ماذا تريد المرأة حقًّا؟ سيجموند فرويد & فيرجينيا وولف يُجيبان
ماذا تريد المرأة حقًّا؟

sasapost- نجحت النساء في انتزاع حقوق كثيرة حُرمن منها سابقًا، مثل حق التصويت، والامتلاك، وحضانة الأطفال، بعد أن ناضلن من أجلها سنوات طويلة، ودفعن من أجلها أثمانًا كبيرة، إلا أنهن – وحتى وقتنا الحالي – ما زلن يجدن صعوبة كبيرة في شرح أنفسهن، وما زلن – حتى الآن – يحاولن شرح أمور تبدو بديهية للغاية، أحد هذه الأمور وأكثرها إثارة للجدل هو  أن كلمة «لا» حين تقولها المرأة، فإنها تقصد بها لا فقط، ولا تحمل بداخلها أي معنى آخر أو رغبة خفية في قول نعم.

على الرغم من البداهة الظاهرة لحقيقة أنه لا أحد، سوى المرأة نفسها، قادر على التعبير عما تريده هي حقًّا أو الحكم عليه، فإن مسألة ما تريده المرأة كانت، ومازالت، موضوعًا يُثار حوله الكثير من الجدل بين العامة والمثقفين على حد سواء. ونتيجة لهذا الجدل حول هذه الحقيقة المُساء فهمها وتفسيرها، عانت الكثير من النساء من مضايقات عدة من بعض من ظنوا أنهم يعرفون ما تريد المرأة التي يتعاملون معها أكثر منها.

يعرض هذا التقرير وجهتي نظر متباينتين حول هذه المسألة المثيرة للجدل، أحدهما لأديبة شهيرة تبنت نظرية التحليل النفسي في أعمالها الأدبية، وهي الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف، أما وجهة النظر الأخرى فهي لعالم النفس الشهير سيجموند فرويد.

فيرجينيا وولف وفرويد.. توافق حول التحليل النفسي وخلاف حول المرأة

عندما التقى كل من سيجموند فرويد وفيرجينيا وولف لأول مرة في بيت الأول بلندن عام 1939، لم يترك أي منهما انطباعًا جيدًا لدى الآخر.

أحسّ فرويد بأن شخصية فيرجينيا بها شيء من النرجسية؛ فقدم لها باقة من زهور النرجس ليعبر من خلالها عن ذلك الشعور الذي اعتراه تجاهها، أما هي فكانت انطباعاتها تجاهه متضاربة، فقد رأت فيه «عجوزًا ماكرًا يتمتع بذكاء متقد وإمكانات هائلة».

وعلى الرغم من عدم ارتياح فيرجينيا لشخص فرويد، فإنها رأت في نظرياته تفسيرًا يبدو معقولًا للصراعات والتناقضات التي تملأ النفس البشرية، وعليه فقد ارتأت في بعض نظريات فرويد تأكيدًا لما كتبته سابقًا في رواياتها عن النفس البشرية وما يتحكم فيها من دوافع متناقضة ومتشابكة معًًا.

وهكذا، اتفق كل من فيرجينيا وولف وفرويد على التناقضات العديدة التي تحملها النفس البشرية وبرعا في تصوير تلك التناقضات في مؤلفاتهما، إلا أنهما اختلفا حول قضية جوهرية؛ هي قضية المرأة وما تريده حقًّا، لا ما يريده الرجل لها.

إلى جانب هذه المسألة، تُعد قضية التحرش الجنسي ضد المرأة من أبرز القضايا التي اختلف تناول فرويد وفيرجينيا وولف لها. ففي كتابه «التحليل النفسي للهستيريا: حالة دورا» تناول سيجموند فرويد هذه القضية الشائكة بشيء من التحليل وكثير من التحامل على الضحية، أما فيرجينيا وولف، فقد تناولت قضية التحرش في روايتها «رحلة الخروج» بطريقة حاولت فيها شرح نفسية الفتاة ضحية التحرش ووصف شعورها من وجهة نظرها بوصفها امرأة.

