ديناميكية المعيارية الغيرية: التنميط الجندري والجنساني
ديناميكية المعيارية الغيرية

feministconsciousnessrevolution- دعوني ابدأ بالمعيارية الغيرية “heteronormativity “ والتي تعرف على أنها نظام من السلطة والقيم سائد يجعل من التوجه المغاير معياراً أساسياً للتشكلات الاجتماعية والعاطفية والحميمية، وطبقاً لهذا الاعتقاد فإن الناس تقع بشكل متميز ومتكامل في صورة أحد الجنسين المعياريين، أما الرجل أو المرأة، وما يلازم ذلك من الأدوار الجندرية والجنسانية.

وحسب ويكي الجندر فإن قاموس مركز دعم لبنان يعرف المعيارية على أساس الغيرية الجنسية بأنها:
مصطلح يتألف من مصطَلحي ” الغَيرية” و“ المعيارية”، وهو يشير إلى نظامٍ اجتماعي تُفَضَّل فيه الغيرية الجنسية ويُحتَفى بها، وبالتالي تكون معياريةً بوصفها نظامًا جنسيًا تلقائيًا. في هذا النظام، تُمأسَسَ الغيرية الجنسية في الجوانب الاجتماعية والقانونية والسياسية والثقافية، ما يؤدّي بالتالي إلى منح الغيرية الجنسية امتيازاتٍ خاصةً بها، بينما تُهمّش وتوصم العلاقات والممارسات اللاغَيرية”.

يفرض هذا الاعتقاد أن المغايرة الجنسية هي التوجه الجنسي الصحيح والطبيعي والمعيار الحصري، ولذا فإن العلاقات الجنسية والعاطفية والحميمية وفقاً للأبوية مشرعة فقط بين فردين من جنسين مختلفين، ونتيجة لذلك فإن الرأي المتبنى للمعيارية الغيرية لا يرى خطاً واضحاً بين الجنس، والهوية والأدوار الجندرية، وعادة ما يصاحب المعيارية الغيرية “رهاب المثلية”.

كما تنص المعيارية الغيرية، على الغيرية القسرية التي تشمل الانجذاب للجنس الآخر عن طريق الإجبار واللاوعي، وتتم عن طريق التنشئة والتربية سواء داخل العائلة وخارجها في المجتمع والثقافة التقليدية والدينية وفي المؤسسات الرسمية والنظام السياسي. وحسب الدراسات فإن للمعيارية الغيرية تأثير على النساء، حيث نجد هوس المجتمعات الأبوية بتلقين وحصر النساء منذ الطفولة في قوالب تجعل منهن بالضرورة مضطرات لتلبية معايير الجمال والجنسانية الذكورية سواء كانت في الممارسات اليومية أو في الحياة الاجتماعية، مع عدم توفر حرية القرار والاختيار أو الحرية الجنسية اللازمة لاتخاذ هذه الخيارات.

الغيرية القسرية: كيف تفرض الثقافة الجنسية الإجبارية؟

تشير عبارة “المغايرة الجنسية الإجبارية” في الأصل إلى افتراض مجتمع تهمين عليه قيم ونظم مؤسسة على المعيارية الغيرية، وينص ذلك على أن العلاقة الجنسية الطبيعية الوحيدة هي بين الرجل والمرأة الموافقين للجندر.

بموجب هذه النظرية فإن العلاقة الجنسية بين الجنسين ليست فطرية ولا يختارها الفرد، بل هي نتاج ثقافة وبالتالي فهي مفروضة. ‏والاختلاف الجنسي الاجباري هي عبارة عن فكرة تنص على أنه عندما يكون الجنس البيولوجي محدد فوفقاً لذلك يتم تحديد الأدوار والسلوكات والميولات الجنسانية.

وروّجت أدريان ريتش لعبارة “الغيرية القسرية” في مقالها المنشور عام 1980 بعنوان “الغيرية القسرية والوجود المثلي” وكانت أدريان ريتش شاعرة ونسوية بارزة ظهرت كمثلية في عام 1976، وجادلت في مقالها من وجهة نظر نسوية كويرية على وجه التحديد، بأن الانجذاب للجنس الآخر ليس فطرياً في البشر، وأنه ليس النشاط الجنسي الطبيعي الوحيد. والغيرية القسرية وفقاً لنظرية ريتش، تحدث وتتغذى على النظام الأبوي الذي يخضع النساء للرجال، ويجعل وصول الرجال إلى النساء محمي من خلال المغايرة الاجبارية، كما تعزز المؤسسة الاجتماعية العلاقات بمعايير السلوك الأنثوي السليم الذي ينبع من البناء الاجتماعي للأنوثة ويجبر النساء على لعب أدوار لا تتماشى معهن.

