مجلة “طلعنا عالحرية”- يعرض كتابُ المُفكِّر الأستاذ جاد الكريم جباعي (فخّ المُساواة _ تأنيث الرجل.. تذكير المرأة) أنموذجاً متقدماً للحفر في الجذور العميقة للاستبداد التي يُرجِعها في طيّات هذا العمل إلى نسيان العلاقة الأصيلة بين جدلية “الفرد والنوع” من ناحية أولى, وجدلية “الذكورة والأنوثة” من ناحية ثانية, وذلك باعتبار “الفرد أو الشخص أنثى أو ذكراً، وأنثى وذكراً من جهة, وتعيُّناً للنوع الإنساني من جهة أخرى، بل هو النوع مُتعيِّناً”؛ إذ مثَّلَ الانزياح الزائف لهاتين الجدليتين حِجاباً مُركَّباً لصالح هيمنة مركزية تسلطية بطريركية لطالما مارست سطوتها وعياً ووجوداً على كامل طبقات البِنية الحياتية في سورية بما هي انعكاس لمركزية أوسع سادَتْ في الفكر والفعل العالميين نازعةً فعالية العلاقات الجدلية البناءة التي يُفترَض أن تحافظ على الاستقلال الذاتي للفرد ذكراً أو أنثى لا بوصف ذلك إعادة إنتاج لمركزية مقلوبة تحت شعار المُساواة؛ إنَّما بوصفه انفتاحاً على المُمكِن والمُختلِف والحُرّ في الوجود البشري في العالم.
يرى المُؤلِّف أنَّ سورية قد نالت استقلالها وغدت كياناً سياسياً لم يحقق صفة “الدولة” لعدم تشكُّل السوريين بوصفهم أمة وشعباً أو مجتمعاً مدنياً, إذ اختلط في اعتقاده “مفهوم الدولة بمفهوم السلطة أو الحكومة, ومفهوم السيادة بمفهوم السياسة”، حيث شكَّل الانتماء إلى ما يدعوه “المجتمع الحكومي” آليّة تغوُّل سلطوية كبَحَتْ إمكانيات التحول إلى “المجتمع المدني”, لتبتلع البِنية السلطوية الفضاء الاجتماعي عبرَ ميلها الطبيعي إلى التوسُّع والشمول والسيطرة, في مقابل ميل ذلك الفضاء الاجتماعي إلى عدم المقاومة والركود السلبي غالباً أمامَ خطابها “الوطني” و”التحرري”, أو بفعل الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي الذي يحققه الالتحاق بها والاندماج في عالمها, أو بفعل الانكفاء المُكلَّل بالفقر والجهل والأُميّة لدى بعض تيارات المجتمع المهمشة, فضلاً عن الخوف من بطش السلطة وانتقامها في حالة مُواجَهة تمدُّدها على حساب الخصوصيات أو الرؤى المختلفة التي كان يمكن أن تقاومها إلى حد كبير .
إنَّ تجربة ما بعد الاستقلال السوري تحتاج إلى مراجعة جذرية شاملة لتفكيك العناصر المكونة للوعي السياسي السوري, ولا سيما في ضوء الإخفاق في بناء دولة حديثة معاصرة، والناجم بشكل أساسي عن انتكاس التحول الديمقراطي، والتحول بدَلاً من ذلكَ _وفي مرحلةٍ لاحِقة_ إلى استبداد السلطة الشمولية التي لطالما كشفَتْ عن فصام حاد بين الشعارات التي رفَعتها، وحركيّة الواقع وتجاربه طوال عقود ماضية, وهي المسألة التي حاولت هذه السلطة ترميمها أو لنقُل ترقيعها باستمرار عبر احتلال الفضاء السياسي العام بالمُطابَقة بينه وبين مفهوم السيادة للقبض على الشرعية المُفتَقدة, ولذلك كان لابد دائماً من إخصاء الاختلاف المجتمعي بتعميم عناوين عريضة ذات نزعة شعبوية مُتَّكِئة على شعارات عروبية وإسلامية تهدف من جانب أوّل إلى استقطاب الشارع العريض بدغدغة وعيه الأوّلي, ومن جانب ثانٍ إلى استقطاب المرجعيات المذهبية وحتَّى السياسية منعاً لإمكانية قيام أيَّة مُعارَضة فاعِلة ومُؤثِّرة, ولافتراس أيَّة فرصة لظهور الاختلاف المُخلْخِل لوَحدة (السلطة _ الدولة _ المجتمع) الشمولية المزعومة.
