ليال حداد/ موقع (العربي الجديد) الإلكتروني- في مارس/ آذار الماضي، أعلنت تركيا انسحابها من اتفاقية إسطنبول لمكافحة العنف ضدّ المرأة. وخلال الأشهر الأخيرة، تُلاحَق الفتيات في مصر لرقصهنّ عبر تطبيق “تيك توك”، أو التقاطهنّ صوراً برداء فرعوني أمام الأهرامات. عام 1997، يرفض مدير سلسلة المتاجر الضخمة “كيمارت”، آلن ليتش، بيع ألبوم الفرقة البريطانية “بروديدجي” The Fat of the Land. وقبلها بـ 3 سنوات، لا تبيع متاجر “وول مارت” العملاقة ألبوم In Utero لفرقة “نيرفانا”.
مواقف حصلت في ثلاث قارات، وتفصل بينها فترات زمنية تُراوح بين أشهر وسنوات. ما يجمعها؟ الاتفاق على حماية “قيم الأسرة” من المتطاولين والمعتَدين عليها، إن كانت “مجموعات تخطف بعض مضمون اتفاقية إسطنبول وتستخدمها في غير موضعها لصالح التطبيع مع المثلية الجنسية، بما لا يتماشى مع القيم المجتمعية والأسرية” (رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، رويترز)، أو حنين حسام ومودة الأدهم، أو حتى فرقة “بروديدجي” و”نيرفانا”.
نعود بشريط الذاكرة القصيرة إلى السنوات القليلة الماضية، حين أطلّ علينا شبح الأسرة العربية وقيمها، وذلك بالتوازي مع الردة العنيفة على الديمقراطية التي بدت ممكنة لأشهر قليلة عام 2011، في منطقتنا. تراكمت “الخدوش” في جلد الأسرة، وتزعزعت قيمها. فللأسرة العربية مفهوم واحد غير قابل للاجتهاد: أب يحمي سمعة الأسرة ويطهرها من كل دنس ممكن، وأم وأولاد خاضعون لسلطته. كيف إذاً تخرج فتاة بملابس ضيّقة لترقص على “تيك توك”؟ أين سلطة والدها؟ أين سلطة كلّ الآباء؟ لعل توصيف ليلى أرمن، في مقالها “أكواد الفرجة والاختفاء” على موقع “مدى مصر”، هو الأكثر تعبيراً عن مفهوم الأسرة وسلطة الأب في هذه الحالة، إذ تقول إن “الأسرة ليست باعتبارها حاضنة لأفرادها، وإنما لصورة المجتمع، في تمثّله الأبوي لتنظيم العالم”.
النظام (المصري في هذه الحالة) العاجز عن السيطرة على دفق النجومية المقبل من مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيره المباشر بمئات آلاف الشباب، اختار الطريقة التي لا يعرف غيرها: الاعتقال والتشهير، ثمّ منح عنفه اللاعقلاني هذا، هدفاً سامياً: “حماية قيم الأسرة”.
من بإمكانه أن يقف في وجه تهديد كهذا؟ من سيحمل تبعات وصول الانحلال القيمي إلى عائلته لا سمح الله؟ من يجرؤ على أن يعارض تصدّي الأجهزة لهذا التفلّت القادم من خلف شاشات الهواتف؟
هذه هي الأسرة الشرق أوسطية المحافظة نفسها التي ترتعد قيمها لمنظر فتاة راقصة أو شابة بملابس ضيّقة، ولكن نفس الأسرة تكمل يومها بشكل عادي أمام فيديو تحرّش جماعي، أو منظر أب يجلس قرب جثّة ابنته شارباً الشاي، وهي تلفظ أنفاسها الاخيرة بعدما قتلها، أو زوج يقتل زوجته بعد سنوات من العنف ثم يخرج على الشاشات ليبرّر فعلته.
