ما فرّقه الوباء، تجمعه الدانمارك بـ”صك عبور العشاق”
أعلنت الدانمارك عن فتح حدودها أمام الأحبّاء والعشّاق الذين فرّقت كورونا بينهم وبين محبيهم

أمينة خيري/independentarabia- للعشّاق دولة تحميهم، وللعشق من يحترمه ويبجله، ويسنّ له القرارات، ويقرّ له الإجراءات، فيفتح الحدود، وييسّر العبور، ويبارك اللقاء شرط الاطلاع على رسائل الحب القصيرة، وتغريدات العشق البليغة. ولا مانع كذلك من فيديوهات مؤرّخة وصور موثّقة تثبت أن سلطان الغرام حاكم، وأن كلام العيون طاغٍ، وأن ما يجول في القلوب هو عشقٌ وهيام وليس تدليساً واحتيالاً.

وثائق العشق

احتلت أخبار الإجراءات التي تتخذها دولة الدانمارك في شأن العشّاق الساحة الخبرية على ظهر الكوكب، مطيحةً بأخبار الفيروس وتطوّرات العدوى وأحداث الفتح بعد الإغلاق على الرغم  من الإصابات. فقبل أيام أعلنت الدانمارك عن فتح حدودها أمام الأحبّاء والعشّاق الذين فرّقت كورونا بينهم وبين محبيهم في داخل الدانمارك.

وبحسب القواعد الرسمية المُعلَنة، بات في الإمكان للعشاق المقيمين في دول شمال أوروبا بالإضافة إلى ألمانيا دخول الدانمارك للقاء محبّيهم، بشرط تقديم الوثائق والأدلّة والبراهين التي تثبت حالة العشق. وبحسب البيانات الرسمية، فإنّ الوثائق يمكن أن تكون صوراً فوتوغرافية أو فيديوهات أو رسائل نصية قصيرة أو عبر البريد الإلكتروني؛ يثبت محتواها أنّ علاقة حب قائمة بين الطرفين، مع تدوين الاسم والعنوان وأرقام الهواتف والبريد الإلكتروني.

وكأن الإجراء الحنون والقرار العطوف لم يكفيا لدفع العالم الخارجي البعيد عن أرض الدانمارك للبكاء على لبن العشق المسكوب لديه ومشاعر الدولة الرؤوفة بمواطنيها، فمضى وزير العدل الدانماركي نيك هكيرب قدماً ليُضرم نيران الغيرة لدى البعض ويفجّر مشاعر الغضب لدى البعض الآخر وعقد اللسان، ليصبح عاجزاً عن الكلام لدى الجميع، وألحق التصريحات الرسمية بتأكيد أن هذه القواعد الصارمة لإثبات العشق والبرهنة على الهيام سيتم تخفيفها لاحقاً لتقتصر على ورقة موقّعة من الطرفين يتعهدان بموجبها بأنهما عاشقان وليسا مدَّعيَين. وأضاف، “إذا أكّدتَ أنك شريك شخص ما ووقّعت ما يفيد ذلك، فسنفترض أنّ كلامك صحيح”.

من جهتها، ذكرت الشرطة الدانماركية أنّ هذا القرار يشمل فقط الأشخاص المنخرطين في علاقات جادَّة، وهي التي حدّدتها الشرطة بـ”التي دامت لستة أشهر أو أكثر، وتضمّنت لقاءات وجهاً لوجه، وليس فقط عبر الإنترنت أو المكالمات الهاتفية، حتى لو كانت الأخيرة مفعمة بالعواطف وزاخرة بالمشاعر”.

العشق العابر للحدود

العواطف الجيّاشة والمشاعر السيّالة هي التي دفعت الدانماركية إنجا راسموسن، 85 عاماً، وصديقها الألماني كارستن هانسن، 89 عاماً، دأبا على تحدّي الإغلاق طيلة الأسابيع الماضية باللقاء دورياً على نقطة بعينها على الحدود. يجلسان لساعة أو اثنتين، يتجاذبان أطراف الحديث ويتناولان مشروبات وسندويتشات مع الحفاظ على مسافة التباعد الاجتماعي.