لعل تسييس العروبة وتسييس الدين كانا مدخلين حاسمين لمصادرة الفضاء الاجتماعي العام في سورية, وذلك بالاستفادة من الوعي التقليدي بما هي استفادة تتأسس على العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة, والتي لم تحقق عملياً سوى إعادة إنتاج المجتمع البطريركي, الذي يعود في جذوره البشرية القديمة إلى استبدال “حكم الأب” بـِ “النظام الأمومي”, لتبقى دعوتا “الحداثة” و”العلمانية” مجرد قشرتيْن منفصلتيْن عن مُحتواهما المَفهومي والعمَلي، ولا سيما في ظلّ تغيب مفهوم “المُواطَنة” عبر الانقلاب على “دولة المجتمع”، وإحلال “مجتمع الدولة” محلها، والانقلاب على “دولة الشعب”، وإحلال “شعب الدولة” محلها أيضاً, لتكتسب صفتا “الحداثة والعلمانية طابعاً حكومياً استبدادياً في الواقع, وإيديولوجياً, في الأذهان, لا ينفصل عن أيديولوجية السلطة أو خطابها, وهو الأمر الذي حالَ “دون نمو المجتمع المدني وتشكل دولة وطنية حديثة, تحمل إمكانيّات التحول إلى دولة ديمقراطية. لقد تحولت الحداثة والعلمانية, عندنا، بالفعل, إلى علامتين حكوميتين موسومتين بالتسلط والاستبداد, فضلاً عن طابعها التلفيقي أو الهجين”, الذي نحَّى جانباً و نفى فكرة “المُواطَنة” بوصفها “الصيغة السياسية لحرية الفرد وحقوق الإنسان”؛ حيث حُذِفَتْ هذه الفكرة “إلى هامش الحياة السياسية والثقافة والقانونية, فحلَّت فكرة المُناضِل والمُناضِلة محلّ فكرة المُواطِن والمُواطِنة, وحلَّتِ الامتيازات محلّ الحقوق, فضمر الروح الإنساني, وتآكلت الحياة الإنسانية”.
إنَّ الوعي السياسي الذي سادَ بعد الاستقلال هيمن عليه تياران أساسيان: “تيار ثوري أو انقلابي, عقائدي, تتقاسمه أيديولوجيات قومية واشتراكية وإسلامية, ما فوق وطنية, وأحزاب عابرة للحدود ذات سيماء ريفية و أقلوية. وتيار تقليدي: شبه ليبرالي تخترقه عصبيات جهوية وعشائرية ومذهبية وأقوامية, يشمل القوى المحافظة التي كانت صاحبة النفوذ في المجالين: الاجتماعي _ الاقتصادي والسياسي. فلم تتجذر الوطنية السورية, التي تشكلت نواتها في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال, والمرحلة الليبرالية القصيرة التالية, ولم تعترف النخبة السورية البازغة بشرعية الدولة الناشئة حديثاً, وظلت تعاني نوعاً من شعور بـِ (نقص الاكتفاء الكياني) بتعبير ياسين الحافظ. يُعبِّرُ عن ذلك وصف سورية بأنها (دولة قطرية) و(دولة ما تبقَّى), وكلتاهما صفتان تحقيريتان” تؤكدان أسباب تمدُّد الأحزاب العقائدية وتوسُّعها, في مجتمع حديث النشأة لم يُؤسِّس بعد مجتمعه المدني