عن جدلية الوطني والاجتماعي في حراك “طالعات”
جدلية الوطني والاجتماعي في حراك "طالعات"

رفقة العميا/ arab48- ما أن أُعلن عن النيّة في تنظيم حراك “طالعات” النسوي الفلسطيني، مظاهرات وبشكلٍ متزامنٍ في كلٍ من رفح ورام الله والقدس وبرلين وحيفا وبيروت والناصرة ومدن أخرى، تحت شعار “لا وجود لوطن حر، إلا بنساء حرة”، حتى تراشقت السخرية والاتهامات، والتي أُعِدَّت بشكل مسبق، بالإضافة للمزايدات والتشكيك، بل وحتى التعدّي لفظياً على المُشارِكات.

شرارة هذا الحراك كان مقتل الشابة إسراء غريب ذات العشرين ربيعاً، نتيجة التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرّضت له من قِبل رجالٍ من عائلتها، بحسب التقرير الذي قدّمته وزارة الداخلية في مؤتمر صحافي، عُقِد بعد أن بلغ الغضب الشعبيّ، وخاصّة النسويّ، ذروته. وبعد أن تحوّلت القضية إلى قضية رأي عام لها أصداء دولية أيضاً.

إسراء ليست الضحية الأولى

تشير الإحصائيات إلى مقتل 28 امرأة فلسطينية منذ بداية العام الحالي، بسبب التعنيف المُمَارس من قبل أحد، أو أكثر، من أفراد العائلة الذكور. كما قضت 35 امرأة فلسطينية في العام الماضي ضحيةً لتلك الممارسات الأُسرية العنيفة. ومن الجدير بالذكر أن هناك حالات تعنيف أخرى لم تُحصَ ويتمّ التستّر عليها من قبل العائلة، الأقارب، المستشفيات، وأحياناً الجهات الأمنية.

أثارت جرائم العنف المتتابعة غضب النساء الفلسطينيات المُعَرَّضات للعنف المنزلي، الذي يتم التستر عليه فقط لأن الضحايا نساء، والمجرمين ذكور. فخرجن في تحرّك ضد كافة أشكال العنف المُمَارس عليهنّ في كافة أماكن تواجدهنّ، لا يُطالب بالنجاة من القتل فحسب، بل “لوقف كلّ أشكال التعنيف والترويع الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي والسياسي، الذي تعيشه غالبية النساء في مجتمعنا بشكل يومي”، بحسب بيان الحراك.

خلال التحضير لهذا الحراك، تداولت وسائل الإعلام قصةً أخرى لامرأة من غزة، اعتدى عليها رجالٌ من عائلتها في المدرسة التي تعمل بها أمام طالباتها، ومحاولة خطفها قبل أن تنقذها الشرطة وتحوّلها لبيت الأمان. وشهدت جنين ضحية عنفٍ أخرى لامرأة، بعد ثلاثة أسابيع من محاولة إخفاء قصتها، ترقد في مستشفى رام الله بحالة صحية سيئة معرّضةً لاحتمال بتر قدميها، بعد أن تمّ تقييدها من قبل رجال عائلتها وكسر قدميها.

نضال الحركة النسوية

يذكّرنا الهجوم على حراك “طالعات” ليس فقط على المُشَارِكات في التحرّك، بل على الحركة النسوية بشكل عام، بما تعرّضت له تاريخياً الحركة النسوية في بداياتها والمحاولات المماثلة من نبذ، وشيطنة، وتشويه لما تراه فيها المنظومة البطريركية من تهديد لسلطتها. ولكن نجحت الحركة النسوية في الحفاظ على مدّها الخطّي بالرغم من تلك المحاولات.

والحركة النسوية في أبسط وأشمل تعريف؛ هي حركة اجتماعية عالمية، يجمع رائداتها وروّادها هدف تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الجميع.

وكأي حركة نضال مدني، مرّت الحركة النسوية بسلسلة من التطوّرات منذ بدايتها وحتى يومنا هذا. وبالرغم من أنّ للحركة النسوية مدارس مختلفة تختلف في تفاصيلها فيما بينها تبعاً للسياقات الزمانية والثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة، إلا أنها تتفق في ما بينها على جوهر واضح هو حرية المرأة في أن تفعل ما تريد، وألا تفعل ما لا تريد، وإنهاء التمييز المُمَارس ضدّها، والمساواة بينها وبين الرجل في كافة مجالات الحياة.

