بشرى البشوات/ جيرون- حبيبَ قلبي وروحي، هذه آخر رسالة أبعثها إليك من روما، غدًا سأغادر عبر رحلة جوية، لا يمكنك أن تتخيل حجم سعادتي وأنا أتجه إلى مكانٍ كنتَ تعيش فيه، شعور يخفف عني الإحساس الثقيل بالغربة. كان لي شعور مماثل حين كنتُ في شيراز. حينما كنتُ أسير في شوارعها، كان يتملكني شعور بأنني أرافق طفولتك وصباك، وحين كنت أشم الهواء، كنت أشعر أنني أستنشق أنفاسَك الغالية، وكانت عيناي تلاحق ذكرياتك فوق الأبواب والجدران وتعود راضية. فديتك، فديت قامتك ووجودك، فديت الشعرَ الأبيض خلف رقبتك، فديت بؤبؤي عينيك الحائرين، فديت حزنك وسرورك. ما أنتَ الذي لا يمكنني أن أهدأ من دونك؟ يكفيني أثر قدمك على التراب يكفيني ذلك، يكفيني كي أثق بك كي أقف، كي أكون. يكفي أن تناديني فروغ، فأولد ثانية وتولد معي العصافير والأشجار. أحبك، أحبك، ولا طاقة لقلبي الصغير بكل هذا الحب.
رسالة من الرسائل التي كتبتها الشاعرة الإيرانيّة فروغ فرخزاد إلى القاص والمخرج السينمائي إبراهيم كلستان.
سنة 1967 تنتهي حياة فروغ فرخزاد التي ولدت سنة 1935. عاشت فروغ حياة قصيرة شأن كثير من عظماء العالم، لكنها كانت كافية لتقول لإيران وللعالم: ثمة امرأة ولدت هناك؛ ستذكرون اسمها طويلًا.
عاد اسم فروغ للظهور إلى ساحة الضوء، بعد وفاة شقيقتها وموطن أسرارها الشاعرة والمترجمة بوران فرخزاد العام الماضي، وقبل ذلك، ظهر المخرج والقاص إبراهيم كلستان على إحدى الشاشات وتحدث عن علاقته بفروغ، وقد استنكرت شقيقتها الطرح التجاري للموضوع، بعد خمسين سنة على وفاة فروغ، لكن هل ظهر إبراهيم كقاص ومخرج، وتحدث على العلن عن علاقة انتهت بموت صاحبتها؛ فقط ليحصد الإعجاب ولتشرئب إليه الأعناق مستنكرة، مستفسرة!
لا يستطيع أحد أن ينكر -بعد الآن- هذا الحب الذي جمعهما، فهذه رسالة من رسائلها، وقد نشرها إبراهيم وقتئذٍ بخط يد فروغ.
ماذا قدمت فروغ فرخزاد من خلال دواوينها الشعرية، والحياة؛ اللمحة التي عاشتها، في بلاد مثل فارس، تمتد مسيرتها الثقافية أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ويعدّ الشعر في مقدمة تراث هذه الأمة.
بلاد خرج منها سعدي الشيرازي، عمر الخيّام، جلال الديّن الرومي…
نشرت هذه المرأة التي لم تطق إطار الزوجيّة أولَ دواوينها الشعريّة، وهي في السابعة عشرة، امرأة مطلقة في إيران تحمل أفكارًا وثابة وجدليّة، امرأة متعلمة قادمة من عائلة عسكرية، تشكل الصرامة والجديّة أول ملامحها، فكيف هو الحال بنسائها؟!
ناضلت فروغ لتكسر صورة المرأة التقليدية، مثلما ناضلت لتمتلك جسدها.
يظهر تمردها واضحًا من خلال العناوين التي اختارتها للدواوين، حيث تُظهر هذه العناوين الواقع الذي عاشته الشاعرة، وتتوق للفرار منه. (الأسيرة، الجدار، الخائفة، العصيان)
الأسر والجدار والخوف والعصيان، ترتبط ارتباطًا كليًّا بحالة الشاعرة وحياتها القلقة من زواج لم تكمله، إلى أمومّة منقوصة، إلى مجتمع جديد انتقلت إليه ومنحها كل السماء لتحلّق.
