قضية الفقر أم قضية الجنس أيهما أكثر أهمية ولها الأولوية؟
من كتب نوال السعداوي

نوال السعداوي/almasryalyoum- حينما صدر كتابى الأول عن قضايا النساء منذ نصف قرن تقريباً، قلتُ: «القهر الاقتصادي والقهر الجنسي متلازمان في حياة النساء، من مختلف الطبقات». واشتمل الكتاب على نقد النظام الرأسمالي الأبوي، وربط بين مشاكل المرأة الجنسية مثل الختان والعذرية والمفهوم الخاطئ للشرف وبيع النساء والفتيات الصغيرات في سوق الزواج، وبين مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة والتمييز في التربية بين الولد والبنت وغيرها.

بالطبع تمّت مصادرة الكتاب بقرار حكومي، وجمعه من المكتبات العامة بتهمة الشيوعية، وإحداث بلبلة، وتحريض على الفتنة والفساد الأخلاقي، ودعوة صريحة إلى الفُسق والفُجور، وتهديد الاستقرار لقلب نظام الحكم.

في المجتمع والإعلام المصري، تنوّع الهجوم ضدي حسب التيارات السياسية والدينية المتصارعة. في منتصف القرن العشرين اتهمني اليمين الإسلامي والقبطي معاً بالخروج عن «الدين والتقاليد والشرع والفضيلة». واتهمني اليسار الشيوعي والاشتراكي بـ«تقليد الغرب الذي يهتم بالجنس، وأنني لا أهتم بقضايا الطبقات الكادحة من الفلاحات والعاملات الفقيرات المُعدَمات».

كنت شابةً في مقتبل العمر، لا أعرف بحور السياسة العويصة، المتقلّبة حسب المصالح. أتعرّضُ كلّ يومٍ للخداع السياسي وغير السياسي، شابة ساذجة تؤمن بأن الإنسان بريء ونقي وصادق، حتى يثبت العكس، لهذا كانت هذه الاتهامات تؤرقني. لم أكن أريدُ الانتماء إلى أي شلّة من هذه الشلل السياسية والأدبية، يمين، يسار، إخوان، معارضة أو حكومة. كلهم كانوا يتشابهون في النزعة إلى السيطرة والخداع، يتشدّقون بالحرية والعدالة والصدق والإخلاص، حتى أشهدهم في الحياة الواقعية، فإذا بالقول يُناقض الفعل، خاصةً فيما يتعلّق بعلاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة الزوج بزوجته. يتشدّقون بالدفاع عن الطبقات الفقيرة أو النساء المقهورات، وهم يعاملون الخدم في بيوتهم معاملة العبيد والجوارى. يكتبون، ويعقدون الندوات والمؤتمرات، ويظهرون في التليفزيون، مُدافعين عن حقّ المرأة في الحرية والاستقلال والتميّز في العمل والإبداع، يتنافسون في إقامة علاقات مع المرأة الحرّة المستقلة المتميّزة، بشرط ألا تصبح زوجةً لأحدهم.

بالطبع تعلّمتُ من تجاربي في الحياة أكثر مما تعلّمتُ من الكتب. لم أقتنع أبداً بالازدواجية السائدة، أن يكون للإنسان وجهان متناقضان، أن تكون له حياة علنية وأخرى خفية نقيضة لها. ربما كان ذلك بسبب تربية أمي وأبي. نشأتُ على الثقة بنفسي وعقلي، والصدق في القول والإخلاص في العمل، كلمتي شرفٌ لا أخونها، وإن كانت شفهية لم تُدوّن في عقد مكتوب وأمام شهود. هذه القيم التي تُغرَس في الطفولة، وتنمو وتنمو لتصبح شجرة عملاقة، من الصعب اقتلاعها.

منذ طفولتي رأيتُ القهر المزدوج الواقع على النساء الريفيّات الفقيرات من أسرتي، قهر الفقر، وقهر الجنس، الزوج أو أحد أفراد الأسرة أو العائلة. أنا نفسي تعرّضتُ لهذا القهر المزدوج في البيت والشارع والمدرسة، ورغم ارتفاع وعي أمي وأبي عن الآخرين، فإنني تمرّدتُ عليهما حينما حاولا تقييد حريتي وانطلاقي إلى آفاق أرحب.

كان عقلي يكسرُ الحدود المفروضة، والثوابت الموروثة من عصور العبودية. بالطبع دفعت ثمناً باهظاً من حياتي العامة والخاصة مقابل حرية عقلي. لكننى لم أندم أبداً على الطريق الذي اخترته في حياتي. ليس مفروشاً بالورود، فيه الكثير من الأشواك، الألم والمعاناة والحرمان من أساسيات الراحة والأمان. لكن سعادتي الفكرية والأدبية الإبداعية تغلّبت على مكاسب أخرى أقلّ قيمة في نظري، مثل الحصول على المال أو المناصب أو الجوائز أو رضا الناس والمجتمع، وغيرها مما يُغري الكثيرين.