ترى أدريان ريتش الفنون والثقافة الشعبية اليوم كالتلفزيون ووسائل الإعلام والأفلام والموسيقى والإعلانات، كوسائل قوية لتعزيز وبناء العلاقة الجنسية بين الجنسين المعياريين باعتبارها السلوك الطبيعي الوحيد والسليم، ولكنها تقترح بدلاً من ذلك أن يتواجد النشاط الجنسي في “سلسلة متواصلة مثلية ” وهي مجموعة نسائية من الإبداع والتضامن التي تؤثر وتملأ حياة النساء، ولم تكن ريتش تعتقد أن المرأة يمكن أن تتمتع بالسلطة فعلاً وبالتالي لا تستطيع النسوية تحقيق أهدافها في ظل نظام أبوي تسيطر عليه المعيارية الغيرية. كما وجدت ريتش أن قيم الغيرية القسرية كانت منتشرة حتى داخل الحركة النسوية وتهيمن بشكل أساسي على البحث والنشاط النسوي، وقالت بأنه من الضروري التحدث بصوت عالي عن المثلية وتجارب المثليات، لكسر التابوهات ورفض الغيرية القسرية التي فرضها المجتمع على النساء المثليات.

لوقتٍ طويل لم تكن حياة النساء المثليات والكويريات مرئية في التاريخ والدراسات النسوية، ولم يكن مرحباً بهن بل كان ينظر إليهن على أنهن منحرفات وبالتالي خطر على قبول الحركة النسوية من قبل المجتمع. وخلال سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم في العديد من الحراكات النسوية، تتعرض النساء المثليات والكويريات للاقصاء وتطمس تجاربهن مع العنف الأبوي، حيث تجبر المثليات\الكويريات في مجتمعاتنا على الزواج ويتعرضن للاغتصاب الزوجي وحتمية العلاقات المغايرة والحمل الإجباري، كما يتعرضن للعنف اليومي بما فيه الجنسي في محاولة لتغيير ميولهن وهوياتهن الجندرية، هذا بالإضافة إلى أنهن يضطررن لأن يخفضن أصواتهن لكي لا يسئن للخطاب الذي يريد أن يناضل وفق السقف الزجاجي لذات النظام الذي يضطهد النساء ويحرمهن من حقوقهن ويجبرهن على نمط حياة لا يناسبهن.

تنميطات جندرية وجنسية حتى داخل الدوائر الكويرية

يعاني الكثير من المثليات، والمثليين، وأحرار الجنس (الكوير) ومزدوجين ومتعددي الميول الجنسية من التنميط ليس فقط من النظام والمجتمع المؤسس على المعيارية الغيرية والمصاب برهاب المثلية، بل أيضاً في الدوائر الكويرية نفسها، حيث توجد العديد من التصورات النمطية السامة النابعة من النظام الأبوي، والمتعلقة بالمظهر الخارجي للشخص. ويتم تصنيف الجندر، والجنس، والميول الجنسية، لمختلف الأنواع الجندرية وفق تحديدات مسبقة مبنية اجتماعيًا.

نعيد خلق التنميطات والأدوار الأبوية بالرغم من أننا ككويرين وكويريات يجب أن نكون أكثر نقدية عند التحدث عن الجنس والجنسانية، وأكثر تقبلاً للاختلاف، وأقل اهتماماً بالأدوار الجندرية، ولكن ما نلاحظه باستمرار بأنها بالفعل قد تسربت لأشد المواقع خصوصية، فحتى في علاقتنا الحميمة والجنسية تُطرح أسئلة تعزز من الأفكار النمطية وتعارض طبيعة اختلافاتنا.

وتواجه بعض الفئات في المجتمعات الكويرية التهميش أو الإخفاء عن عمد وفقاً لهذه التنميطات والمعايير الأبوية، مثل فرض صور نمطية نابعة من معايير الأبوية على العابرين والعابرات والنظر إليهمن وفق نفس المنظور النمطي للأنواع الجندرية المعيارية، كما يستبعد من دوائر العابرين.ات أنفسهمن اللامعياريين واللامعياريات جندرياً وجنسانياً ويفترض أنهمن غير موافقين.ات لهوية “الترانس”.