السوري, أو أمته الحديثة, وهو الأمر الذي مهَّدَ موضوعياً لحركة الثامن من آذار عام 1963، والتي أرسَتْ دعائم حكم الحزب الواحد بطبيعته الشعبوية, والتي تجذَّرَتْ عبرَ عملية تنسيق بِنى المجتمع في المُنظمات الشعبيّة المُصادِرة للفضاء العام, والقائمة على حركيّة إدماج المجتمع في مركزية سلطوية أحادية تُخفي أو تُموِّهُ الاختلاف, ولاسيما بعد الانتقال من حالة الحزب العقائديّ ذات الأبعاد المثالية في مرحلة سيادة المُناخ الليبرالي القصيرة, إلى حالة الحزب التسلطي المُتعالي الذي فرَضَ هيمنته على المجتمع عبر أيديولوجيا شمولية لم تفتأ أن تبتلع الحزب نفسه, وأنْ تُفرِّغه من مضمونه رويداً رويداً بعد انزياح مركز السلطة من التنظيم الحزبي إلى المؤسسة العسكرية _ الأمنية المُستفيدة والمُوظِّفة في آنٍ معاً لصِلاتها العميقة مع البِنية الريفية و الأقلوية, والتي مارست (أي هذه المُؤسَّسة) فعل الانقضاض على الفضاء العام أو “تأميم قوة عمل المجتمع” عبر أداء تسلطي يقوم على الإرهاب والأيديولوجيا والإعلام, ليُسدَلَ الستار على المشهد السياسي في العقود الأخيرة بوصفه انتقالاً من حكم “الحزب القائد” إلى حكم “الرئيس القائد”.
وفي هذا الإطار, يدعو المُؤلِّف إلى أن نبدأ في سورية “بنقد الثقافة الكولونيالية, وعلاقة المستعمِر بالمستعمَر, التي أعيد إنتاجها فصامياً في العقيدة القومية, والعقيدة الإسلامية للإسلام السياسي”, حيث التبسَ “مفهوم الذات الجمعية بمفهوم الهُوِيّة”, وغدت “العلاقات بين الأفراد والجماعات والأمم والشعوب علاقات هووية؛ أي علاقات بين هُوِيّات ثابتة مُفترَضة قَبْليّاً. ويتجلى ذلك في علاقات السيطرة الفظة والهيمنة الثقافية الناعمة, ومن أكثر أمثلتها بروزاً علاقة المستعمِر بالمستعمَر, التي أنتجت وعينا, هُوِيَّتين شرقية وغربية مشحونتين بالعنصرية, بالطريقة نفسها التي أنتجت الأعلى والأدنى, والمرأة والرّجُل”, ذلك أنَّ “ نمَطَي التمايُز، الجنسي والتمايز الثقافي، ليسا منفصلين أحدهما عن الآخَر في تمثيل الاختلاف, بل إن خطاب الجنسانية وخطاب العرق مُتواشِجان وظيفياً في جهاز السلطة المركزية”, ولهذا الفَهم جذره العميق الكائن في “علاقة المستعمِر الغربي بالمستعمَر الشرقي”, حيث “تكون المرأة هي الشرق, والشرق هو المرأة؛ فإذا كان الشرقي مؤنثاً, والمؤنث شرقياً, يمكننا أنْ ندعي أنَّ طبيعة الأنوثة وطبيعة الشرق يجري تصويرهما على أنهما الشيء نفسه, في هذه التمثيلات”، لتُطرَح “الذات الغربية بوصفها مذكرة: الثقافة الأُخرى هي دوماً مثل (الجنس الآخَر)”.