عشتُ العصر الملكي أيام الاستعمار البريطاني في الطفولة والمراهقة، ثم عشتُ في شبابي أيام عبدالناصر، ثم عصر السادات، ثم عصر مبارك. أربعة عهودٍ مختلفة عشتُها، وتمرّدُت عليها، دون أن أدرك ما يسمّونه الكهولة أو الشيخوخة. وما الشيخوخة إلا فقدان الأمل في التغيير، والتوقّف عن التمرّد. وامتد بي العمر لأعيش الثورة المصرية 2011، و2013، ليتأكّد إيماني بالتغيير، ويتجدّد الأمل في دمي.

هناك لحظات ضعف تمرّ بنا، حين تشتد الأزمات والقهر من حولنا، حين يتخلّى عنّا الجميع، خوفاً من بطش السلطة، حتى أقرب الأقرباء، وأخلص الأصدقاء، قد يقفز بعيداً في قارب نجاة. نُواجِهُ مصيرنا وحدنا، في منفى أو سجن أو قبو منعزل تحت الأرض أو بيت منبوذ.

هنا قد تمرّ لحظة تردّد، نسأل أنفسنا: «هل نواصلُ الطريق، أم نتراجعُ ونمشي مع القطيع؟».

مررتُ بهذه اللحظات من حينٍ إلى آخر، لكنها لحظات مارقة تمرّ بسرعة البرق، تعقبها بارقة أمل جديدة، نجمة تبرقُ أمامى فجأة من حيث لا أدري. ربما هي الطفلة في أعماقي المتمرّدة أبداً لا تموت، وإن قتلوها لحظة تصحو من جديد. كيف؟ يأتيني صوتها الطفولي العنيد من أعماقي العميقة يهتف: «يا نوال يا نوال، انهضي.. لا يهمّك.. لكلّ جواد كبوة». صوتها يشبه صوت أمي أو صوت أبي، ينتشلني بيدين كبيرتين من الغرق، والموت.

مازلتُ أتذكّرُ كاتبةً شابة، تخرّجت في كلية الطب، ترتدي الحجاب، تعرّضت للهجوم العنيف بعد أن كتبَت مقالاً عن التحرير الجنسي للمرأة، وقالت إن تحرير الجسد يتبع تحرير العقل لأنّ الفصل بين الجسد والعقل أمرٌ مستحيل، وشرحَت مخاطر الكبت الجنسي على صحة المرأة الجسدية والنفسية.

أصبحَت الفتاة مؤرَّقة من شدّة الهجوم عليها، اتهموها بأنها من عملاء الصهيونية أو جاسوسة تخون الوطن، قالوا عنها فاجرة داعرة تشجّع النساء على الانفلات الجنسي والاستهتار بالعفّة والفضيلة والعذريّة وتخطط لضرب الدين والوطنية. بعضهم كان أكثر تأدّباً وقال لها: «كيف تكتبين عن الحرية الجنسية للمرأة، ونصف الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، وملايين النساء تسعى وراء لقمة العيش بالعرق والدم؟!».

بعد الأرق والمعاناة الطويلة، ارتدت الفتاة الحجاب، ثم نشَرَت مقالاً جديداً عن مشكلة الفقر بين النساء المصريّات، نالت المدح ممنْ هاجموها من قبل، خاصةً بعد ظهور صورتها مع المقال مرتديةً الحجاب. واستمرت تكتب عن مشاكل الفقر، ونسيت مقالها الأول عن مشاكل الجنس.

سألتُها: «هل أنتِ مستريحة الآن، وراضية عن نفسك؟». قالت الفتاة: «أشعر أنني تخلّيتُ عن نفسى الحقيقية، ارتديتُ الحجاب لأصبح مثل غالبية الفتيات والنساء، وأصبحتُ أكتب المقالات لأنال المديح وليس الذمّ، أصبحتُ حائرة، مُشوَّشة، متخبّطة».

قلتُ لها: «الحيرة ضرورية حتى نُعيد التفكير في أنفسنا. تكلمي مع نفسك في هدوء واسأليها ماذا تريد؟ استمعي إلى الصوت البعيد في أعماقك، القادم من طفولتك ونفسك الحقيقية، استمعي جيداً، ثم اكتبي ما يقوله لكِ هذا الصوت».

من كتب نوال السعداوي

من كتب نوال السعداوي 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015