كي لا تتحوّل الوطنيّة حصناً لعنف الذكور
وقفة نسوية في غزة للمطالبة بإنهاء العنف ضد المرأة/ ديسمبر، 2019

رغد أبو ليل/ metras- من شارك يوماً في نقاشٍ حول قضايا النساء، لا بد أنّه اصطدم بمنطق “سلّم الأولويات”، ذلك المنطق الذي يسوقه البعضُ كترتيبٍ “تكتيكيٍّ” لأهميّة القضايا التي علينا الانشغال بها في الوقت الحالي؛ “هذه القضيّة ليست طارئة الآن، كما أنّها ليست بأهمية القضايا السياسيّة المتعلّقة بالاحتلال، لِنؤجل الحديثَ عنها إلى وقتٍ آخر”، هذا ما يقوله أحدُهم عادةً. يتوقّف النقاشُ هنا في الغالب، ذلك لأنّ الحمولة الأخلاقيّة للجملة السّابقة تجعل كلَّ من يُعَقِّب عليها خارجاً عن “الصف الوطنيّ”.

يأتي هذا الأسلوب المُستخدم لإسكات أيّ تحرّك أو “تأجيله”، بقصد أو عن غير قصد، على شكلين: إما على شكل ابتزازٍ وطنيٍّ باستحضار القضيّة الفلسطينيّة، ونرى ذلك في عباراتٍ مثل: “تعطوش الاستعمار شو بدّه، هو بدّه يشوفنا واقفين ضدّ بعض”، ذلك لأنّهم يعتبرون مسّ القضايا الاجتماعيّة فرصةً يستغلها الاحتلال. بينما تتناسى هذه الشّعارات أن إهمال القضايا الاجتماعيّة هو بالذات ما يُفسح المجال للاحتلال ليقدّم نفسه – زوراً- كمُنقِـذٍ لمن يغرق في مشاكلها وهمومها، ويُقدّم فيها تدخلاتِه التي لا تتماشى تماماً مع رؤيتنا السياسيّة والاجتماعيّة. في القدس مثلاً، عند الركوب في الحافلات العربيّة التي يستخدمها الفلسطينيّون، ترى النساءُ ملصقاً يتبع لـ “سلطة النقل والسّلامة على الطرق” التابعة لسلطات الاحتلال، مكتوبٌ فيه: “أيتها المسافرة العزيزة، في حال تعرضك لمخالفات جسديّة، أو تحرّش جنسيّ، من حقّك أن تتوجهي إلى السّائق، من أجل أن يقود الباص إلى محطة الشرطة، أو أن يعمل بموجب تعليمات شرطيّ، إن تواجد قريباً”!

رفْضُنا أن نموت “قيمة غربيّة”؟

أما الشّكل الثاني لإسكات النقاش، فيكون على شكل مزايدة على قضايا النساء، بأنّها ليست وطنيّة بما فيه الكفاية، ولا تهتم بقضايا الوطن، من خلال استخدام عباراتٍ مثل: “وين كنتوا لما اعتقلوا فلانة؟ ووين كنتوا لما هدّوا دار فلان؟”. ولا يهم حقاً إن كان هذا الاستخدام بدافع النُبل والغيرة على مصالح الوطن، أم بدافع الضغط على الحراك لتبرير نفسه والبحث عما يُشرعن أمامهم خروجه إلى الشّارع، ومحاولة التأثير عليه لتخفيف خطابه الاجتماعيّ والتركيز على الخطاب السياسيّ. وهنا يُطرح السؤال: من يُقرر متى يكون الإنسانُ وطنيّاً بما فيه “الكفاية” حتى يستطيع بعدها الخروج إلى الشّارع مُطالباً بحقّه في الحياة بكرامة، وتحصيل أدنى حقوقه كإنسان؟ ولماذا يجب علينا أصلاً التستر خلف “السياسيّ” حتّى يُسمح لنا بالخروج والمطالبة بحقّنا في الحياة الكريمة؟

أمّا المزايدة الثانية في هذا الشّكل، فتكون بوسم التحرّك أو مجموع المطالب النسويّة بـ”الليبراليّة”. بعد استخدام هذا المصطلح، وغالباً دون أساسٍ معرفيّ، يتخيل البعضُ أنّه أدّى مهمته في “كشف” ومهاجمة الحراك لأجل الحقوق النسويّة أو الاجتماعيّة. هكذا يصبح من الممكن كنس قضايا النساء تحت السجّادة من خلال رفع الوسم الجاهز -ليبرالي- مسبقاً أمام من يدافع عنها. هكذا، لن يتوانى البعض، عند رفع شعارات العيش الكريم ورفض العنف والقتل، عن القول بأن هذه الشعارات “ليبراليّة” و”منسوخة” عن الغرب، وتنادي بالحريّة المطلقة دون أخذ قيم المجتمع وتقاليده بعين الاعتبار. كأنّ رفض المرأة أن تموت، أو رفض المجتمع أن تُعنّف وتُظلم هو “قيمةً غربيّة ليبراليّة”، يتوجه عليها محاربتها! إنّه إدعاءٌ يرى بأن القيم المجتمعيّة السّائدة يجب أن تبقى ثابتة وألاّ تتغيّر، ومن ثمّ إن كان ولا بد من تغيير فيجب ألّا تكون المطالب ضدّ أفكار المجتمع بهذه الصراحة والحدّة، وإنّما بهدوء وانسجام معه.

