أ. د. وفاء فلحوط/ جريدة الوطن السورية- النسبُ الذي يعوَّلُ عليهِ عادةً في منح الجنسيّةِ للأبناء هو نسبُ الأبِ، أما نسبُ الأمِ فيؤخذُ به في بعضِ الحالاتِ، كحالةِ عدمِ ثبوتِ النسبِ للأب، أو حالةِ ثبوتهِ لأبٍ مجهولِ الجنسيّةِ أو عديمِها، مّا يعني منحَ الأمِ لمولودِها دوراً له طابعٌ احتياطيٌ في نقلِ الجنسيةِ خلافاً لدورِ الأبِ الأصلي، على نحوٍ يخرقُ مبدأَ المساواةِ بينهما في هذا المجال.
ومِنْ تعقُّبِ موقفِ الدولِ العربيةِ من مسألةِ ثبوتِ الجنسيّةِ لجهةِ الأمِ يتضحُ أنَ العديدَ منها قد حافظَ على تشريعاتهِ، بما فيها من إخلالٍ بذلكَ المبدأ، كما هو الحالُ في لبنانَ والإمارات والأردن، بينما حاولَ بعضُها كمصرَ والجزائرَ والعراقَ والمغربَ مسايرةَ توجُّهِ القوانينَ الأجنبيةِ التي لم تجدْ حرجاً في إقرارِ مبدأ المساواةِ بنصوصٍ واضحةٍ وصريحةٍ.
أمّا في سورية فما زالَ المُشرّعُ يقفُ في مكانهِ كما رسَمهُ له قانونُ الجنسيةِ الصادر بالمرسومِ التشريعي 276 لعام 1969، ورغمَ مصادقةِ الجمهوريةِ العربيةِ السوريةِ على اتفاقيةِ (سيداو) والمتعلّقةِ بالقضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضدَ المرأةِ إلَّا أنَّ تحفظَها على الفقرةِ الثانيةِ من المادةِ التاسعةِ كانَ تعبيراً واضحاً منها عن رفضِ المساواةِ بينَ المرأةِ والرجلِ فيما يتعلّقُ بجنسيةِ أطفالِها.
ومن دراسةٍ تحليلية مقارنة لقوانين الجنسية في الدول العربية يظهر القانون السوري القانون الأكثر سلبيةً على الإطلاق بين مختلف تلك القوانين، وذلك لسببين:
الأول منهما: هو صمته غير المُسَوَّغ عن معالجة جنسية الابن الشرعي للمواطنة السورية فيما لو كان الأب مجهول الجنسية أو عديمها.
أما السبب الثاني: فهو اشتراطه لمنح الجنسية الولادة داخل سورية بالنسبة للولد غير الشرعي.
وظهور القانون السوري بالصورة السابقة يشكّل هاجساً لنا ولغيرنا يدفعنا للتفكير بإيجاد الحلول لإخراج الدولة السورية من حالة الجمود التي خيمت على موقفها من ملف منح الجنسية لجهة الأم. ولعل هذا التصور هو أحد الحلول في المستقبل حينما يعاد طرح هذا الملف عاجلا أم آجلا على طاولة النقاش:
إنَّ تطبيق حق المساواة في منح الجنسية لا يتعارض– من وجهة نظرنا على الأقل– مع فكرة: «وجوب نقل جنسية واحدة فقط للابن، على أن يستوي في ذلك أن يتم النقل سواء من جهة الرجل الأب أم من جهة المرأة الأم»، فإن قام أولهما بالنقل اعتكف الثاني عن القيام بذلك، أما إذا تخلّف الأول لأيّ سببٍ كان عن ذلك الدور تكفل الثاني بالقيام به.
أما القول بعدم عدالة ربط الجنسية بمسألة النسب لأن الجنسية رابطة سياسية تتعلّق بالمواطنة بينما النسب رابطة شرعية تتعلق بالدين على نحوٍ يثير التساؤل: لماذا لا يكون المنح لجهة الأم هو المعيار الأول؟ فنرى بمثل ذلك القول إعادةً لطرح نزاع منح الجنسية استناداً لحقّ الدم وتكراره، ولكن هذه المرة ليس لجهة الأم بل لجهة الأب، ما يعني الوقوع في حلقةٍ مفرغة مع جدلٍ لا ينتهي.
