشدد الذي يريد حشر المرأة في أي مجال ذكوري فقط من أجل رفع شعار المساواة حتى لو كان ذلك على حساب سعادة المرأة نفسها. فهذا الأمر بنظر هذا التوجه النسوي يشوّه المرأة ولا يفيدها أبداً.
العنصرية النسوية
اشتركت الموجة الأولى والثانية من النسوية في أنها كانت مُقادة بواسطة عنصر معين من النساء، هنّ النساء البيض المتعلمات المنتميات إلى الطبقة الوسطى. فكانت الحركة بشكل رئيسي موجهة نحو تحقيق أهدافهن وإنهاء ما يعتقدنه هن معاناة فقط. فبدأت التناقضات تظهر، خصوصاً مع النسوة الآخريات من ثقافات وطبقات أخرى. فمثلا معظم الحملات التي طالبت بالمساواة والأجور كانت نتائجها تعود على النساء البيض فقط، بينما بقيت التحديات نفسها تواجه النسوة من أصول أفريقية.
مما دعى لظهور بعض النسويات الأفريقيات اللواتي طالبن بهكذا مفاهيم، فالنسوة غير البيض كن قد تعرضن إضافة للتحيز الجنسي إلى هدية أخرى معه وهي التحيّز العنصري بناءً على اللون.
وقد تعمّق الشرخ بين النسويات البيض والسود بناءً على إيمان البيض بأنّ الاضطهاد الذكوري جاء نتيجة تحيزات طبقية اجتماعية، الأمر الذي يمكن تطبيقه على علاقتهم مع النسويات السود أيضاً. مما نفّرَ الأخيرات منهن. ولم تلبث أن وصفت أحداهن أن النسويات البيض لا يقللن عنصريةً عن الرجال المتحيزين أنفسهم.
لكن ما لبثت أن توالت المؤتمرات والاجتماعات وتوصل الجميع إلى نتائج مشتركة، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا الأمومة والإجهاض والمساواة، فكان لا بد من العمل المشترك في سبيل تحقيق نتائج ملموسة تعود على كل الأطراف.
انتشار النسوية عالمياً
مع نهايات القرن العشرين بدأت النسوية تنتشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، ومع حدوث هذا ارتعدت النسويات المثقفات في العالم الأول عندما سمعن بحال النسوة في العالم المتأخر وما هو مفروض عليهن من تغطية الجسد والزواج الإجباري والختان. وتحوّلت النسويات الغربيات إلى أشبه بالمنقذات المنتدبات لتحرير هؤلاء النسوة.
إلا أن المشاكل سرعان ما ظهرت، فالفجوة بين المُثل النسوية في العالم الأول لم تكن تتناسب مع القيم السائدة في العالم المتأخر اللاتي يردن تغير وضع نسائه.
سرعان ما تزايدت المشاكل والنزاعات بناءً على اختلاف العوالم، ففي مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد عام 1980 طالبات فيه النساء من دول العالم الثالث بأن تكون قضايا ختان الإناث وتغطية الجسد جبرياً من الأولويات لحرية المرأة، ذلك دون الوصول إلى توافق مع النسوة في العالم الأوّل. مما جعلهن نوعاً ما يغفلن مطالبهن في المؤتمر العالمي للسكان والتنمية المنعقد عام 1994 في القاهرة، الذي استلمت فيه زمام الأمور نسوة العالم الأول فكانت أهدافهن الرئيسة تتمثل بحقوق الحمل والإجهاض.
مع كل هذه الجدالات، إلا أنها بقيت ضمن حدود المعقول في أي نقاش فكري وتغيير إصلاحي لا بد من حدوثه. فمع نهايات القرن العشرين، نهضت مصالح معظم النسوة في العالم وتحسنت أحوالهن. وبدأت تطرق الأبواب الأكاديمية الحقوقية وتتخذ مساراً رزيناً أكثر من كونه صاخباً.
إلا أن بعض الأسئلة لا تزال على الطاولة، فكيف يجب أن نتعامل مع النسوة اللواتي اعتقدن أن الحركة قد أصبحت متطرفة وذهبت أبعد من أهدافها؟ وهل من الممكن معالجة قضايا المرأة بغض النظر عن البيئة والمجتمع؟ فمثلاً معالجة قضايا من يسكن في باكستان كمن يسكن في نيويورك؟ أم أن الأمر خاضع للأطر السياسية والثقافية والاجتماعية؟
كل هذه التساؤلات أدّت أخيراً إلى نشوء مستوى جديد، عرف باسم الموجة الثالثة.
