غالية
لوحة للفنان “أسعد فرزت”

خولة سمعان/swnsyria- تردّدت غالية كثيراً ثم حزمت أمرها وفتحت ردفة الخزانة وجعلت تطيل النظر إلى ملابسها، لا شيء جديد، لا شيء يستحق عناء النظر، لقد حفظت موجوداتها: البلوز الذي كان أسود اللون ثم حال لونه إلى رمادي باهت هنا وغامق هناك لطول الزمن، وتلك الممطوطة من الجانب الأيسر ومنكمشة عند كمها الأيمن. قالت لنفسها: “كانت ستصلح هذه لمشواري لكن”. فتحت تي شيرت مطوي هناك على الرف فوجدته مندوفاً كما قطن الوسادة.

في الردفتين الأخريين ملابس أخويها تيسير وتحسين، أخذت تقلب فيهما وهي تعرف أن أمها سوف تغضب أشدّ الغضب لمجرد أن تفتح باب الخزانة، فإن هذا سيبدد رائحة ولديها التي لا تزال عالقة في ملابسهما منذ أن غادرا، هكذا تقول الأم عندما تفتح باب الخزانة قليلاً، قليلاً، وتُدخِل رأسها إلى الداخل وتأخذ أطراف قميص معلّق وتشمّه وتقول: هذه رائحة تحسين، ثم تمسك بالقميص الآخر وتردّد: وهذا تيسير، تُغلق باب الخزانة وتصمت طويلاً، ثم فجأة تنهمر بالبكاء وهي تقول: اشتقت لكما يا نور عيني، ما كان أحلى لو فُتح هذا الباب ودخلتما تباعاً؟ أهو حلم يا رب؟ أوليس قلبي هذا قلب أم؟ كيف يا ربي تعذّب قلوب الأمهات؟

تدمع عينا غالية بالرغم من أنها في كل يوم تسمع هذه العبارات، وتتخيّل لو أنها هي الأخرى ذهبت مع أخويها تيسير وتحسين حتى لو ابتلعها البحر، يكفي أن تتخيّل أنّ أمها سوف تبكيها مثلهما! فلقد بات إحساسها بوجودها ثقيلاً للغاية، بل وغير مرغوب أيضاً، وإلا فماذا تعني عبارات أمها المتكرّرة يومياً:

الله يستر عليكي لعلّي أرتاح من همّك.

لا هَمّ لي الآن سواكِ، حلمي أن أراكِ في بيتك مع زوجك وأولادك مثل اختك لمياء.

يارب أرح بالي وابعث لابنتي ابن الحلال الذي سيستر عليها حتى أرتاح.

تقول غالية في سرها: أنا لست إلا همّاً يجثم على صدر أمي وأخي توفيق ولربما زوجته أيضاً، وتسمع والدتها وهي تُفضي بهمّها  إلى ابنتها لمياء على التلفون (لولا أختك غالية كنت بقيت عند الجماعة، هذا أرحم من المجيء في الليل وأوفر، تعرفين كيف تصبح المواصلات في الليل شحيحة ويستحكم السائقون فيطلبون ضعف التسعيرة، وأما الكهرباء المقطوعة فإنها والله تقطع قلب الرجل ذي أكبر شارب من الخوف).

تدرك غالية جيداً أنها إن تفوّهت بأية كلمة لن تسلم من لسان أمها التي ستقضي الليل كله تبكي وتبتهل إلى الله وهي تسرد مآسيها كلها في شكاوى تحرق الفؤاد وترفعها إلى الله، وأنها –غالباً– لن تنهض من فراشها في الصباح لأنها مريضة بسبب غالية التي لا ترحمها، وسوف يأتي أخوها توفيق ليُكمل ما تبقى، فيُوبّخها أبشع التوبيخ، وقد يضربها إن خلا بها في أرجاء البيت،ذلك أن أمّها لا يهون عليها أن تُضرَب رغم كل شيء، أما إن جاءت زهرة مع زوجها توفيق فإن بركان الغضب لن ينطفئ لأيام، لأنها –أي زهرة– كفيلة بتأجيج النيران بكلمات قليلة تهمسها في أذن زوجها همساً فيكون لمفعولها قوة عجيبة، ومن غير المستغرب أن ينجم عن ذلك عقوبات أخرى، كالحرمان من الخروج من المنزل، أو الذهاب مع توفيق وزوجته (هذا حسب جدول أعمال زهرة) فإن كان لديها حملة نظافة فإنها ستُوكِل لغالية تنظيف البيت ومحتوياته كلها شبراً شبراً، من السقف حتى الباب الخارجي، كما تفعل كلّ مرة قبل أن تضع زهرة مولودها المنتظر.