حالة دورا.. هل تغاضى سيجموند فرويد عن التحرّش الجنسي ضدّ النساء؟

في عام 1900 طلب فيليب باور، التاجر الثري وأحد معارف عالم النفس الشهير سيجموند فرويد، منه قبول حالة ابنته التي ظن الأول أنها تعاني من الهستيريا بسبب ما ظنه «أفكارًا مضللة» سيطرت عليها منذ المراهقة.

قبل فرويد الحالة، وبعد إلحاح من جانب الوالد وافقت إيدا باور، التي أطلق عليها فرويد لاحقًا في كتابه «خمس حالات من التحليل النفسي» اسم دورا، على الخضوع للعلاج النفسي مع ذلك المعالج ذائع الصيت.

كانت دورا قد بلغت لتوّها الثامنة عشرة من عمرها حين بدأت أولى جلساتها مع فرويد، وأخبرته فيها بأنها كانت تعني حقًّا ما كتبته في رسالة الانتحار التي تركتها لوالدها، وأنها سئمت كل شيء ورغبت في التخلي عن حياتها.

من هنا بدأت مهمة فرويد في الغوص في نفسية مريضته والبحث في الدوافع الخفية التي سببت لها نوبات اكتئاب صاحبتها أعراض جسدية مرضية مثل بحة الصوت، والسعال، وفقدان الصوت، مما حدا بها في النهاية إلى التفكير في إنهاء حياتها.

للمفاجأة، لم تكن الحادثة التي جعلت دورا تُصاب بالاكتئاب والمرض سرًّا لم تبح به لأحد من قبل، فهي قد صرحت لوالديها أن صديق العائلة، السيد كيه، تحرش بها جنسيًّا حين كانت في  الثالثة عشرة من عمرها. وفقًا لما أصرت دورا على شرحه مرارًا، فإن السيد كيه كان قد استغل انفراده به في متجره وقبَّلها قسرًا وأحكم قبضته عليها ولم يفلتها إلا بعد أن قاومته ونجحت في الفرار منه وهي ترتعد خوفًا. ولم تتوقف مضايقات السيد كيه عند هذا الحد، إذ حاول التعدي عليه مرارًا، ولاحقتها نظراته المريبة في كل مكان.

أخذ الأمر من دورا وقتًا طويلًا حتى تفهم ما حدث لها وتستعيد ثقتها بمن حولها، وحين أخبرت والديها لم يكن لديها أدنى شك في أنهم سوف يصدقونها، ولكنها صُدمت بعدم تصديقهم لروايتها وانحيازهم لتصديق دفاع السيد كيه، الذي أقسم بأن الخيالات الجنسية المريضة لدى دورا وانغماسها في قراءة الأدب الإباحي هو ما صور لها حوادث لم تحدث أصلًا، وفقًا لما ادعاه.

كانت صدمة الفتاة ذات الستة عشر عامًا بالغة في والدها الذي فضل تصديق ادعاءات السيد كيه؛ لكي تستمر علاقته المحرمة بزوجة الأول، بدلًا من الوقوف بجانب ابنته وتصديقها ودعمها، ومن هنا بدأت حالة دورا النفسية والجسدية في التدهور، وبدأت أعراض مشابهة للهستيريا تظهر عليها حتى قررت التخلي عن حياتها لوضع حد لهذه المعاناة.

إذن، كان الرفض والتكذيب هو الموقف الذي اتخذه والدا دورا تجاه ابنتهما التي تعرضت للتحرش الجنسي من صديق العائلة، فماذا عن معالجها النفسي؟

يؤكد الكاتب والناقد الأمريكي، فريدريك كروز، أن موقف فرويد تجاه حادثة التحرش التي تعرضت لها دورا لم يكن يختلف كثيرًا عن الموقف الذي تبناه والدها؛ إذ لم يتعاطف معها فرويد ومال إلى الاعتقاد بأنها كانت في أعماقها راغبة في ما فعله معها السيد كيه لا راغبة عنه؛ إذ قال بخصوص حادثة التحرش: «لقد استدعى ذلك الموقف دون شك إحساسًا مميزًا بالإثارة الجنسية لدى فتاة في الرابعة عشرة لم يقربها أحد من قبل».

