يونس صالح/alnnour- من العبث طرح قضية المرأة على أنها قضية خاصة بالنساء، وقد تكفّلت كتابات ومواقف كثيرة بتأييد هذا الاتجاه، صحيحٌ أنها، جزئياً فقط، مشكلة نساء، ولكنها كليّاً مشكلة غنى وفقر، ومشكلة مجتمعٍ كامل أيضاً، قبل أن تكون مشكلة خاصة بالنساء.
فعلى الصعيد الدولي تقول لنا الإحصاءات إنّ النساء نصف سكان الأرض، وتعادل ساعات عملهنّ ثلث ساعات العمل التي تنجزها البشرية، ولكن كسب النساء لا يتعدّى واحداً على عشرة من مجموع الدخل العالمي.
وإذا كانت المرأة في الدول الرأسمالية المتقدّمة، كالدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها من البلدان، قد حصلت لنفسها على حقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية نتيجةً لظروف تطوّر تلك المجتمعات، فإن المرأة في دول الجنوب، أمريكا اللاتينية، وأجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا والبلدان العربية- قد وقع عليها ما وقع على الرجل في بلدانها من تعسّف استعماري تحوّل إلى تخلّف إنساني.
وتقول الإحصاءات الدولية المتوافرة أيضاً إنّ الفقر وضغطه والجفاف والسياسات غير الرشيدة تتكالب كلّها على الأمهات في بلدان الجنوب ليكون اللأطفال أُولى ضحاياها، إذ لا تنعم البلدان ذات الدخل المنخفض بالماء النظيف ولا بالغذاء الكافي، إضافةً إلى التلوّث وقلّة فرص العمل.
كيف إذاً، يكون وضع المرأة في مجتمعات فقيرة كالتي أشرنا إليها؟
إنّ الرجل في معظم هذه المجتمعات ينسلخ عن العمل عند عودته إلى المنزل، بينما المرأة في أغلبية البلدان النامية يتواصل عملها الإضافي الشاق عند العودة إلى المنزل، كالتنظيف وربما جلب المواد الغذائية بجانب عملية الطبخ نفسها، وأعمال أخرى تضطر إلى إنجازها قبل أن تأوي متهالكة إلى فراشها استعداداً ليوم عمل جديد.
إنّ هذه الأوضاع تنعكس سلباً على الروابط الأسرية، وعلى تنشئة الأبناء، إذ يُفتقد حضور الرجل، وتبقى النساء.
لقد جاء في إحدى الإحصائيات العالمية أن 40٪ من الأسر في أمريكا اللاتينية تنهض فيها المرأة بمسؤولية ربّ الأسرة.
وهكذا فإن وضع المرأة في دول الجنوب الأكثر فقراً وعوزاً، ليس سوى نقطة لمظاهر عديدة من التخلّف، فالاستغلال المركّب للأسرة والمرأة يفضي إلى نتائج متخبّطة، منها الاندفاع إلى محاولات ساذجة للخروج من الضنك والحرمان بالمزيد من الإنجاب، فإنجاب الأطفال لدى غالبية هذه الأسر في تلك البلدان هو السلاح الوحيد للحلم بحياة أفضل في المستقبل، وربما لضمان شيخوخة تُغني عن الحاجة إلى الآخرين.
لكن هذا الحل الذي يبدو (منطقياً) للبعض يُضاعف المشكلة، فتصبح مشكلة الأطفال، ومن ثمّ الشباب في المدن الكثيفة، مشكلة مركّبة. ويهرب الأزواج، مُلقِين بالعبء كلّه على النساء. ومع ذلك مازال مؤشّر الإنجاب هو الحل الأقرب إلى اقتناع الغالبية، وقد استعصى هذا الحل على البرامج الدوليّة لتحديد النسل.
ولعلّ من الظواهر البشرية اللافتة للنظر تلك المعادلة الملموسة من خلال الإحصائيات في العالم، والتي تؤكّد انخفاض نسبة الولادة من السكان كلما ارتفع الدخل، مع صحَّة العكس.. وإذا كان لتلك الإحصائيات معنى، فهو يعني أن تكاثر السكان في البلدان الفقيرة يرتبط علاجه ارتباطاً وثيقاً بارتفاع الدخل.
لقد مضى على إصدار كتاب (تحرير المرأة) لقاسم أمين نحو 120 عاماً. في هذا الكتاب والكتب الكثيرة التي لحقته، حظيت قضية المرأة بمناقشات واسعة وآراء مختلفة، وتباعدت كثيراً أو قليلاً الإجابة عن سؤال يتعلّق بدور المرأة العربية في هذا العصر، وخصوصاً أنّ القرن الحادي والعشرين قد بدأ.