عاشت فروغ لاحقًا في إنكلترا، درست الإخراج، كتبت سيناريوهات، مثّلث في إحدى المسرحيات، وكتبت المزيد من الأشعار، وحكت عن الجسد والخطيئة والرغاب؛ وهي تقف على مسافة قريبة من كل ذلك.
يتحدث كثير من المقالات والكتب عن هذه المرأة، تتحدث الإيرانيات عنها، تترجم أشعارها إلى لغات عدة، وتموت باكرًا، وينقل جثمانها لتدفن هناك في تلك البلاد، بلاد الشمس والشعر، بلاد المتصوفة والعطش، بلاد التوق إلى المزيد من الحياة.
تكتب فروغ شعرًا يتوق للانعتاق، يحكي عن الجسد أكثر، يحكي من دون مواربة وبقصد، تمامًا عن كل النساء اللواتي عرفتهن، النساء الصامتات، الشقيات، فتربط بين شخصيتها الحقيقية وما تكتب، وهي هكذا إنما تقدم لنا نفسها، كما يمكنني أن أقول بأنها تقدمني، وتقدم كل النسوة اللواتي لم يجرؤن يومًا على قول: إنني أريدك، إنني أرغب بك، وهذا الجسد لي، وهذه الشهوات لي.
في العام الماضي، التقيتُ بشابة إيرانية قادمة من إيران، فنانة تشكيلية، وفي لقائنا الثاني تذكرت فروغ فرخزاد، فسألتها عنها، قالت لي: لم تترك لنا فروغ ما نكتب عنه بعد، أو ما نرسمه، لقد أخذتنا جميعًا؛ ولا تزال تأخذنا.
تنظر الإيرانيات بعين الإعجاب والفخر إلى هذه السيدة، قرأت لي الشابة أشعارًا باللغة الفارسية لفروغ، صحيح أنني لم أفهم منها شيئًا، لكنني كنت ألاحظ -جيدًا- حجم الشهيق الذي تأخذه الشابة كلما قرأت مقطعًا جديدًا.
كان صوت فروغ يصدح بداخلها ويلكز “الأدرينالين” لكي يرتفع ويرتفع.
قصائد فروغ فرخزاد
ديوان الأسيرة:
أريدك وأعلم أنني لن أضمّك
إلى صدري مطلقًا كما يتمنى قلبي
فأنت تلك السماء الصافية المضيئة
أما أنا فطائر أسير في زاوية قفص
وأرنو إلى وجهك بنظرة كلها حسرة
من خلف القضبان الباردة المظلمة
وأتخيّل أن يدًا ستمتد لي
وأرفرف بجناحي فجأة متجهة صوبك
مثل تلك الراقصة الهندية
أرقص بدلال لكن فوق قبر.
ديوان الجدار:
واأسفاه لم أعد أصدق أنني صرت عاقلة
بعد تلك الأفعال الجنونية
وكأنه قد مات فيّ
وأصبحت متعبة وصامتة ومن دون فائدة
وأسأل المرآة كل لحظة، في حالة الملل
من أكون أنا وماذا أكون في نظرك؟
لكنني أرى في المرآة ويا للأسف
أنني لست ظلًا -أيضًا- لما كنته.
ديوان العصيان:
لو لم يأت الغد من الطريق
لبقيت جانبك إلى الأبد
ولغنيت إلى الأبد أغنية عشقي
تحت أشعة شمس عشقك
خلف زجاج نوافذ غرفتك
كان لتلك الليلة نظرة باردة معتمة
وكأن دهليز عينيك في الظلمة
كان له طريق يمتد إلى أعماق روحي
كان هناك سر يمتد من داخل صدري
وكنت أريده أن يتحدث معك
إلا أن صوتي كان خفيفًا بسبب العقدة
فالنباتات لا تنمو مطلقًا في الظل.