في وضع مشابه نجد دائرة التنميط تمتد للأشخاص اللاجنسيين Asexual و”اللارومنسيين” Aromantic، ويعتبر أنهمن غير مناسبين للخطابات الجنسية والرومانسية والعاطفية داخل الدوائر الكويرية، ويتم استبعادهمن وتجاربهمن  من الخطاب التحرري، رغم أن الكثير من الأشخاص اللاجنسيين واللارومنسيين قد تعرضوا للتحرش، والاغتصاب، والاعتداء عند رفضهمن لأي شكل من أشكال الحميمية والتقارب سواء عاطفياً أو جنسياً، بالاضافة للعنف اللفظي والنفسي.

وهنا نجد أن أشكال الإقصاء التي لايزال يمارسها المغايرون بدافع رهاب المثلية، يمارسها البعض أيضاً في دوائرنا حيث ينظر داخل العدسة الموحدة التي تمنع الاختلاف والتنوع ولا تترك مجالاً للتعددية الجنسانية والجندرية، وتفرض على الجميع أن يقدموا الحب والجنس والعاطفة والرومانسية.

ويمتد تأثير هذه المعايير والأدوار المستمدة من المعيارية الغيرية حتى لعلاقاتنا الكويرية، فتدمر وتزعزع ثقتنا وتصورنا عن أنفسنا وتصعب علينا ثقافة المواعدة وتعقد العلاقات وتجعلها مبهمة.

حيث تظهر هذه التنميطات المفزعة التي سممت دوائرنا الكويرية في شروط المواعدة، وتتسلل قيم نفس المنظومة الأبوية القائمة على المعيارية الغيرية التي تنظر لنا بنظرة الاقصاء والترهيب والعنف إلى وعينا وتشكل نظرتنا لأنفسنا وللآخرين. في هذا السياق حدثني الرفيق أحمد عن الاشتراطات والصورة النمطية التي تسود في العديد من تجارب المواعدة الكويرية في المجتمع السوداني\الأفريقي، وحسب تجربته فإن الصورة النمطية الغيرية قد أصبحت بشكل أو بآخر مطبعة في دوائرنا الكويرية ولكن بشكل جديد، فمعايير المواعدة التي لا تزال قائمة تجعل من الحياة الرومانسية للمجتمع الكويري صعبة المنال فيصد البعض عن عالم الحب والعلاقات.

كما تسود عدة شروط في للمواعدة منها تلك الموجهة للرجل المثلي والكويري، إذ يجب أن يكون لا كاشف (أي شخص لا يعرف أنه كويري أو مثلي ) لا مكسور ( أي شخص لا يناسب دوره الاجتماعي حسب عضوه التناسلي) لا كاش (أي شخص ليس بعامل جنس، راقص تعرّي).

ولا يمكن أن نتحدّث عن تطبيع تنمطيات الأنظمة القهرية دون أن نتحدث عن التصوّرات النمطية والذكورية والاستعمارية المليئة بالجهل حول النساء السود المثليات والكويريات والمغايرات، والتي تصفهن بأنهن خشنات، مسترجلات، صارمات، مهيمنات، يحببن السيطرة، شبقات، بينما تلك تفضيلات جنسية\حميمية فردية، ولكن أيدولوجية العنف والتنميط الموجهة للسود بشكل عام حورت علاقتنا العاطفية والجنسية والحميمية، وجعلتها تعتمد على من أين ناتي؟ من نحن؟ ما عرقنا؟ ما ثقافتنا؟ وهذا عدا عن أنه يسحق علاقاتنا بأنفسنا وغيرنا داخل مجموعاتنا المضطهدة، يدمر أيضاً ثقافة المواعدة ويزرع صراعات فردية وجماعية لدى الكثير من الناس.

تؤثر هذه التنميطات الجنسانية والجندرية على مجتمع الميم عين بشكل أكبر من حيث قوة العلاقات الديناميكية، فيتم تجنب كل من لا يتبع تلك الصور النمطية مما يؤدي إلى العزلة والاغتراب داخل الدوائر الكويرية، وعوضاً عن احتضان الأشخاص الأكثر تضرراً من هذه المنظومة السامة وتوفير مساحة آمنة لهمن، تستخدم أساليب التحقير ومفاقمة العزلة ضدهمن في الفضاء العام أو الرقمي مما يجعلهمن معرضين أكثر ليبصحوا ضحايا للعنف الأبوي.

في آخر مرة قمت باستطلاع عن ايجابية الجسد وجدت الكثير من الرجال المغايرين والكويريين السود والأفارقة بالتحديد يواجهون معايير جنسانية سامة، تنمطهمن وتحصرهمن في خانة “المهارات الجنسية الخارقة”، كما تفرض عليهمن الحصول على قضيب طويل\ضخم وإن لم يوافق جسدهمن تلك المعايير فسيواجهون الوصم والتعييب والسخرية والتنمر على حجم اعضاءهمن الجنسية، مما يجعل من الشروع في العلاقات والمواعدة أمراً مخيف.