الموجة النسوية الثالثة
ليس لهذه الموجة نقطة بداية محددة، إلا أنها تبزغ من تسعينيات القرن الماضي، وتتبلور بشكل جوهري مع حدوث تحسن في الوضع الاقتصادي والمهني الذي نجمَ عن جهود الموجة النسوية الثانية. كما أن الانتشار الكبير للمعلومات وحدوث ثورة التواصل أدى إلى خلق جيل جديد من الناشطين في هذا المجال، وهو ما يمكن وصفه بالسمة الرئيسة لهذه الموجة.
تأثّرت النساء في هذه الموجة على المستوى الأكاديمي، بحركة ما بعد الحداثة. مما أدى لطرح الكثير من الأفكار وإعادة التعاريف والصوغ لمفاهيم الجمال والأنوثة والجنسية، والذكورة.
خلال هذه الموجة، تمت المطالبة أيضاً بتوسيع مفهوم تحرر المرأة، وأن تصبح الميول الجنسية خيارات تعرّف هوية صاحبها كما يراه هو بنفسه، وليس كما يراه المجتمع أو بالوضعية التي ولد عليها. مع التأكيد على الحرية والحقوق الكاملة في التعبير عن ذلك كشيء طبيعي.
مما يميّز هذه الموجة أيضاً هو شموليتها، إذ اتسعت لتشمل كافة النساء من مختلف الألوان والثقافات. وسعت من خلال ذلك إلى تغيير الصورة النمطية عن ضعف المرأة وإذعانها وعدم قدرتها على التحكم واتخاذ القرار في حياتها، ليستعيضوا عن هذه الصورة بصورة المرأة الحازمة القوية التي لديها الحرية في التحكم بحياتها بشكل عام وقراراتها الجنسية بشكل خاص. وقد سهلت وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت وإمكانية النشر الإلكتروني تأكيد هذه الأفكار وسهولة الحديث بها.
لكن لم تسلم هذه الموجة من النقد، إذ أنها كما قال البعض قد أصبحت “ما بعد النسوية” أي أنها تجاوزت ذاتها وفائدتها الحقيقة وبدأت تدخل في أمور لا شأن لها بها وتحاول فرض أفكار بناءً على وجهة نظرة أنثوية ضيقة تراعي فيها مصالحها الشخصية دون النظر للصورة الكبرى أبداً، مما دعا البعض للقول أنّ الموجة النسوية الثالثة قد انهارت على ذاتها وانسلخت.
ولعلَ الموجة الثالثة تعدّ أكثر موجة مثيرة للنقد والجدل، حتى ضمن الوسط النسوي نفسه.
الموجة النسوية الرابعة
تبدأ هذه الموجة في مدى عام 2012، وتشكّل عناوين التحرّش الجنسي، الاغتصاب، الجسد كوصمة عار، أبرز القضايا التي تناقشها. وقد أخذت الميديا الجديدة بما فيها من وسائل التواصل الاجتماعي أبرز المنصات لأجل نشر هذه الأفكار وتسليط الضوء عليها، خصوصاً بعد حدوث بعض الحوادث المتطرفة التي أثارت سخط الرأي العام، كحادثة اغتصاب امرأة في الهند عام 2012 توفيت إثر ذلك، مثيرة سخطًا عالميًّا ودوليّا كبيرين عن موضوع الاغتصاب حول العالم.
وبعد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هيلاري كلينتون و إدلائه ببعض التصريحات عن المرأة. سارت في العاصمة واشنطن مظاهرة من أجل المطالبة بحقوق المرأة وقد شارك بهذه الفعالية حوالي 4 مليون متظاهر، وعرفت بذلك على أنها أكبر تجمع لنسويين في يوم واحد.