إنَّ “الثقافة البطريركية هي, في الأساس, ثقافة تأنيث الرعايا, مثلما ثقافة المستعمِر هي ثقافة تأنيث السكان الأصليين”, وهذه الثقافة تقوم على فكرة “العقل الكلي” الذي يصفه المُؤلِّف بأنه “تصور ساذج للكون, وأكبر كذبة فلسفية _ دينية, وأكبر خطيئة فلسفية و دينية, وأكبر إهانة للفرد الإنساني والروح الإنساني. و(العقل العربي) ومقابلُهُ (العقل الغربي) أسوأ مقولة (فكرية), لأنها إدلوجة تفاضلية لا تمتُّ إلى الفكر بأي صلة, لأن قوامها تنصيب الواحد المستبد عقلاً كلياً وتقديسه, والواحد هنا رمز للسلطة الكليانية المطلقة”. ولذلك يرى الأستاذ جاد الكريم أنَّ “ نقد المركزية الأوروبية والاستشراق كان صائباً وضرورياً, لكنه لم يفتح ملف الإثنية العربية المضادة, والمركزية الإثنية _ المذهبية العربية الإسلامية, ولم يعنَ بالمركزية الذكورية, والمركزية الأنثوية المضادة, سوى عدد قليل من المفكرين”, ولاسيما أن ما يُسمَّى بـِ (الاستغراب) لم يكن سوى فعلاً مقلوباً للاستشراق أنَّثَ بدوره الغرب بوصفه آخَراً للمركزية العربية الإسلامية, لذلك لا مناص عند نقد “المركزية الأوروبية” من نقد المركزية/المركزيات المضادة, واقتران تفكيك مفهوم “الغرب” بتفكيك مفاهيم “الشرق والعرب والمسلمين”؛ إذ إنه من الضروري أن نعمل على نقد جهاز استقبالنا للفكر الغربي, والكشف عن آثاره المباشرة وغير المباشرة في تشكل ذواتنا, ولاسيما إذا فهمنا أن مركزياتنا العربية المختلفة قد انبثقت في جانب أساسي منها عن سعي “ذاتنا الكلية” الجريحة إلى القيام “بعملية دفاع وهمية” اتكأت فيها على الماضي, مُعيدةً إنتاج “التمركز الغربي العنصري” بإلصاق صفات النقص للآخَر المُختلِف والغريب “الغرب”, حيث انقلَبَ “الشعور بالدونية إلى شعور بالاستعلاء, والرهبة التي تلازم التماهي بالغالِب إلى تبجُّح”, فَـ “الذات الجوهرية تجوهر الآخَر وتجعل منه نقيضها المطلق, وتجهل أنها تنكر ذاتها و ذاتيتها عندما تنكر ذات الآخَر, وذاتيته”. و”الخطاب الأحادي المؤسَّس على إنكار الآخَر انفعالياً خطابُ ذاتٍ خاوية متلاشية متهالكة إزاء الآخَر الذي تنكره وتستنكر وجوده, تحتاج إلى شيء من الماضي أو من الخارج يملأ فراغَها ويمنحها قواماً. تأمَّلوا فكرة (الذات العربية) أو (الإسلامية), التي لا قوامَ لها من دون (الماضي), أو من دون (التراث), وما يُسمَّى (التاريخ), ومن دون قداسة اللغة, ونقاء العرق؛ أي من دون ما يسميه القوميون والإسلاميون (ثوابت الأمة), التي هي نفسها (ثوابت الملّةَ)”, وهذا العقل الجوهراني الكلي بنظرته الاختزالية للآخَر لا ينمُّ إلا عن إعادة إنتاج “وهم العنصرية التأنيثية للاستعمار” بما هو مضمون الفكر البطريركي الأحادي, والذي لا يتوقَّفُ نفيه للآخَر عندَ ما يدَّعي اختلافه ثقافياً وعرقياً وقومياً ودينياً, إنّما يبدأ هذا الفكرُ فعلَ النفي أصلاً انطلاقاً من نفي المرأة نفسها.