تتضخّم القيم بشكل لا عقلاني، لترى أنّ فعلاً كالرقص يستوجب السجن، بينما تصغر وتصغر حتى تكاد تختفي أمام حادث واضح وملموس كالتحرّش الجنسي في شارع عام أمام عشرات المارة. وتتوسّع اليد التي تحرّك قيم الأسرة حسب احتياجاتها عربياً، لتسيطر على النقابات الفنية، وعلى المحتوى الإعلامي، والإنتاج الموسيقي.
مفهوم الأسرة وقدسيتها كوني، وإن كانت تبعاته تختلف بين أنظمة دكتاتورية وأخرى تمارس أشكالاً مختلفة ومتفاوتة من الديمقراطية. ففرقة “بروديدجي” اضطرت إلى طرح نسخة ثانية من “ذا فات أوف ذا لاند”، بصورة غلاف مختلفة وإيحاءات جنسية أقل في كلمات الأغاني. وفرقة “نيرفانا” لم تسلم من سيف الأسرة وقيمها، وأنتجت أيضاً نسخة أكثر “محافظة ومراعاة” من “إن يوتيرو”.
ومن هي هذه الأسرة في المفهوم الشعبي الأميركي؟ لا تختلف عن تلك العربية: أسرة من زوجين مغايرَي الجنس (غير مثليين) مع أطفال. شكل وحيد وثابت للأسرة حاولت الإدارات المتعاقبة منذ مطلع التسعينيات تكريسه عبر قوانين مختلفة بينها قانون الدفاع عن الزواج الذي أقرّته إدارة بيل كلينتون عام 1996، وينصّ على تعريف الزواج بصفته ارتباطاً بين رجل وامرأة، ويعطي الولايات حقّ رفض الاعتراف بزواج المثليين، أو مبادرة الزواج التي خصصت لها إدارة جورج دبليو بوش عام 2004 ومليار ونصف مليار دولار لتشجيع الزواج بين الأميركيين، بعد ضغط كبير من مجموعات محافظة.
أما التجلّي الملموس لهذه السياسات المقدِّسة لقيم الأسرة، فهي تقديم المرشحين خلال الانتخابات لأنفسهم كرجال وأزواج مخلصين، أو كزوجات وربّات بيت ناجحات في أعمالهنّ كذلك، بما يطمئن المجتمع على محافظة هذا المرشح أو تلك المرشحة على القيم التي تقوم عليها الأسرة الأميركية.
وعكس التصوّر المتوقّع، فإن الأسرة بشكلها التقليدي والمثالي لم تكن كذلك قبل عقود. فالفترة الذهبية للأسرة البيضاء، أي في خمسينيات القرن الماضي، شهدت عشرات آلاف قصص إدمان المخدرات والكحول لدى الأمهات الأميركيات في ضواحي الطبقة الوسطى، بسبب الضغوط الممارسة عليهنّ للتماثل مع “شخصية الأم المثالية”، بحسب ما تُشير أستاذة التاريخ المحاضرة في “جامعة مينيسوتا” إيلين تايلو ماي.
لماذا نعود إلى قيم الأسرة الأميركية اليوم؟.. لأنها تقدّم لنا نموذجاً للمعارك التي ستحملها لنا الأشهر المقبلة في المنطقة. فالنقاشات التي شهدتها المجتمعات الغربية ولا تزال تخوضها في مواجهة تحويل قيم الأسرة إلى فزاعة، وشماعة لكل أشكال قمع النساء وتدجينهن بصفتهن الفئة الأكثر هشاشة اجتماعياً وقانونياً، تنطبق بجوانب كثيرة على ما تشهده المجتمعات العربية اليوم.
كلما ارتفعت أصوات نسوية، علت رايات الأسرة وقيمها، وكلما تزعزعت المنظومة الاجتماعية الثابتة والراكدة منذ أكثر من نصف قرن، علا التهويل بتدمير الأسرة وأفرادها، وها هي الأنظمة بكل أجهزتها وإعلامها وجيوشها الإلكترونية حاضرة لتخوض معارك الأسرة نيابة عنها.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.