وبناءً على ذلك نرى ضرورة إقرار منح الجنسية السورية من جهة الأم بالنسبة لابن المواطنة السورية من أب مجهول، أو من أب مجهول الجنسية أو عديم الجنسية، أو من أب أجنبي لم يتمكّن بصلة الأبوة من نقل الجنسية لابنه، وذلك بصرف النظر عن مكان الولادة؛ حيث تمنح الجنسية حكماً لابن المواطنة السورية غير الشرعي، ولابنها الشرعي المولود من أبٍ مجهول الجنسية، أو عديم الجنسية، أو له جنسية أجنبية أو عربية ولكنه لم يتمكن لأي سبب من الأسباب من نقل جنسيته لابنه بموجب صلة البنوّة.
وخاصةً أنه في مرسوم الجنسية السوري النافذ حالياً، (وتحديداً في المادة 3/الفقرة د)، حكماً يقرّ بثبوت الجنسية السورية للولد الشرعي المولود في سورية من والدين لم يتمكّنا من منحه جنسيةً أجنبية، ما يعني منح الجنسية السورية لابن الأجنبية المتزوجة من أجنبي، وحجب الجنسية عنه عندما تصبح الزوجة أمّاً سورية!! وهذا خللٌ قانوني لا يمكن التسليم به في أي حالٍ من الأحوال.
كما نرى ضرورة منح الجنسية المشروط، أو الاكتفاء بإقرار بعض الحقوق لابن المواطنة السورية الشرعي ممن يحمل جنسية والده الأجنبية أو العربية؛ حيث يتصدى هذا المقترح للمطالبات المتعلقة بتمكين المرأة السورية من نقل جنسيتها لأبنائها من زوجٍ غير سوري بصرف النظر عن حيازتهم لجنسية والدهم العربية أم الأجنبية. إذ نعتقد من جهتنا ارتباط هذه المسألة بعدّة اعتباراتٍ دولية وسيادية وقانونية تأخذها الحكومة بعين الاعتبار كلما أعيد طرح هذا الموضوع للنقاش، ولعلّ من ضمنها تعقّب مدى قبول الدول الأخرى لإقرار هذا الحق بالنسبة لمواطناتها المتزوجات من مواطنين سوريين، إذ أنّ العديد منها – كدول الخليج مثلاً- ما زال يرفض إقراره حتى اليوم، رغم أن بعضها من الدول القليلة في عدد السكان؛ في الوقت الذي لا يخفى فيه ما لركن الشعب من أهمية خاصة على اعتباره أحد المكونات الأساسية لوجود الدول وقوتها. أما الدول التي أقرّته بنصّ تشريعي صريح، فكثيرٌ منها حاول إفراغه من مضمونه عند التطبيق أو الالتفاف عليه عبر نصوصٍ قانونية أخرى.
إلا أن الاعتبار الأهم – حسب اعتقادنا– والذي يدفع بالدولة السورية للتحفّظ على إقرار ذلك المنح، يتمثل حقيقةً بمشكلة ازدواج الجنسية التي ستنجم عن ذلك الإقرار، ما يدفعنا هنا لبيان الموقف التشريعي السوري من مسألة ازدواج الجنسية أو تعدّدها. حيث يمكن القول إن المُشَرّع السوري رغم تبنيه بعض النصوص القانونية والتي قد يؤدي تطبيقها لقيام حالات الازدواج، إلا أنه كان واضحاً في تعبيره عن موقفه الرافض لوجود مثل تلك الحالات، وذلك من خلال إقراره نصّاً قانونياً صريحاً يذهب إلى منع الازدواج والمعاقبة عليه (الفقرة الثانية من المادة العاشرة من مرسوم الجنسية النافذ حالياً).
وبالنتيجة نرى في الاعتبارات المُتوَقَّعة من الدولة السورية ما يُسَوّغ تحفّظها على مسألة منح الجنسية لأبناء السوريات المتزوجات من أجانب ممن تمكنوا من اكتساب جنسية والدهم، ولكننا نجد في الوقت نفسه ما يسوغ أيضاً مطالب هؤلاء الأبناء للتمتع ببعض الحقوق الأساسية اللازمة لحياةٍ كريمة، وخاصةً إن كانت سورية موطن إقامتهم الدائم.
