سارة فياض/ BBCعربي- لم تتوقف سماح (اسم مستعار) عن البكاء طوال حديثي معها حول ما تتعرّض له من عنف منزلي. تجد نفسها الآن، وقد فُرضت إجراءات الحجر المنزلي في المغرب بسبب فيروس كورونا، غير قادرة على الهرب من معنفها، ولو إلى منزل والديها.
من أمان منزلي اللندني، حيث أعمل بسبب انتشار الفيروس في بريطانيا، أستمع إلى الرعب الذي تعيشه سماح، ورضيعها الذي لا يتجاوز عمره أشهراً، بشكلٍ يومي في منزلها.
سماح جامعية، لم تتزوّج باكراً، وحالة زوجها المادية ميسورة. تصف بحسرة كيف أقدمت على الزواج بعد تمنّع طويل، “فقد كنت أتخيّل أن زوجي سيمنحني المودة والرحمة”. لكنها وجدت نفسها ضحيةً لعنف نفسي ولفظي وجسدي فوق الاحتمال، وكان حملها بوليدها سبباً كي يضغط الأهل عليها لتصبر، لعلّ الحال ينصلح.
تذكرني قصة سماح بأنّ كل التنميط الذي يحيط بقصص العنف المنزلي الذي تتعرّض له النساء في كلّ العالم، يسقط أمام المعاناة الخاصة جداً والمتفرّدة جداً التي تمرّ بها كلّ واحدةٍ من ضحايا العنف. وتبيّن لي أن الصورة، حين تتجمّع أجزاؤها من قصص هؤلاء النسوة، شديدة التعقيد والصعوبة.
تحكي الناشطة والحقوقية الكويتية عذراء الرفاعي -بكثيرٍ من الحرقة- قصص فتيات وجدن أنفسهنّ حبيسات بيتٍ واحد مع معنِّفيهنّ، في ضوء إجراءات الإغلاق المفروضة في البلاد ، شاكيةً عدم قدرتها على مدّ يد العون لهنّ.
وخلال أسبوعين من فرض إجراءات الحظر، تلقّت عذراء وزميلاتها في “فريق إيثار لحماية ضحايا العنف الأسري” حوالي عشرين اتصالاً من فتياتٍ وسيّدات، تشتكين تعرّضهن لشكلٍ من أشكال العنف -بما فيها الجنسي- في منازلهنّ. شكّل هذا ارتفاعاً كبيراً في عدد الاتصالات التي يتلقّاها الفريق، والتي كانت قبل الأزمة تتراوح بين اتصالٍ إلى ثلاثة في الشهر.
لكن في ضوء غياب قانونٍ خاص يحمي المرأة من العنف، وعدم وجود مراكز إيواء للنساء المعنَّفات في الكويت، فضلاً عن تعطيل الإدارة الشرطية التي يمكنها التعامل مع ضحايا العنف من النساء، تجد متطوّعات “فريق إيثار” أنفسهنّ مكبَّلات اليدين. ولا تتسع الدار البسيطة، التي استأجرنها المتطوّعات على حسابهنّ الخاص لإيواء الضحايا، إلا لأربع فتيات. والمحاكم التي يمكن عبرها تحريك دعوى قضائية ضدّ المعنفين والمعتدين معطَّلة حتى إشعار آخر.
عنف عالمي
توالت التقارير التي تشير إلى ارتفاع حاد في حالات العنف المنزلي ضدّ النساء والفتيات في أماكن مختلفة من العالم، وذلك مع اتساع رقعة إجراءات الإغلاق التي تتخذها دول عدّة للحدّ من انتشار فيروس كورونا.
وارتفعت حالات العنف المنزلي في فرنسا، مثلاً، بأكثر من ثلاثين في المئة خلال أسبوع واحد، ما دفع السلطات إلى الإعلان عن سلسلة من الإجراءات لمساعدة النساء على التبليغ عن تعرّضهن للعنف وإيوائهنّ.
وخرجت تقارير مشابهة في كل من بريطانيا وأسبانيا والولايات المتحدة وغيرها، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الدعوة لاتخاذ تدابير لمعالجة “الطفرة العالمية المروّعة في العنف المنزلي” ضدّ النساء والفتيات، والمرتبطة بتداعيات تفشّي فيروس كورونا.
في العالم العربي، جاءت أولى التصريحات الرسمية التي تعكس تعاظم مشكلة العنف المنزلي على ضوء تفشّي فيروس كورونا من لبنان. فقد صرّحت قوى الأمن الداخلي هناك أنّ الخط الساخن المخصّص لتلقّي شكاوى العنف الأُسري شهد ارتفاعاً في عدد الاتصالات التي وصلته بنسبة مئة في المئة في شهر مارس/آذار من العام الحالي، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي.
وتشير حياة مرشاد مسؤولة الحملات والتواصل في التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني، إلى ارتفاع نسبة بلاغات العنف الواردة للخط الساخن للتجمّع خلال شهر مارس/آذار بنسبة 180٪ مقارنةً بالشهرين السابقين، لكنها توضح أن ارتفاع مستوى العنف المنزلي في البلاد شهد منحى تصاعدياً بدءاً من نهاية العام الفائت، بالتزامن مع تعاظم الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان.
وتؤكّد شهادات النساء المعنَّفات، التي شاركتنا إياها غيداء عناني مديرة منظمة أبعاد، الارتباط الوثيق بين التبعات الاقتصادية للأزمة التي يشهدها لبنان وبين ازدياد حدّة العنف وتعاظمه.