القرار الجديد من قبل الدنمارك يتوقّع أن يسهّل من لقاءات راسموسن وهانسن وغيرهما من آلاف الشركاء والعشاق، شرط الجنسية وإثبات العشق ببراهين تدل على العلاقة، وحجج تؤكّد الشراكة العاطفية التي باتت أمراً يبدو أشبه بالخيال غير العلمي في هذا الجزء من العالم.

آراء في صكّ عبور العشاق

المهندس أيمن طه، 52 عاماً، طلب توضيحاً أكثر قبل أن يُجيب عن رأيه في “صكّ عبور العشاق”. بمعنى آخر: “ما رد فعلك لو طلبت الدولة منك تقديم دليل على أن فلانة شريكتك وتربط بينكما علاقة عاطفية؟”. وبعد توضيح ما يجري في الدانمارك، قال بامتعاضٍ شديد، “الدليل الوحيد للدولة ولي وللمدام عندي والأهم من ذلك لربّ العزّة هو وثيقة الزواج الرسمي المُبرَمة طبقاً للشرع أولاً ولقوانين الدولة ثانياً”.

المدام عندي

“المدام عندي” مسمّى يقول الكثير والكثير عن ثقافة الشريك في العالم العربي وفي دولةٍ كمصر. هذا المسمّى يُستخدم عادةً من قِبل الأزواج من المنتمين للطبقة المتوسطة، ممن يجدون في التفوّه باسم زوجاتهم أمراً غير لائق، بل ويكتسب صفة الحرمانية أحياناً. أحد المواقع المتخصصة في تلقّي الأسئلة والإجابة عنها باعتبارها فتاوى، لكنه غير تابع لدار الإفتاء، يتلقّى مئات الأسئلة التي تسأل عن رأي الدين والشرع في التفوّه بأسماء النساء أمام الرجال الأجانب، أي الذين لا يمتّون لهنّ بصلة قرابة.

استنكار عربي

الثقافة المُحافِظة التي تدفع رجالاً إلى الإشارة لزوجاتهم بـ”الجماعة”، أو في أوساط اجتماعية أقل بـ”الوليّة” أو “أم العيال”، تنظر إلى ما تتخذه الدانمارك من إجراءات لتيسير عبور العشاق بعد استيفاء شروط الإثبات، باعتبارها أموراً أقرب ما تكون إلى الخيال.

البعض يتعجّب، والبعض الآخر يُنكِر، وفريقٌ ثالث يستنكر. منهم من يعتبرها أموراً لا تعنيهم وأنها والعدم سواء، ومنهم من يمصمص شفتاه ويندب حظّه إذ يُقارن بين الغرب المتفهّم لقواعد العشق ومتطلّبات الهيام، ومنهم من ينظر إليها باعتبارها دليلاً دامغاً على الانفلات والتسيّب؛ لأن لا علاقة إلا علاقة الزواج المُبرَم في الكنيسة على يد القس أو الموقّع في دفتر على يد مأذون على سنة الله ورسوله.

برهان الزواج

مجرد طرح السؤال وما يلقاه من عبوس واستنكار يكشف جانباً من الفكر الشعبي السائد فيما يختصّ بالعلاقات وتفاصيلها بما في ذلك اسم الزوجة، فما بالك بتقديم إثباتات تفيد بنوع العلاقة.

معظم الإجابات من قِبل أشخاص تمّ سؤالهم عن موقفهم حال فرضت الدولة تقديم براهين عشق؛ دارت في إطار الإجابة بسؤال استنكاري قَوَامه، “وهل هناك برهانٌ أقوى من وثيقة الزواج؟”.

لكن الجميع يعلم أن العلاقات، بما فيها تلك المُقَامة في العالم العربي بدُوَلِه المُحافِظة، لا تقتصر على الزيجات. فهناك درجاتٌ أخرى تتراوح بين “قراءة الفاتحة” أو “نصف الإكليل” والخطوبة وتلك المُسمَّاة بالرفقة، والتي عادةً تكون في الظل، إذ إن المجتمع يرفضها على الرغم من علمه بوجودها.