لم يكتف فرويد، وفقًا لكروز، بالتشكيك في مزاعم دورا والتقليل مما تشعر به، بل امتد الأمر إلى أنه كان يكنُّ لها شعورًا بالاحتقار، فكان مجرد حضورها يزعجه، وعدَّها خصمًا له وكان يتحين الفرص لتوبيخها والتقليل من شأنها، فكان يتهمها بتقليد من حولها، وبتزييف آلامها وتلفيق ما تشعر به من أمراض.

وحين اشتكت دورا من آلام مبرحة بسبب الزائدة الدودية ومن مرض تدلي القدم، نحى فرويد تشخيصات الأطباء الذين يتابعون حالتها جانبًا وأرجع شعورها بآلام الزائدة الدودية إلى تلفيقها لأعراض حمل كاذب، وأن تدلي قدمها وتعثر خطواتها إنما هو دليل على تعثرها وعدم قدرتها على إيقاف تلك الضلالات المسيطرة عليها.

وكما قابلت دورا موقف والديها تجاه حادثة تعرضها للتحرش الجنسي بالاستياء والاشمئزاز، فإنها قابلت موقف فرويد تجاهها بالشعور نفسه، فكانت تنزعج كثيرًا من ربطه كل شيء بالجنس وكانت تصرح له بذلك، ولكنه لم يكن يلقي بالًا لانزاعجها ذلك.

وهكذا، وعلى مدار 115 صفحة تضمنت التحليل النفسي لحالة دورا، لم يشر فرويد إلى حقيقة تعرض مريضته لاضطراب ما بعد الصدمة بسبب تعرضها للتحرش الجنسي على يد رجل عديم الضمير؛ لأنه لم يكن يؤمن بذلك في حقيقة الأمر. والأدهى أن فرويد – في واقع الأمر – كان يتساءل عن السبب وراء «رد الفعل المبالغ فيه من الفتاة  على محاولات رجل لبق مثل السيد كيه».

إذن، فقد رأى فرويد في قيام فتاة، لم تبلغ السادسة عشرة من عمرها بعد، بصفع صديق والدها الذي حاول تقبيلها رغمًا عنها رد فعل مبالغًا فيه، وبالمقابل لم ير في أي مما فعله ذلك الرجل ما يدعو لرد فعل عنيف. لقد كان ذلك التصرف الذي فعلته دورا، وفقًا لفرويد، تصرفًا هستيريًّا نابعًا من فتاة مثارة جنسيًّا أخطأت في التعبير عن الإثارة التي اعترتها برد فعلها العنيف.

وعلى الرغم من الاستياء والاشمئزاز الباديين على دورا، فإن فرويد ظل على مدار جلسات عدة يحاول إقناعها بأنها تخفى – في لاوعيها –  مشاعر حب للسيد كيه، وأن كل كلمة «لا» قالتها كانت تحمل رغبة خفية في قول «نعم»، وعليه فإن السيد كيه كان عليه أن يستمر في محاولاته لاستمالتها، وأن يتجاهل كافة تصرفاتها الرافضة.

قررت دورا إنهاء جلساتها مع فرويد لعدم جدواها؛ إذ إنها لم تشف من مرضها، ولم تستطع حتى أن تقنع معالجها بأنها تنفر من السيد كيه وتشمئز منه، ولا تكنُّ له أي شعور سوى البغض والازدراء، لم تكن تعلم أن الكثيرات من بنات جنسها سيحاولن بعدها شرح هذه الحقيقية البديهية حتى لو سبق عصرهن عصرها بأكثر من قرن من الزمان.

