سيماف حسن/القامشلي/ شبكة الصحفيات السوريات- “من السهل أن تقول للناس أن يلتزموا بيوتهم درءا للتعرّض للمرض، لكن ماذا عن من هم مثلي لا يملكون بيوتاً؟ لا أعتقد أنّ من فرض الإجراء يعلم مصير من سيُلزمون الجلوس في منازلهم”.
هذا ما تقوله لنا كولي (اسم مستعار/40 عاماً) التي التقيناها أول مرة نهاية آذار ٢٠٢٠، وهي التي تركت بيتها في سري كانيه/ رأس العين في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد بدء الهجمات من قبل تركيا وفصائل المعارضة المسلحة السورية المدعومة من قبلها، مستغربة من إجراء البقاء في المنزل كتدبير وقائي يُفرض عليها للوقاية من فيروس كورونا، إذ أنّ شهراً من البحث عن بيت للإيجار لم يكن كافياً لتجد وعائلتها ما يتناسب مع دخلهم الشهري ومدخراتهم، لتلجأ إلى إحدى الجمعيات المدنية المحلية (جمعية شاويشكا)، والتي شاركتهم وعائلتها مركز عملهم.
وعلى بعد أقل من 100 كم من مدينتها سري كانيه/ رأس العين، ولليوم الخامس والعشرين على التوالي، تملأ مزكين (اسم مستعار/ 42 عاماً) كل ما يستوعب كمية من المياه في منزلها كي توفره للشرب والاستعمال اليومي، مستعينة بصهاريج بالكاد توفر كمية تكفي عدّة بيوت.
“أحسن من ولا شي” تقول مزكين التي بات روتينها الصباحي هو السعي لتوفير المياه، وليست هذه المرة الأولى التي تجد نفسها تواجه مصاعب من هذا النوع، إذ بلغ عدد المرات التي تم قطع المياه فيها عن الحسكة منذ بداية العام 2020، ثمانية مرات، إلا أنّ هذه المرة لها وقعٌ مختلف نظراً لانتشار الوباء وتسجيل 478 حالة إصابة بفيروس كورونا في مناطق الإدارة الذاتية بشمال وشرقي سوريا حسب هيئة الصحة التابعة لها.
توصيات منظمة الصحة العالمية التي اعتبرت سهلة التطبيق لمواجهة العدوى، كالبقاء في المنزل وغسل اليدين بانتظام وتناول أطعمة تقوّي المناعة، لم تتناسب مع حالة سوريين يملكون مفتاحاً يفتح باباً واحداً على هذا الكوكب، وهو باب بيتهم الذي فقدوه، وآخرين أصبح الوصول إلى مصدر مستمر للمياه مستحيلاً بالنسبة لهم، فكيف يمكن لهؤلاء أن يلتزموا بحظر التجول دون بيوت ومياه؟
مخيمات النزوح .. رفاهية غسل اليدين والتباعد الجسدي
يشبّه تقرير للجنة الإنقاذ الدولية، سرعة انتشار تفشي الفيروس في مخيمات النزوح بسرعة انتشاره في السفينة السياحية “دايموند برنسيس” مطلع العام، والتي كانت ثالث أكبر بؤرة لتفشي الوباء، وبينما كانت السفينة سجناً عائماً في الماء، تبقى المخيمات سجونا عائمة على أرض لم تتعافى من آثار قنابل وصواريخ جعلت مرافقها مخلّفات حرب.
حول الخيمة المجهّزة لدخول المرضى إلى غرف انتظار الخدمات الطبية، يتجمّع نازحون/ات لتسجيل أسمائهم/نّ وانتظار دورهم/نّ، بسبب عدم استيعاب غرف الانتظار التي أبعدت الكراسي فيها عن بعضها البعض -كإجراء وقائي- للعدد الذي كانت تستوعبه مؤخراً. هو مشهد يتكرر بشكل شبه يومي أمام النقطة الطبية في مخيم “واشوكاني” غربي مدينة الحسكة، والذي يضم نازحين/ات من مدينة سري كانيه/ رأس العين، بلغ عددهم/ن مؤخراً أكثر من 10 آلاف نازح ونازحة حسب إدارة المخيم.