ترنُّ كلمات غصون بنت الجيران في رأس غالية، لقد حظيت غصون بخطوبة لابأس بها، وقد أرشدت غالية إلى السبيل الذي سيُوصِلها إلى النتيجة الحتمية المرغوبة (الخطوبة) ونصحتها بصدق، واليوم استلمت غالية أجرها مقابل مشاركتها في إعداد وليمة لإحدى العائلات التي تعمل والدتها لديهم، أضافت المبلغ إلى ما كانت قد ادّخرته في المرات التي سمحت فيها أمها بمصاحبتها لتساعدها في صنع الطعام والولائم وتنظيف بيوت الأثرياء الذين تعمل لديهم.

قالت في نفسها: غصون على حق، وأنا الغبية، إلى متى سأبقى حبيسة هذا المنزل؟ أرتضي الفقر والحرمان والوحدة، وأتقبّل هواني على أهلي وهم لا يتقبّلوني؟

صحيح المظهر له دوره، قالت لها غصون وأردفت: المظهر مغناطيس يجذب الشباب الخاطبين، عليكِ أن تظهري مثل بنات العائلات الغنية، بملابس أنيقة جميلة الألوان (لا تشرشحي حالك) مع القليل من الزينة والمكياج والاكسسوار، أما القطب الثاني للمغناطيس فهو حديثك وطريقة مشيتك في الشارع، إياكِ أن تمشي في الحارة، إذهبي إلى الحارات المرتاحة، اطلبي كأس عصير واجلسي في المطاعم، كل يوم في مطعم، ولسوف يأتيك العريس.

سألتها غالية: كيف أمشي؟ هل هناك طريقة معيّنة للمشي والحديث؟

طبعاً سأعلّمك كل شيء، لكن الآن عليك الحصول على ملابس جديدة ومكياج و بعض الاكسسوارات وحذاء بكعب عالٍ… أو اثنين –هذا أفضل– صدقيني هذا هو الطريق الوحيد للخروج من هذه المقابر التي نعيش فيها، هاهاها.. اسمعيني يا غالية: إن كنتِ تستطيعين اليوم ابتلاع كلّ هذا القرف لن تتحمّليه طويلاً، فإنكِ –إن كبرتِ أكثر وأنتِ في بيت أهلك– ستصبحين في أعينهم مثل العنزة الجرباء. ثم غمزت بعينها ومضت، وظلّت كلماتها تعمل عملها في رأس غالية.

أغلقت غالية باب الخزانة، ارتدت البلوز الممطوط وهي تُمنّي نفسها بالملابس الجديدة التي ظلّت تتراءى لها منذ أيام، تتخيّل حالها أمام المرآة وهي ترتدي فستاناً جديداً أو بلوز وبنطال أو تنورة.. تتخيّل الأحذية ذات الكعب العالي والاكسسوار والمكياج، اليوم سوف تشتري كلّ هذه الأشياء وسوف تظهر بأجمل صورة، وستفعل كما قالت لها غصون.

بعد أن عدّت نقودها للمرة الأخيرة خرجت والفرح يملئ قلبها.. أخذت تمشي في سوق الصالحية، تُطيل النظر إلى واجهات المحلات، تسأل عن الأسعار، تنظر، تبحث، تسأل، تساوم في الأسعار.. قالت لنفسها: ما هذا كأنني قادمة من عصر سحيق، أو كأنّ الأرقام تطاولت كثيراً كثيراً؟ لا هذا غير معقول! إن نقودي كلّها لا تكفي لشراء حذاء جديد.

توقّفت أمام عربات الباعة على الأرصفة، معلّلةً نفسها بشيء، وقفت حائرة، مُحبَطة، الغصّة تملأ حلقها، كادت تنهمر دموعها وهي ترنو إلى الفساتين المعروضة.. آه ياليت نقودي تكفي لفستان واحد، قالت بحسرة مسلّمة بتنازلها عن باقي المشتريات.. اشترت قلم كُحل من إحدى البسطات، وقفت تفكّر: ماذا أفعل؟ سأعود إلى البيت.. لكن كلمات أمها وإحساسها بانعدام قيمتها ومكانتها جعلها تتوقّف.. تذكّرت أمها ثانيةً حين عيّرتها قائلةً:

اشكري ربّك لأني أستطيع أن أجلب الطعام لك ولي، كيف تطلبين بيجاما جديدة؟ ألا يكفي أنك تعيشين معزَّزة مكرَّمة مستورة في بيت أهلك، انظري هذه لينا بنت الأكابر صارت تشتري ملابسها من سوق البالة.. فماذا أفعل أنا المرأة المسكينة؟ ها؟ هؤلاء الجماعة الذين أعمل لديهم، بيت العز، صاروا يشترون كلّ شيء من الباله..

