سعاد/ feministconsciousnessrevolution- ككل المحاصرات في هذه المجتمعات الأبوية المتعبدة بكراهيتنا كنت أصارع وجودي، ونبذي، وضعفي، وأسئلتي، ثم وجدت نوال السعداوي. شاهدتها تحاضر بصوت واثق وثابت عن النظام الأبوي والنسوية والتاريخ والأديان والطب والاضطهاد والجنسانية والصحة النفسية والرأسمالية والاستعمار.
كنت هشة ووحيدة جداً إلا من الحيرة والأسئلة، وكانت نوال قوية ومليئة بروح أسلافنا من النساء المقاومات، من منحنها كل الأجوبة ومفاتيح الحياة واليقين والمقاومة.
وفي وقتٍ لم تكن لدي فيه رفاهية أن أفهم أو أواجه وجدتها تحرضني في كتاباتها على النظام الأبوي وعلى التمرد وتزرع في وعيي أسئلة أكبر. اكتشفت معاها كيف أغضب وأبصق على الأبوية، كيف أوجه غضبي نحو الجارح وليس نحو الجرحى.
نوال علمتني أن النظام الأبوي ليس نظامًا معزولًا عن بقية الأنظمة الاضطهادية بل هو منها، يتغذى عليها، وتكبر به، عرفت من خلالها كيف أجمع بين نسويتي وشيوعيتي، وكيف أرفض أن تكون نسويتي ذيلاً للاستعمار. علمتني أن أنظر لجسدي ككيان يخصني وأن أقرأ جنسانيتي خارج نظم الهيمنة الأبوية والدينية. حرضتني لنزع عار الأبوية عن جسدي ورغبتي وأن لا أخجل، أن أنفي الخجل والعار خارج وعيي وجسمي وأستبدله بالغضب والبذاءة والثورة والحرية.
وفي الوقت الذي حاولت فيه أن أرى المنظومة الدينية بعين تشفع لها تاريخ العنف والأذى والصدمة والخوف الذي طبعت به حياتي، وجهتني نوال نحو نقدها ورؤيتها في سياقها التاريخي كبنية اضطهاد تغذت على دمائنا وقهرنا وأعادت انتاجه عبر جثننا. أن أرى الحجب والاخفاء كأدوات اضطهاد تتخطى حجب أجسادنا نحو حجب وجودنا وحقوقنا.
رأيت كيف مددت نفسها كدرع بشري لنعبر، ومهدت لنا الطريق وواجهت عنف الأبوية وسجونها وكراهيتها. وأصرت أن تترك لنا مثالًا في التحدي وأن نعلم أن لا سبيل عن المواجهة، وأن عزيمة امرأة مناضلة تهزم جحافل الكارهين والمعتدين.
كانت نوال كل هذا وأكثر، وفي الحقيقة جزء مني ينتمي إليها أعرفه جيدًا ولا أنكره، جزء من تمردي وغضبي ووعي ومقاومتي، جزء من “لا” التي لا زلت أتعلمها وأتعثر تنتمي لنوال.
واليوم أقف في مفترق الطرق بين الحزن والرثاء، والخيبة والغضب، أقف لأنعي نوال وأُسائلها، أقف لأبكي عليها وأُحاسبها، أقف لأناجي مبادئها وأتبرأ من مواقفها. أقف لأقول أن مشاعري مشروعة وأرفض أن تصادر، فقد عشت عمرًا ولازلت من مقاومة مصادرتها.
أقف لأقول أن النسوية هي أداتنا في التحليل وسيفنا المسلول على رقاب أنظمة عنيفة. أرفض أن نفاضل في الدم، وأن نبرر الأذى، أرفض أن نتغاضى عن موقف إحدانا منها حتى وإن كانت معلمتنا التي حرضتنا وأنارت لنا نصف الطريق. معلمتنا التي نظرنا إليها بعد أن عبرنا لطرق أخرى أكثر جذرية من طريقها ولم ننساها لكنها نستنا ونست الطريق. أرفض أن تكون حراكاتنا ترميزية بدلًا من أن تكون نقدية. أن لا تعترف بحزننا الممزوج بالغضب والخيبة، بحقنا الأصيل في أن نتوقف في وسط الرثاء لنرفض تطبيع المواقف السياسية المؤذية واعتبارها مجرد “أخطاء”.
وأي كان دافعها للوقوف مع نظام عسكري، عذب واعتدى، وسجن، وقمع، وانتهك حيوات وأجساد مئات النساء المصريات، فإني لا أستطيع النظر إليها خارج الإدانة والمحاسبة خارج ماعلمتني إياها، فالحقيقة خطيرة ووحشية ولكنها مؤلمة ودامية.
نحن مسؤولات عن تمحيص تاريخنا وممارساتنا ونضالاتنا. مسؤولات عن رفض كل مايمثله هذا النظام الدامي، ورفض أن تكون منا من تقبله أو تحتضنه بشكل عابر أو مؤقت، في لحظة وهن، أو لحظة كبر، وربما نرفضه أكثر إن صدر من من امتلكت كل سبل الرفض والصمت واختارت صفها واختارت معركتها.
ممارساتنا النسوية تختلف، كما تختلف رؤيتنا للعدالة والتحرر، ولكن مايمكن أن يكون ثابتًا أن لا نبرر لمن تعبر فوق الجثث، لا نبرر لمن تفاضل في الدم، لا نبرر لمن تفاضل في القمع.
أقف اليوم بكل هذه التناقضات، لأقول لنوال السعداوي وداعًا، كنتِ جزءً مني ومن ذاكرتي ومن مقاومتي. وأقول لنوال السعداوي كنتِ خيبتي وغضبي وسخطي.
وأقول لنفسي ولكنّ أنني لا أريد لأي منا أن تختار ما اختارته نوال، ولا أن تنظر إليها بعين القداسة. لأن النقد النسوي أداة نجاة بها نضمن أن نقف معًا دون أن نقف على جثث بعضنا، أن لا نترك للقامع منا سوى أظافر تدميه، أن نواجه أو نصمت، أن نصمت لكي لا نؤذي، وأن نصمت لكي لا نسقط، وأن نصمت لكي لا يتغذى علينا القامع.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.