إلا أن أهم ما يميز الموجة الرابعة هو حركة “أنا أيضاً Me Too” التي أطلقت في عام 2006 لمساعدة ضحايا العنف الجنسي. اكتسبت هذه الحركة شعبية كبيرة في عام 2017 مع توالي الفضائح الجنسية لبعض المشاهير الذين كانوا يستترون على أفعالهم دون أي محاسبة، لأجل ذلك ضجت مواقع التواصل بقصص التحرش والعنف الجنسي ومشاركة القصص بجرأة من خلال هاشتاغ “أنا أيضاً Me Too#”، وقد ذُكرت في ذلك العديد من الأسماء المهمة على صعيد السياسة والتجارة ووسائل الإعلام.
مع النسوية – ضد النسوية
إيجابيات النسوية هي التي ذكرت خلال المقال بأكمله، بمعنى أن السعي الدؤوب تجاه تحرير المرأة ومساواتها في الحقوق وزيادة فرصها في العمل وحقوق الانتخاب والتعليم خلال التاريخ هي إيجابيات النسوية ومحاسنها.
لكن لم تسلم هذه الحركة من النقد. وهنا يجب أن نفرّق بشكل كبير، بين النضال من أجل حقوق المرأة على مدار التاريخ وهو أمر لازم ولا بد منه، وبين الحركة النسوية بوصفها أيديولوجيا؛ إذ لم تنجو من النقد بل تعرضت للكثير منه. ولعلَ في النقاط التالية أبرز ما يقال سلباً عنها. ليس عن المرأة ولا عن حقوقها، بل عن النسوية كحركة حديثة.
- حقوق الإنسان
النقطة الأولى في نقد النسوية هي حقوق الإنسان. إذ يُطرح التساؤل التالي: ما الشيء الذي تريده النسوية غير حقوق الإنسان؟ أليست المساواة في العمل والتعليم، ونيل الحقوق هي نفسها مبادئ حقوق الإنسان؟ لماذا إذن اخترعت النسوية نفسها وحددت الأنثى بشكلٍ مباشر؟
يُجيب البعض على أن النسوية تنطلق مِن مبادئ جميلة حقوقية في معظمها لكنها تنتهي بنوع من العنصرية وجنون عظمة زائد عن اللزوم.
الحركة النسوية محتواة ضمن حقوق الإنسان، فتوقفي عن المطالبة بحقوق الأنثى وطالبي بحقوق الإنسان، فإذا تحققت حقوق الإنسان بجميع أطيافه ذكورًا وإناثًا ومن مختلف الأجناس والأعراق والألوان، تكون حينها قد تحققت حقوق المرأة كتحصيل حاصل.
- إقصاء الاختلافات البيولوجية
الإشكال هنا كبير أيضاً، بمعنى أن النسوية تحاول إقصاء أي اختلافات بيولوجية بين الجنسين فقط من أجل فرض المساواة في الحقوق، وهذا بالحقيقة غير ملزم، أي أن المساواة بالحقوق واجبة سواءً باختلاف أو بدون.
بمعنى، نعم هناك اختلافات بيولوجية بين الطرفين. ومع ذلك لابد من إعطاء حقوق متساوية للجميع. وأحياناً لا بد من تدخلات حسب كل جنس ومعطياته، مثلاً فترة الأمومة عند النساء، وفترة التجنيد الإجباري عند الرجال.
فهذه ليست نقد بقدر ما هي سوء فهم. الاختلاف البيولوجي والميول الاجتماعية المتباينة موجودة نعم، لكن هذا لا يتعارض مع إعطاء حقوق متساوية للكل.
- الفيمينازية
النقد الأخير موجّهٌ للجزء المتطرّف مِن النسوية التي يقول البعض أنها تحوّلت من فيمينستية تحاول المطالبة بحقوق مشروعة، إلى فيمينازية إقصائية مصابة بعقدة ليليت الأنثوية، تريد التفوّق على الذكر وسحقه وإقصاءه وإعادة صياغة المجتمع والأسرة بمفاهيم على مقاس تفكير مُتشدد منحاز باتجاه واحد.
إلا أنه في جميع الأحوال، تبقى الحركة النسوية توجه موجود على الساحة وأصواتها أصبحت مسموعة وسهلة الانتشار والوصول. تختلف أم تتفق معها أمر عائد إلى المتلقي، ويتغيّر تبعاً للثقافات والتقاليد والأحوال الاقتصادية والاجتماعية لكل تجمع بشري وجدَ أو سيوجد في مكان ما.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.