“أي والله خايفين من الكورونا” تقول فصلة سعود (50 عاماً) خلال اتصالنا بها الذي تصادف مع خروجها مع حفيدها من النقطة الطبية التي زارتها بسبب ألم عارض في معدته، والتي باتت تستقبل حالات إسهال كثيرة بين الأطفال بحسب إدارة المخيم، وتضيف “أيش طالع بأيدنا، إلا ما نتكوم على بعض، حتى المي النظيفة نتحسر عليها”.
منذ قطع المياه من محطة علوك التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة التابعة لتركيا، والتي تغذّي الحسكة وأريافها، يعتمد نازحو ونازحات المخيّم على صهاريج للمياه، يبدو أنها رغم تقلّص كميتها المخصّصة للمخيم، غير صالحة للشرب أيضاً، ما يضطر فصلة إلى غليها أولاً قبل استهلاكها من قبلها هي وأسرتها.
وتعمل منظمات إغاثية عاملة في المنطقة على تأمين 23 صهريجاً بشكل يومي لإيفاء حاجة المخيم من المياه، والتي تبلغ حوالي 500 م3، إلا أن الضغط الحاصل مؤخراً على هذه الصهاريج التي باتت مضطرة لتأمين مياه الحسكة ونقلها إلى الأحياء، جعل وصولها متأخراً ومياهها غير صالحة للشرب أحياناً.
وتبرز أيضاً مشكلة الحصول على صرف صحي في مخيم “واشوكاني”، إذ أن السواقي التي تمر عبر المخيمات أو قربها تتسبب بتسرب مياه الصرف الصحي الملوثة إلى الخيم، مما يجعل تطبيق شروط النظافة الشخصية مستحيلاً. تضاف إلى هذه المشكلة مشكلة قلّة الحمامات المخصّصة للقطاعات الموجودة داخل المخيم، إذ في مخيم “واشوكاني” تمّ تخصيص حمامين لكل قطاع يحوي 20 عائلة.
“كل عشرين عائلة بحمام واحد” تقول فصلة لحكاية ما انحكت وشبكة الصحفيات. وتتابع قائلة: “مع هذا الصيف والحر وغبرة المخيم والمرض، شلون نتغسل؟” وتضيف “العفو والله الله ما قالها، المية الطالعة من الحمامات جنب الخيمة، والريحة تقتل”.
وتتوقع لجنة الإنقاذ الدولية أن فيروس كورونا المستجد من الممكن أن يتفشى بسرعة في مخيمات اللاجئين والنازحين المكتظة، محذرة من الأثر المدمر لانتشار المرض في المخيمات المحصورة.
“الحسكة_عطشى” ماذا عن الوقاية؟
تقطع مزكين أعمالها في تعبئة المياه لتجيب على مكالمتي، ترد بعجالة وتؤجل المكالمة إلى وقت لاحق. لاحقاً بعد اتصالي الثاني بها، أسألها إن كنت أقاطعها عن عمل ما، فتجيب “مالي شغل غير المي”.
تعتمد مزكين على الطريقة المتعبة لجلب المياه لأن الحي الذي تسكنه لا يحوي بئراً وميسورو/ات الحال فقط من يستطيعون/ن تعبئة خزان المياه، إذ بلغ سعر خمسة براميل من المياه 5000 ليرة (حوالي دولارين ونصف)، لا تكفي عائلة من خمسة أشخاص لأسبوع، فيما لا تكون هذه المياه مناسبة للشرب غالباً، مما يضطر الأمر ببعض السكان إلى شراء المياه المعلبة.
ترافق قطع المياه مؤخراً عن الحسكة، بإجراءات من قبل الإدارة الذاتية لتعويض النقص الحاصل، إلا أن 49 بئراً في محطة آبار الحمة لا تستطيع تأمين سوى 10% من حاجة الحسكة التي تبلغ 80 ألف م3 يومياً.