إنّ أسئلة كثيرة أُطلِقَت وماتزال تُطلق حول قضية المرأة العربية، فهي بجانب مشاركتها لشقيقاتها في البلدان النامية في بعض الظواهر، إلا أنّ لها خصوصية حضارية واجتماعية من الصعب إنهاء المناقشة حولها دون معرفة الموقف التاريخي أو اللحظة التاريخية التي تمرّ بها البلدان العربية، ومن الصعب التطرّق إليها في هذه المقالة المختَصرة. ما سأتطرق إليه متعلّق بالمرأة السورية، فأنا من المؤمنين بأن قضيتها ليست خاصةً بالمرأة فقط، فهي في حقيقتها قضية مجتمع، لايزال هناك البعض يتجاهل حقيقة أن المرأة هي أيضاً إنسان له حقوق وعليه واجبات، ورغم ما يُشار عندنا في كتيبات الدعاية، أو يُطرح من على المنصّات وفي الاحتفالات النسائية – إنّ المرأة عندنا عملت وزيرة وسفيرة وأستاذة جامعية وطبيبة ومديرة وغيرها… إلخ، إلا أنني أريد أن أتحدّث عن غالبية النساء في ريفناً ومُدننا المكتظة وقُرانا النائية.
إن المرأة هناك ما يزال أمامها شوط كبير لتصل إلى تحقيق إنسانيتها، ليس بالقوانين المكتوبة والمفروضة، ولكن من خلال الممارسة والواقع والمحسوس. إن القضية لا تكمن في تعليم المرأة السورية فقط، مع أن الأرقام المتوافرة تثير الحزن، إنها تكمن في تجاذب طرفين متناقضين متعلقين بذه المسألة: طرف رافض كلياً لمسألة حقوق المرأة، وطرف يعترف بها نظرياً ولا يطبّقها عملياً. طرفٌ انحاز إلى بطون كتب التراث القديمة يتمثّلها، وطرفٌ انحاز إلى الممارسات الغربية، وهناك طرف آخر تجاوز كلّ ذلك بالحديث عن الإنسان السوري، وحيثيات وضعه في المجتمع، فحيث يوجد تخلّف اجتماعي وقهر إنساني، فإن مصاب المرأة فيه أفدح من مصاب الرجل بكثير، ومشكلات حقوق المرأة كلها داخلة في نطاق التعقيد والتشتت. ورغم أن الحقوق المعروفة والمتفق عليها مبدئياً للمرأة كثيرة، لكن المشكلة تتعلّق في تحويل هذا الحقّ في المبدأ إلى حقّ في الممارسة، كالحقّ في العمل واختيار الزوج والسفر، ومساواتها مع الرجل في الإرث والتوريث والشهادة.. إلخ.
من المظاهر المتناقضة في ثقافتنا السورية، والتي تحتاج إلى دراسة وتمحيص، الموقف من الأسرة التي تمثّل المرأة ركناً (مهماً) فيها. إن هذا الموقف يُضفي على الأسرة هالة القداسة والأصالة والأهمية، في الوقت الذي يُنظر إلى المرأة كإنسان آخر على أنه هامش غير ذي بالٍ، خُلِقَ لخدمة الرجل وإشباع حاجاته فقط، وهي قاصر وعورة وفتنة يجب أن تُرشَد وتُستَر وتُراقَب.
أما الصورة المُبالغ فيها للمرأة كأم، وما تبثّه في أطفالها مما يستوجب الطاعة العمياء، وتغرس فيهم قيم الحفاظ على الوضع الراهن واحترامه، فهي تؤدّي من حيث الجوهر إلى مقاومة أي تغيير ورفضه.
إن تخلّف المرأة عندنا في مجال العمل، وتدهور أوضاعها الصحية، مع سيادة قيم وعلاقات اجتماعية معوّقة، كل ذلك دفع بالمرأة السورية (الأكثرية بالطبع) إلى قبول (الطبيعة الثانية).
إننا ونحن نخوض أشرس معارك البقاء في تاريخنا المعاصر مع قوى الإرهاب المحلي والدولي، علينا أن نعترف بأنّ المرأة مُعَطَّلة إلى حدود كبيرة، وأنّ قضيّتها لا تقتصر على المساواة القانونية التي لم تُنجَز إلى الآن- أي إزالة التمييز القائم بحكم القانون- كما لا تقتصر على قضية التعليم والعمل، بل تتجاوز ذلك إلى المساواة في الحقوق والمسؤوليات وفرض مشاركتها في التنمية باعتبارها عنصراً إيجابياً وفعالاً، وباعتبارها ركناً يُستَنَدُ إليه استناداً كاملاً في معاركنا الوطنية.
وفي هذا الإطار تقع على القيادات النسوية وغيرها من قيادات الفكر والمجتمع مهام كبيرة، فالعبء ثقيل والطريق طويل.. طويل.
ودون جدية ومجابهة واعية للمسؤولية، فإن الأمر سيبقى على ما هو عليه إن لم ينتكس إلى الأسوأ، وحينذاك لا يجدي تساؤلنا: أين النساء؟ وربما نعود إلى تفقّد أنفسنا ونعلو بصيحتنا: وأين الرجال أيضاً؟
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.