ومن هنا يمكن أن يكون الحل: إما بقبول منح هؤلاء الأبناء الجنسية السورية ضمن شروط معينة، أو بقبول منحهم بعض الحقوق اللازمة لحياتهم اليومية. فإذا ما ارتأت الجهات المختصّة ضرورة تبنّي نصّ قانوني يأخذ بمقترح منح الجنسية السورية استناداً إلى حقّ الدم لجهة الأم، فلا ضير في ذلك، وخاصةً إن تمّ اعتماده وفقاً لشروط وضوابط تكفل عدالة تطبيقه بأن تضعه في منتصف المسافة بين المؤيدين له والمعارضين لتبنيه، كأن يميّز النص مثلاً بين أولاد المرأة السورية القاصرين وأولادها الراشدين.
حيث يتمتع القاصرون بالجنسية على أن يكون لهم حق الخيار بين البقاء على جنسية والدتهم السورية أو التخلّي عنها لمصلحة جنسية الأب الأجنبية أو العربية، وذلك خلال السنة التالية لبلوغهم سن الرشد. بينما يُعَلّق منح الجنسية للأولاد الراشدين على شرط الخيار أيضاً بين جنسية الوالدة السورية وبين جنسية الأب الأجنبية أو العربية على نحو يضمن منع ازدواج جنسيتهم، ويحسم التجاذبات بين المؤيدين للمنح والمعارضين له بحجة مسألة الولاء للدولة السورية.
ويشكّل ذلك في الوقت ذاته ردّاً مناسباً على ما تقوله بعض الأمهات – وهنّ على حقّ في قولهن – من أن ولاء أبناء الأب السوري (المتزوج من أجنبية) ليس بالضرورة أقوى من ولاء أبناء الأمّ السورية (المتزوجة من أجنبي).
كما يمكن إيجاد المخرج القانوني، ولعله المخرج الأكثر يُسراً وملاءمةً، وذلك من خلال التمييز بين منح الجنسية نفسها في معرض اكتساب صفة المواطن، وبين التمتع ببعض حقوق مَنْ يملك الجنسية، فالفلسطيني بحكم السوري هو شخصٌ لا يتمتع بالجنسية السورية (لاعتباراتٍ متعلّقة بضرورة المحافظة على حقّ عودة اللاجئين) ولكنّ الدولة السورية أقرّت له بعض حقوق المواطنين السوريين.
وبإسقاط ما سبق قوله على إشكالية منح الجنسية السورية لجهة الأم يمكن القول إنه في حال عدم التوصّل إلى إمكانية منح الجنسية المشروط لأبناء المواطنات السوريات الشرعيين ممن يحملون جنسية والدهم الأجنبية أو العربية، وخاصةً لمن كان موطنهم الدائم في سورية، فإنه حريٌّ بالدولة السورية محاولة الوقوف في منتصف المسافة مجدّداً بين أسباب رفضها للمنح من جهة، وبين حجج مواطناتها المطالبة به من جهة أخرى. وذلك بمعاملة هؤلاء الأبناء معاملةً تفضيلية بتمييزهم عن الأجانب، من خلال قبول منحهم بعضاً من حقوق مواطنيها، وخاصة المدنية والخدمية، كالمتعلقة بمجالات الصحة والتعليم والعمل والتملك والاستثمار، من دون الحقوق ذات الطابع الأمني أو السياسي، أو تولّي بعض المناصب أو الوظائف الحسّاسة، كحقّ الترشّح لمجلس الشعب أو لمجلس الوزراء أو للمحكمة الدستورية العليا. أي بعبارةٍ أخرى الإقرار لهم بالتسهيلات المرتبطة بمستلزمات الحياة اليومية وذلك على اعتبارهم بحكم السوريين على نحو يقرّبهم من واقع الفلسطينيين الموجودين داخل سورية مع اختلافٍ في اعتبارات إقرار تلك الحقوق أو التسهيلات.
| د. وفاء مزيد فلحوط: أستاذة القانون الدولي الخاص في كلية الحقوق – جامعة دمشق