اممم. قالت غالية لنفسها وهمست: إلى الفحّامة إذاً يا غالية.. ركبت في السرفيس المتهالك، حشرت نفسها بين رجل ستيني يتقاطر العرق منه، وترشح من عينيه الدموع، لا تعرف إن كان به مرض أم هو يبكي؟

تجلس أمامها على الكرسي المنفرد امرأة بدينة بعض الشيء، يغزّها حديد الكرسي المنفلع عند ساقها، تصيح، يقول السائق: ماذا أفعل؟ وكيلكم الله بالأمس أنفقت مليوني ليرة على تصليحها، ويخبط بيده على المقود أمامه، ويكمل: ويا ليت هذا المبلغ متوفّر معي، لقد بعت ساعتي والتلفزيون والخلاط.. اتركوها على الله، ياأختي انتبهي في المرّة القادمة أين تجلسين..

تنزل غالية في شارع خالد بن الوليد، تسأل أين سوق البالة، تقول لها إحدى السيّدات: تعالي معنا نحن ذاهبات إليها!

تسير مع السيدة وجاراتها أو أخواتها وأولاد كثيرين من أعمار مختلفة، تستقبلهنّ رائحةٌ مختلفة، رائحة البالة.. تقول لها السيدة: هذه هي، اختاري ما تريدين، ساومي الباعة كي تحصلي على سعر معقول..

سوقٌ كامل يعجّ بالحركة، أكوام من الملابس على البسطات، على الدكك، هنا وهناك، بعض الأشياء معلّقة، يبدو أنها غالية الثمن، والكلُّ منهمك في البحث، هناك فتياتٌ تجرّبن الأحذية، وتلك الشابة تخلع جاكيتاً وترتدي آخر وتسأل الشاب الذي برفقتها: أيهما يليق بي أكثر؟ ينصحها البائع: الجاكيت البيج أثقل، تتحمس غالية، تدعو ربها: يارب ابعث لي ابن الحلال كي يخلّصني من عيشتي.

تقلّب غالية بعض الملابس، تنتخب قميصين وبلوز مزهر وبنطالين وكنزة ربيعية مطرّزة عند الصدر، وجاكيت وفستان، تسأل البائع عن ثمنها فيقول لها هذه بعشرين ألف وتلك بثمانية آلاف والبنظال بثلاثة عشرة ألفاً والفستان، هذا فستان حرير ب18 والجاكيت ب 48 ألفاً ..

تسأله غالية بعفوية: أهذه الأشياء جديدة؟

يضحك البائع، يقهقه بعصبية، يقول لها: رأيتك وعرفت حالتك وأعطيتك سعر خاص والله.. لكن انت صغيرة لا تعرفين شيئاً، احترقنا يا بنتي. هل تريدين أن أخبرك عن الأسعار؟

تشعر بالحنق، تكاد تبكي، تريد أن تشتم، تصرخ، تنظر إلى ما حولها: الكلّ غارق في همه، الكلّ يبحث، يسأل وينقّب في عمق الملابس البالة، حتى الأطفال هنا برفقة أمهاتهنّ يلوّن البؤس صمتهم ويُسفَح جلال طفولتهنّ في أمنياتٍ لا تتراوح ساحات سوق البالية، والرجال هاهنا يغضّون الطرف عن كراماتهم المكسورة وهم يُساومون من أجل حذاء ربما كان قد احتذاه مِن قبل أحد الذين ساهموا في تجويعهم.

أخيراً تعود غالية وفي حوزتها كيسٌ صغير فيه قميصٌ ملوّن بالأبيض والأسود وبعض النقاط الزرقاء، وحذاءٌ صيفي بشرائط ملونة، فيه شريط مقطوع في إحدى الفردتين، اشترته من ذلك البائع الذي ما فتأ يصيح بصوت مبحوح: (يا جبار اجبرنا).. اشترته (على عذره) وتنازل لها عن نصف ثمنه.. تناولته وهي تقول: لابأس، سوف أصلحه عند أبو ياسين الكندرجي.

وقفت طويلاً بانتظار الحافلة (السرفيس) ساعةً أو أكثر، وهي تمسك أحلامها في كيسين صغيرين أحضرتهما من البالة.. وعندما وصلت الحافلة دخلت بين الناس المتدافعين.. الحركة دفعتها إلى الداخل، نظر إليها أحدهم قائلاً:

أهذه أنتِ بنت أم توفيق؟ ما شاء الله لقد أصبحتِ شابّة.

ردّت عليه بتحية خجولة قائلةً:

أهلين عمو أبو راتب.

ظلً أبو راتب ينظر إليها كلما انعكس ضوء من الشوارع وبدد عتمة الحافلة، وحين سمحت لنفسها بالنظر رأت فمه بأسنانه النخرة  وقد انفرج عن ضحكة خبيثة.

في الحارة راحت تُسرع الخطى وهو يتبعها، اقترب منها وقال: أخبري السيدة الوالدة أنني سآتي لزيارتكم غداً.

لوحة للفنان “أسعد فرزت”

لوحة للفنان “أسعد فرزت” 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015