وكانت المفكرة الفرنسية، كرستين دي بيزان، من أوائل الأصوات التي طالبت بحقّ الإناث في التعليم وتأثّرت بها المفكرة النسوية الفرنسية سيمون دي بفوار. وفي كتابها “إثبات حقوق المرأة” انتقدت الكاتبة الإنكليزية، ماري وولستونكرافت، الصورة النمطية عن الأدوار المسبقة التي تخلق المرأة لها من وجهة نظر الذكور. كما شهدت بدايات القرن العشرين بزوغ أصوات نسائية عربية دعت إلى حرية المرأة في كافة المجالات، وليس فقط من خلال إلغاء التمييز بين الجنسين، بل عبر استهداف المنظومة الفكرية النمطية في الإعلام والفن والأدب والعلوم الاجتماعية، وتحطيم كل أشكال الهيمنة والقمع والقهر الذي يطال الجميع.

تعمّد الخلط بين المصطلحات

حاولت بعض الادعاءات الذكورية التي سيقت ضدّ حراك “طالعات” الخلط بين مصطلح الذكورية وربطه بالذكورة. والحقيقة أن النسوية لا تحارب الطبيعة البيولوجية للرجل ولا تُعاديه لأنه ذكر، بل أنها تتصدّى للذكورية التي هي عبارة عن أيديولوجيا عملت على فرض سلطة الرجل على المرأة، من خلال الوصاية الدائمة على خياراتها والتحكّم في كلّ شئون حياتها.

يدّعي المنطق الذكوري أنّ المرأة اليوم تدرس، وتعمل، وتتسوّق، وتسافر … فما هو المطلوب؟

تعاني المرأة في كلّ بلاد العالم من التهميش ومركزية الرجل، وكلّ الامتيازات التي تحظى بها النساء اليوم، والتي يراها الرجل ترف، هي محض حقوقها المستعادة والتي انتُزِعَت منها. فلولا احتجاجات ومطالبات الحركة النسوية لما نالت المرأة حقّها في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة العامة، بما فيها السياسة والرياضة والفن والاقتصاد. ومع ذلك، وحتى يومنا هذا، تأخذ النساء في بعض البلاد أجوراً أقلّ من أجور الرجال في العمل نفسه.

تشارك المرأة في سوق العمل، ولكنها لا تزال تُعاني من النظرة الذكورية لها كامرأة عاملة، مثل تحميلها مسؤولية ما تواجهه في سوق العمل من تحرّش أو إهانة أو تمييز. حتى أن بعض الرجال يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم وزوجاتهم، أو كتابة أسماء بناتهم على دعوة الزفاف أو نسائهم على ورقة النعوة عند الوفاة. وهو ما يعكس في فحواه عقدة امتلاك المرأة والخجل منها، ومعاملتها على أنها “عورة”. حتى أن معايير الجمال التي يحدّدها الرجل، ما هي إلا انعكاس لتشييء المرأة وحصرها في صور نمطية محدّدة مسبقًا، مثلما تجادل الكاتبة النسوية، نعومي وولف، في كتابها “أسطورة الجمال” الذي عمل على تفكيك المفهوم الذكوري البطريركي السائد لـ”الجمال الأنثوي”.

بل أن العقدة من المرأة تنعكس في أوضح صورها في مهاجمة النسويات منهن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النسوية ليس حكراً على المرأة، وقد احتفى التاريخ بأسماء رجالٍ نسويين ناضلوا من أجل تحرير المرأة، مثل شارل فورييه وجان بول سارتر، وقاسم أمين والطاهر الحداد وغيرهم. فالرجل النسوي الذي يدافع عن حقوق المرأة هو رجلٌ وصل إلى مرحلة الوعي الجندري، الذي يؤهّله إلى الاعتراف بأنه لا يملك أفضلية ولا استحقاق على المرأة لمجرد أنه وُلِدَ ذكراً، وإلى الإيمان بأنّ المساواة بين الجنسين لا تضرّه ولا تُنقِص من حقوقه شيء.

حلقات التهميش

في المقابل، يستخدم غالبية الذكوريين السلطة الدينية لإطباق الخناق على المرأة، مستغلّين ذكوريّتهم لوصم النسويات بصفاتٍ منبوذة من الثقافة السائدة بغية تشويه قضيّتهنّ، خوفاً على مركزهم الأبوي الذي يعتبرونه دليل قوة، ويُسقِطون تعميمات يُلصِقُونها بالنسويات عبر وصفهنّ بـ”مُلحِدات” و”عاهرات” و”مُستَرجِلات” و”قبيحات” و”مثليّات جنسيّاً”.

وكما هي النسوية ليست حكراً على النساء، فإن الذكورية أيضاً ليست بالطبع حكراً على الرجال. وكما أن النسويين من الرجال يشكّلون إضافةً قوية للحركة النسوية، فإن الذكوريّات من النساء يشكّلن خطراً أكبر من الذكوريين عليها. ولا نُبالغ إذا شبّهنا ذلك بالمستعمَر الذي يُدافع عن المستعمِر وخطره على أبناء جلدته، مثلما دافع زعماء المعازل العرقية السود (البانتوستانات) عن حكم الرجل الأبيض للأفارقة السود.