السلّم بالعرض

يعمل “سلّم الأولويّات” المستخدم ضمن هذا الشّكل الأول بالذات، بذهنيّة أحاديّة كما يبدو، كما لو أنّه دارة كهربائيّة قديمة تعمل على التوالي. إذ يقدّم قضية على أخرى، ثمّ يفترض أن القضيّة المُقدّمة ستمكّننا من الولوج لاحقاً إلى قضايا أخرى. تُقدّم القضايا السياسيّة المُباشرة -على مستوى النقاش على الأقل- مثل: الأسرى، اللاجئين، الإضرابات… وتُنحّى جانباً القضايا الاجتماعيّة المُهمّشة، مثل: المرأة، المضطهدين، والعنف الاجتماعي… ما يجعل الاحتجاج ضدّ قتل فتاة من قبل عائلتها أمراً غير مُلِح، ويتم أحياناً الاستغراب منه والمقارنة معه ومع الاحتجاج مثلاً على استشهاد شابٍ فلسطينيّ برصاص الاحتلال، على اعتبار أن الأخير أولى، بينما يمكن إهمال الأول.

وبينما يُسلّط سلّمُ الأولويّات منطِقَه على قضايا النساء، فإنّه يغيب حين يكون الحديث عن قضايا أخرى لا تزيد ولا تقلّ أهميّة. فمثلاً إذا ما فعّلنا منطق سلّم الأولويّات، يكون النّاس الذين خرجوا للتظاهر  في سبتمبر/ أيلول الماضي ضدّ تفشّي الجريمة في أم الفحم، “مش وقتهم” للخروج والانتفاض، وتكون المظاهرات الّتي انطلقت في رام الله ضدّ قانون الضمان الاجتماعيّ كذلك. لكن، وبالطبّع، لم تقابل هذه القضايا، رغم أنّها ليست قضايا سياسيّة مباشرة، بمنطق سلّم الأولويات، بل غالباً شارك فيها كثيرون ممن يستخدمون هذا المنطق في محاولتهم طمس التحرّكات النسويّة. ذلك لأن هذه القضايا لا تهدّد السّلطة الذكوريّة، كما تفعلُ قضايا النساء.

يمكن للجميع رؤية انتقائيّة هذا المنطق وعدم صدقه، بل وازدواجيّة المعايير التي ينطوي عليها عمله، حين لا يُطلب من حراكات، كحراك الضمان الاجتماعيّ، أن يُثبت البعد السياسيّ داخله، فيما يُسلّط المجهر السياسيُّ على تحرّك نسويّ لإبطال مفعوله، كحراك “طالعات”.

لا يستند مستخدم هذه الحجة إلى منطقٍ يقف ضدّ الظلم بالمطلق، بل يرتّب موقفه من القضايا بناءً على فاعل الظلم، لا على الظلم بذاته. وبهذا لا يُعدُّ قتل المرأة وتعنيفها من قبل الرجل سبباً شرعيّاً ولا كافياً للخروج إلى الشّارع والاعتراض، فالظلم في هذه الحالة يُتجاهل ويُغض البصر عنه لأن السّلطة المهيمنة الّتي تحدد مقومات الخروج إلى الشّارع هي الّتي تمارسه.

تحرّر.. شامل..

إنّ من واجب المشروع السياسيّ الفلسطينيّ صنع متخيّلٍ عن المجتمع الفلسطينيّ ما بعد التحرر، وذلك ضمن تفكيره في إيجاد آليات التحرر من الاستعمار. في هذا السياق، فإن المشروع التحرريّ الذي ينادي بفصل القضايا السياسيّة عن القضايا الاجتماعيّة وتأجيل الأخيرة، قد ينهض بنصفه فيما يبقى نصفه الآخر مضطهداً. حينها سيكون مفهومنا حول التحرّر مجتزأً، لأنّه سيعمل على إعادة تدوير الاضطهاد والاستبداد ذاتيّاً، وإنتاج أفراد مقموعين ومضطهدين من شكل آخر من أشكال الأنظمة القمعيّة.

النضال من أجل قضايا المرأة ليس مسألةَ ترفٍ لتحسين ظروف يمكنها أن تنتظر، فالمطالبة بتأجيل هذه القضايا هو مطالبة بالتكتّم عن الجرائم الفعليّة التي تُرتكب يوميّاً بحقّ النساء، وذلك في ظلّ صمت الأحزاب السياسيّة، وتواطؤ مؤسسات السّلطة الفلسطينيّة، كجهاز الطب الشرعيّ كما في قضيّة إسراء غريّب. كما أنّ النزول إلى الشّارع ليس تشتيتاً للقضايا السياسيّة وإهمالاً لها، بل هو رفض لتغييب قضايا المرأة ورغبة في انتزاع استقلاليتها عن السلطة الذكوريّة.

في النهايّة، فإنّ نقدنا لسلّم الأولويات لا يكون من خلال إعادة ترتيب الأولويات على السلّم نفسه، ولا بالادعاء أن القضايا النسويّة أهم من القضايا السياسيّة المباشرة، بل بالتأكيد على الوهم الذي يبيعنا اياه السلّمُ من الأساس، وبالإيمان أن هذه القضايا تتحرّك معاً وتتفاعل وتندرج جميعها تحت مسمى واحد؛ حركة تحرر وطنيّ شامل لجميع القضايا والشرائح على حدٍّ سواء.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

وقفة نسوية في غزة للمطالبة بإنهاء العنف ضد المرأة/ ديسمبر، 2019

وقفة نسوية في غزة للمطالبة بإنهاء العنف ضد المرأة/ ديسمبر، 2019

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015