وتعمّق أثر هذه التبعات الاقتصادية مع إجراءات الإغلاق وتعطيل الأعمال بسبب فيروس كورونا، إذ تتحدّث نساءٌ عدّة عن الضائقة الاقتصادية التي تمرّ بها أسرهنّ، وعن زيادة حدّة التوتّر في العلاقات المنزلية، وارتفاع معدّلات العنف نتيجة وجود أفراد العائلة في مكان واحد طوال اليوم، بجانب ضغوط انقطاع مورد الدخل الرئيسي لها.
وتقول عناني إنّ هذه النسب لا تشكّل إلّا النزر اليسير من العدد الحقيقي للنساء اللواتي يتعرّضن إلى عنف أُسري، إذ تشير إلى عدد من المعوّقات التي تحدّ من قدرة النساء على طلب المساعدة، من بينها أنه في ضوء الأخطار المحدقة بالصحة العامة، تعتبر كثيرٌ من النساء أنّ الحفاظ على وحدة الأسرة يشكّل أولوية على حماية أنفسهنّ من العنف.
كما ترصد عناني أنّ كثيراً من النساء لا يملكن القدرة على التبليغ عن تعرّضهن للعنف لعدم امتلاكهنّ هواتف، أو حتى عدم القدرة على الاختلاء بأنفسهنّ للتواصل مع الجهات المختصة أو المنظمات طلباً للحماية.
أزمة في الإبلاغ
وقد استفاد لبنان من معرفة عددٍ كبير من النساء بسبل التواصل الهاتفية مع السلطات والجمعيات النسوية في ضوء إغلاق الطرقات ومراكز الاستقبال، لكن الوضع يختلف في مصر على سبيل المثال.
وتشير سهام علي، المديرة التنفيذية لبرامج المرأة في مؤسسة قضايا المرأة المصرية، إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة لدى المؤسسة فيما يتعلّق بنسبة العنف نتيجة لإجراءات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا، إذ أنّ نسبة عالية من النساء اللواتي كنّ يقصدن المؤسسة، وكنّ يقمن بذلك إما عبر زيارة مقرّاتها، أو المشاركة في أحد أنشطتها، وهو الأمر المتعذّر في ضوء إغلاق المقرّات لأبوابها.
تتحدّث ناديا شمروخ، المديرة التنفيذية للاتحاد النسائي في الأردن، عن آلية شبيهة تعتمد التواصل المباشر مع النساء وزيارتهنّ في أماكن سكناهنّ كوسيلة أساسية لتقديم يد العون والنصح والمشورة.
أما خطوط الاتصال التي يخصّصها الاتحاد لتلقي الشكاوى وطلب المشورة، والتي كانت موزّعة على مراكزه السبعة عشر، فتمّ تفعيل خط واحد فقط من بينها خلال معظم فترة الإغلاق الكلّي التي فرضتها الحكومة الأردنية.
تذكر شمروخ هذه النقاط في معرض حديثها عن عدم تسجيل الاتحاد لزيادة في نسبة التبليغ عن قضايا العنف خلال فترة الإغلاق، لكنها تشير إلى استقبال مركز الإيواء التابع للاتحاد لامرأتين من ضحايا العنف الأسري منذ بدء الحظر، إضافةً إلى تلقّي عضواته لكثيرٍ من الاتصالات من سيّدات، كنّ سابقاً ضحايا للعنف، تطلبن عوناً اقتصادياً في ضوء تعطّل مصادر الرزق والعمل التي أمّنت سابقاً خروجهنّ من دوامة العنف.
خطة أمان
في تونس، التي أقرّت عام 2017 قانوناً شاملاً لحماية المرأة من العنف، أعلنت السلطات إطلاق خط ساخن مجاني يعمل على مدار الساعة لتلقّي الشكاوى حول العنف الأسري خلال فترة العزل الصحي، وروّجت لهذا الخط عبر وسائل الإعلام المختلفة.
جاء الإعلان عن هذا الإجراء بعد أيامٍ من تصريح وزيرة المرأة والأسرة وكبار السن في تونس، أسماء السحيري، عن تسجيل أربعين بلاغاً من نساءٍ تعرّضن للعنف خلال الأسبوع الأول من الإغلاق، مقارنةً بسبعة بلاغات خلال نفس الفترة من العام الفائت.
وأشارت يسرى فراوس، رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، إلى دور الثقافة المجتمعية في تكريس مبدأ العنف ضدّ المرأة، إذ رصدت تعليقات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو -على سبيل الدعابة- الرجال إلى انتهاز فترة الإغلاق وتعطيل المحاكم لضرب زوجاتهنّ أو بناتهنّ أو أخواتهنّ و”تأديبهنّ”.
وتدعو فراوس أي امرأة تجد نفسها ضحيةً للعنف إلى “الإبلاغ في كلّ الحالات لأنه قد يوفّر أملاً بإنقاذ الضحية مما هو أخطر”.
وفي حال تعذّر الإبلاغ -على الأقل خلال فترة الإغلاق- فإنها تنصح المرأة بأخذ احتياطات للسلامة الشخصية، من بينها إبقاء كل وثائقها وهاتفها (إن امتلكت واحداً) في مكان مؤمَّن بعيد عن المعنِّف، ومحاولة إحداث جلبة ولفت انتباه المحيطين من جيران وغيرهم في حال ازدادت حدّة العنف، علّهم يتصلون بالسلطات أو يهبّون لتقديم المساعدة.
وفوق كلّ هذا، توثيق العنف الذي تتعرّض له بالصوت والصورة إن أمكن، لأنه قد يكون سبيلها الوحيد لإثبات حقّها بعد انقشاع ظلام أزمة كورونا.