فالمرأة الذكورية التي تحارب النساء اللواتي يطالبن بحقوقهنّ، وتشارك في نبذهنّ وتشويه صورتهنّ، هي الضحية الأكبر لمنظومة الذكورية. وبدلاً من الاصطفاف إلى جانب شريكاتها في القهر والاضطهاد، نراها تسعى لكسب مقعدٍ في الصف الأول للرضى الأبوي، من خلال إثبات طاعتها على حساب قريناتها المنبوذات. وبالتالي، على من يردّد باستمرار أن عدو المرأة الأول هو المرأة، أن يرى ذلك في سياق الهيمنة الذكورية بالمفهوم الغرامشي.

إنّ المسؤول عن ذكورية المرأة بالدرجة الأولى هو الرجل، الذي نجح في إقناعها أن الوضع الطبيعي هو أن تكون هي تابعة وفي منزلة أقل منه.

تلازم الوطني والاجتماعي

لم ينس الذكوريون/ات اتهام المُشارِكات قبل حتى بدء الحراك، بالتنكّر للقضية الفلسطينية، من خلال تجاهل تضحيات المرأة الفلسطينية في مقاومة الاحتلال من شهيدات وأسيرات، والتركيز على ضحايا العنف المنزلي وأنهنّ صاحبات أجندات خارجية ومتأثّرات بمنطق الغرب.

وهذه جدلية معروفة مرّت بها كل حركات التحرر الوطني في القرن العشرين، في محاولاتها لكسر العلاقة بين الوطني والاجتماعي بشقّيه الطبقي والجندري، مع عدم إنكار وجود بعض المنظمات النسوية “المتأنجزة” (نسبة إلى ngo، أي حركات المجتمع المدني)، التي تتلقّى تمويلاً ودعماً غربياً يحمل وجهةً استشراقية تدعو إلى “الجمع السلمي” و”الحوار” بين المرأة الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، متناسيةً أن الأولى مستعمَرة مضطهَدة، والأخيرة مستعمِرة مضطهِدة.

لقد هتفت بالفعل نساء حراك “طالعات” ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ورفعت صوراً للأسيرات في معتقلاته، كما هتفت نساء القدس “الثورة هي القرار، على الذكورية والاستعمار”، بل بادرن بإصدار بيان ردّاً على رفضهن اقتراح توجيه دعوة للنسويات الإسرائيليات للمشاركة بالحراك، للتأكيد على البعد السياسي الوطني للحراك ضدّ المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية، التي توجّه عنفها بشكل يومي، رافضاتٍ أن يكون الحراك طريقاً لشرعنة عنف المستعمِر.

في الأساس، لقد اتخذت مشاركة النساء العربيّات في الحياة العامة طابعاً وطنياً منذ البداية، وهذا ليس بغريبٍ على النسويات اللاتي عشن في بلادٍ عانت ويلات التهميش والإقصائية والاستعمار. فالنسويات الملوّنات، رفضن أن تصدّر لهن النسوية البيضاء مشاكلها على أنها مشاكلهنّ، ورفضن سياسة الإقصاء والاستعلاء عليهنّ، حيث أنّ النسوية البيضاء هي شريكة الرجل الأبيض في اضطهاد شعوبنا نساءً ورجالاً.

ومثلما أثبت حراك “طالعات” درجة الوعي الوطني، فإنه أثبت أيضاً درجة الوعي الاجتماعي لخطابه، حيث طالبت المشاركات بتحقيق العدالة الاجتماعية كمطلبٍ يتزامن مع المطالبة بوقف اضطهاد النساء. وفي ذلك فهمٌ سليم على أنّ تحقيق العدالة الجندرية لا يؤدّي بالضرورة إلى تحقيق عدالة اجتماعية، فالمعركة هي ضدّ منظومة مركّبة من البطريركية الطبقية.

حملت نساء فلسطين على عاتقهنّ، بالإضافة إلى هموم الوطن من احتلال وأسر واستشهاد، هموماً جندرية تؤكّد على أنها ليست وحدها المسؤولة عن تحقيق العدالة، بل يجب على جميع التوجّهات والأطر الوقوف في صفّها من أجل إعادة كتابة برامج تقدّمية، لا تُؤجَّل فيها قضايا المرأة إلى ما بعد التحرير، بل العمل بالتزامن على محاربة الذكورية، والطبقية والرأسمالية، والفساد، والظلم، والعنصرية، والاحتلال، والاستعمار. وهذا من شأنه أن يختصر طريق الوصول.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

جدلية الوطني والاجتماعي في حراك "طالعات"

جدلية الوطني والاجتماعي في حراك “طالعات”

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015