ترافق الأمر مع موجة تضامن على صفحات التواصل الاجتماعي ومبادرات من قبل شبان وشابات من المناطق المحيطة. بشرى حامد إعلامية من مدينة ديريك/ المالكية، تقول لحكاية ما انحكت وشبكة الصحفيات أنها ضاقت ذرعاً بالاكتفاء بمتابعة أخبار العطش الواردة، لتقوم بمشاركة زملاء وزميلات لها بجمع مبلغا اشتروا به 172 طرد ماء ليتم توزيعها على بعض العائلات.
تقول بشرى “حاولنا جهدنا كي نكون مساهمين بجزء من الحل، ولو أن المبادرة صغيرة ومؤقتة إلا أن التكاتف الاجتماعي في ظروف كهذه يعزز فكرة مساهمة أهالي المنطقة في جزء من الحل”.
وحسب تقرير نقلته “هيومن رايتس ووتش” صادر عن مجموعة تعمل على تأمين المياه والصرف الصحي في شمال شرق سوريا، يوفر نقل المياه بالصهاريج أقل من 50% من احتياجات السكان/ات، فضلا عن كلفته الكبيرة. وحسب التقرير، يقول أحد عمال الإغاثة إن المياه المنقولة بالصهاريج أدنى جودة بكثير من المياه التي يتم ضخها، ما يؤثر على توافر مياه الشرب، إذ ينحصر استعمال معظم الأهالي لمياه الصهاريج بإجراءات تنظيف المنزل والنظافة البدنية .
“خليك بالبيت”.. ماذا عن من لا تملكن بيوتاً؟
“رجعوني على بيتي بعدين قولولي خليك بالبيت” جملة صادفتها على صفحة صديق نازح على الفيس بوك. أسأل مزكين عن البيت والبقاء فيه، خاصة أن البيت الذي تسكنه هو الثالث الذي تستأجره منذ نزوحها، تقول “الأولويات تغيرت، كنا عم ندعي لنرجع ع بيوتنا هلا البيت صار أمنية منسية بسبب المي”.
أما كولي، فعقد إيجار المنزل الذي تتشاركه مع الجمعية انتهى بداية حزيران/ يونيو ٢٠٢٠، وبعد أيام متعبة من البحث استطاعت كولي أن تجد وعائلتها منزلاً يأويهم. إلا أن وفاة زوجها بشكل مفاجئ قبل بدء الموجة الثانية من الإجراءات المشددة لمواجهة فيروس كورونا، تركها وحيدة في مواجهة كل الأعباء الأسرية.
وفيما ينزوي سكان العالم في حجراتهم وبيوتهم درءاً للتعرّض للفيروس، تجد كولي كالكثير من النازحين في مناطق عدة من سوريا، ممن فقدوا منازلهم في الحرب، إجراء البقاء بالمنزل رفاهية لا طاقة لهم/نّ على عيشها، بسبب عدم وجود منزل يقيهم/نّ من تهديدات مرئية وغير مرئية.
“بقعد ببيتي خمس سنين إذا رجعتلو” تقول كولي معلقة على إجراء البقاء في البيت، وتضيف “عقد إيجار البيت قصير الأمد، لا يتجاوز ستة أشهر، أي بيت هذا الذي من المفترض أن أبقى فيه إن كنت مضطرة للبحث عن آخر قبل أن أنتهي من تفريغ حقائبي”.
وتتابع معلقة على تزايد أعبائها “عالقليلة كنا نسند بعضنا البعض أنا وزوجي، أما اليوم، أجد نفسي وحيدة مع أطفالي، بدون بيت وفي مواجهة مرض لا أعرف عنه سوى أنه يلزمني البقاء في البيت”.
تعتذر كولي عن إتمام المكالمة لأنها من المفترض أن تطمئن على إحدى قريباتها في الحسكة، تقول لي “بتصدقي صرلون شي شهر بدون مي” مبديةً استغرابها من مدى السوء الذي يمكن أن تصل الأحوال إليه .. “شو لسه رح يصير أخرب من هيك؟”.
(المقابلات في هذه المادة أجريت عن طريق الهاتف بسبب إجراءات حظر التجوال)
(نشر موقع مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات هذه المادة بالتعاون والشراكة مع “حكاية ما انحكت”، ضمن مشروع جندر رادار)
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.