ومن جهة أخرى يشتكي أفراد المجتمع الكويري من حصرهمن في اطار يجنسن كل حيواتهمن ويجردهمن من مشاعرهمن وانسانيتهمن، بسبب تجسيد الميديا للجندر والميولات الجنسانية، وجنسنة وتشييء الأجساد الغير معيارية، وخلق صور نمطية عن العلاقات المثلية والكويرية، المستوحاة من التمثلات عن العلاقات المغايرة التي تقولب وتشكل الأدوار الجندرية التي تتطلب من رجل وامرأة أداء أدوار معينة.

الأبوية كنظام أبوي ذكوري قائمة على التنميط والتصنيف لثنائية ذكر/أنثى وتتم عليه توزيع الأدوار الجندرية والجنسانية وفق تصورات وتنميطات ضارّة مثل رجل (متحرّر جنسياً، مبادر، فحل، متعدد التجارب ) وامرأة عكسه تمامًا، ومن هذا المنطلق تستخدم قلة التجارب الجنسية والخبرة أو طول\حجم القضيب والأداء الجنسي كوصم يدور في فلك الأبوية ويعزز حلقة الاضطهاد والفجوة بين البشر. ويعد اظهار النساء لمشاعرهن وفق المعايير الأبوية مصدراً للنكد وحجة للاضطهاد رغم أنها مشاعر انسانية طبيعية، بينما يفرض على الرجال من معايير الذكورية السامة/الهشة إخفاء مشاعرهم والتصرف بقسوة وخشونة، مما يؤدي إلى كبت وضعف الثقة بالنفس وصعوبة في البوح ومشاركة المشاعر، ويجعل التواصل العاطفي شبه مستحيل ويقود إلى العديد من المشاكل النفسية وحتى إلى العنف داخل العلاقة.

وفي الخلاصة أن تكون مغاير\مغايرة وغير مصاب بكراهية مجتمع الميم عين فهنيئاً لك، لأننا بنضالنا ضد المعيارية الغيرية سنجعلك تعيد التفكير في بنية علاقاتك الحميمية والجنسانية، وتقيّم مراكز القوة الديناميكية الأبوية وتتحقق من مشاعر الاستحقاق والندية وعدم وجود وأدوار واطارات مصممة اجتماعياً ومعدة مسبقاً لتحدد لك مشاعرك وحميمتك.

أهمية نقد المعيارية الغيرية لا تفيد حصراً المجتمع الكويري، بل أيضاً مختلف الأفراد لأن تفكيك هذه السلطة سيخلص الجنسانية من السطوة والتحكم وفرض معايير قاتلة، مثل أن تكبت مشاعر المرأة ويفرض عليها أن تلعب دور صعبة المنال ولا تهتم، ورجل يفعل المستحيل ليحصل عليها، وبالمقابل إن عبرت عن مشاعرها ورغباتها فإن المعيارية الغيرية قد أعدت لها مسبقاً طبخة من الوصم ( عاهرة، سهلة – متاحة…) فلا وجود لرغبة النساء وإن تجرأن وعبرن عن ذلك فسيواجهن الحكم على جنسانيتهن وحرمانهن منها بالتعهير والرفض.

يجب اعادة صياغة بنية العلاقات التي غالبا ماتكون علاقات استغلال واستنزاف عاطفياً ومعنوياً وحتى جسدياً، من الصعب أن تكون العلاقات صحية وهي تفتقر لمراكز قوة ندية لا تعلو فيها كلمة أو صوت الرجل على المرأة. والعلاقات المثلية قد تحتوي أيضاً على سمية مراكز القوة ولكنها حتماً ليست قادمة من الغيرية الأبوية، فوجود المثليين ووقعونهمن في الحب والدخول في العلاقات بحد ذاته يتحدى نظم الأبوية وقسرية الجنسانية المفروضة منها. ليبقى الرهان على تفعيل النقد النسوي الكويري ومساءلة تصوراتنا عن العلاقات والحميمية والعاطفة وتخليصها من قيم الأبوية، مهما كان نوعنا الاجتماعي أو ميولنا وإن اختلفت درجات تضررنا من المعيارية الغيرية ومختلف قيم الأبوية فإن الثابت أنها تقضي حتمًا على أي محاولة للمحبة والحميمة وتكوين علاقات اجتماعية وعاطفية صحية وندية.

ديناميكية المعيارية الغيرية

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015