«رحلة الخروج».. التحرّش من وجهة نظر فيرجينيا وولف

في روايتها بعنوان «رحلة الخروج» تبدأ فيرجينيا وولف مشهد تحرّش جنسي بامرأة تنال قبلة لها رغمًا عنها من رجل متزوج يكبرها بعدة سنوات، وكما هو الحال في قضية دورا، تناقش وولف في هذه الرواية مسألة ما تريده المرأة حقًّا، لا ما يُراد لها أن تريد.

في كل من «رحلة الخروج» و«حالة دورا» نجد أن المشهد الافتتاحي تقريبًا واحد، ففي رواية فيرجينيا وولف يختلي رجل بامرأة على سطح سفينة ويقبلها رغمًا عنها، أما حالة دورا فقد سبق تناولها بشيء من التفصيل.

أيضًا، نجد أن الرجلين المعتديين حاولا إلقاء اللوم على ضحيتيهما وتبرئة أنفسهما، ففي حين اتهم السيد كيه دورا باختلاق المسألة برمتها، ألقى بطل رواية فيرجينيا اللوم على المرأة التي تحرش بها وادعى أن فتنتها وجمالها هما ما دفعاه إلى التحرش بها.

من بعد المشهد الافتتاحي نلاحظ اختلافًا واضحًا في طريقة تعامل كل من فيرجينيا وولف وفرويد مع حادثة التحرش الجنسي، فحين تجاهل فرويد أية إشارة إلى وصف شعور دورا ووصفها بالمبالغة، نجد أن فيرجينيا وولف قد برعت في التركيز على المشاعر المتضاربة للمرأة التي تعرضت لتوها للتحرّش الجنسي.

في «رحلة الخروج» ركّزت فيرجينيا وولف على وصف الشعور المتضارب الذي تمكن من بطلتها عقب القبلة التي حدثت رغمًا عنها، فنجد أن البطلة كانت ترتجف من رأسها إلى أخمص قدميها، وانتابها شعور بالغثيان، وخشيت أن تفقد وعيها فتشبثت بدرابزين الباخرة، واستندت إليه حتى وصلت إلى غرفتها. وفي حين لم يُدن فرويد السيد كيه بصراحة، أدانت فيرجينيا وولف ريتشارد دالاوي، الذي تحرش ببطلة الرواية، ولم تحاول أن تبرر فعلته بأي شكل من الأشكال.

أيضًا، أشارت فيرجينيا في رواياتها إلى أن رد فعل البطلة، وإن بدا مبالغًا فيه للبعض، فإن هذا الأمر لا يرجع لمبالغة البطلة نفسها في التعبير عن مشاعرها وتضخيمها للأمور، ولكنه يرجع إلى اختلاف رؤية النساء أنفسهن لحوادث التحرّش واختلاف تعاملهن معها وشعورهن بعدها.

السيدة هيلين، صديقة البطلة راشيل، لم تكن تر أن الأمر يستحق كل هذا الرعب والاشمئزاز من جانب صديقتها، التي أوضحت لها أن اشمئزازها مصدره أن هذا الرجل قد استضعفها وأنزلها بفعلته تلك لمنزلة العاهرات، وأضافت راشيل إلى أنها لا يمكن أن تنسى تلك الحادثة أو تتغاضى عن الشعور السيئ الذي خلفته لها لمجرد أن ما حدث لها يحدث يوميًا للعديد من النساء في العالم.

من هنا يتضح الفرق الواضح بين ما تفهمه المرأة عن نفسها وتكتبه عن حقيقة شعورها، وبين ما يريد لها الرجل أن تشعر وتتصرف.

ربما كتب فرويد تحليله لحالة دورا من وجهة نظر الرجل الذي لا يتخيل اشمئزاز امرأة ورفضها لرجل يتمتع بامتيازات اجتماعية كبيرة، لكن فيرجينيا وولف كتبت من وجهة نظر المرأة التي لا يمكن أن يعبر عنها أو يفهم مبتغاها سواها هي فقط.

ماذا تريد المرأة حقًّا؟

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015