حتى أصحاب هذه العلاقات، ومعظمهم من الشباب والفتيات، يتفاوتون في ما بينهم حول إجراءات الدانمارك. يقول مروان، 19 عاماً، ضاحكاً، “لو وجدتَ الرجل يمشي في الشارع وسيدة تلهثُ خلفه للّحاق به وهو يتجاهَلُها، فهذا دليلٌ دامغ على أنهما في علاقة متينة اسمها الزواج”. أما نورهان، 18 عاماً، تقول إن “أهلها لو علموا بأمر علاقتها بزميلٍ لها؛ فسيقيمون الدنيا ولا يقعدوها، فما بالك بتقديم أدلة للحكومة على وجود علاقة؟”.

تحضّر وتمدّن

تقديم أدلة للحكومة على وجود علاقة يدقّ على وترٍ حساس لدى حسام ماهر، 25 عاماً، الذي ينظر إلى ما فعلته حكومة الدانمارك باعتباره قمّة التحضّر والتمدّن، “فمن جهة تُريد الدانمارك أن تضمن أن من يعبرون إلى داخل حدودها في ظلّ ظروف الوباء الصعبة هم من يرتبطون بالفعل بأشخاص دنماركيين، وليسوا مجرد راغبين في الانتقال للعيش فيها. ومن جهة أخرى فإن قرارها يعكس احترام الثقافة والدولة لمشاعر الناس وصحتهم النفسية والعاطفية حتى في ظلّ ظروف الوباء الصعبة”.

ولا يعتبر ماهر قرارات الدانمارك بتقديم ما يثبت العلاقة من رسائل شخصية وعاطفية تدخّلاً سافراً في العلاقات، ولكنها الضرورة التي تُبيح المحظورات. ويُضيف، قرار الدانمارك يذكّره بما تعرّض له قبل حوالى عامين أثناء قيادته سيارته الملاكي ومعه صديقته، إذ أوقفه ضابط شرطة في لجنة أمنية، وبعدما تأكّد من صحة رخصتي القيادة والسيارة، سأله عن طبيعة العلاقة بينه وبين الصديقة. يقول، “كلمة صاحبتي غير مستساغة في المجتمع، على الرغم من أنّ المنظومة نفسها قائمة ومنتشرة حتى بين الفئات الاجتماعية البسيطة. لذلك قلت للضابط إنها خطيبتي، فسألني عن سبب عدم وجود خاتم الخطبة، فقلت له أننا قرأنا الفاتحة فقط، فطلب مني الاطلاع على صور الاحتفال. وعلى الرغم من عدم قانونية ما فعله الضابط، فإن ما جرى يعكس الفكر والثقافة الشعبيين السائدين اللذين يعرفان معرفة يقينية بوجود علاقات بين الجنسين، لكنهما أيضاً يرفضان كلياً الاعتراف بها. طالما العلاقات سريّة، فلا ضرر أما إشهارها أو الحديث عنها على الملأ فيعني توجيه دعوة صريحة للضرر للتدّخل.”

تدخّل الدولة

التدخّل في العلاقات الشخصية والتأكّد من طبيعتها والإطار القانوني لها ومدى مشروعيتها بمقاييس المجتمع، ليست وليدة الوباء القريب أو الفيروس العتيد. وإذا كانت الدانمارك أقرّت إجراءات بدت للبعض بالغة الانفتاح، وغارقة في التفهّم، بالسماح للشركاء والعشاق بالمرور في زمن كورونا، وبدت للبعض الآخر أنّ في شروط إثبات العلاقة ما يخرق قواعد الخصوصية، وتدخّل الدولة في ما لا يعنها من علاقات عاطفية؛ فإن العلاقات العاطفية في العالم العربي أصلاً شأنٌ عام، سواء بحكم العادات والتقاليد أو بإمرة القوانين أو تحت وطأة موجات التزمّت والانغلاق، التي أطلّت برأسها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.

يُشار إلى أن الدراسات والبحوث التي أجريت حول الرومانسية والعلاقات العاطفية والقواعد التي تتحكّم فيها في العالم العربي، تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة. فمثلاً تشير دراسة عنوانها “إعادة اختراع الحب: الجندر والرومانسية والألفة في العالم العربي”، إلى هيمنة ثلاثة توجهات رئيسة في ما يختص بالدراسات الأنثروبولوجية عن العلاقات العاطفية في العالم العربي. الأول يقوم على مسوحات مقارنة بين الثقافات وإرجاع العواطف إلى عوامل بيولوجية وهرمونية، والثاني يعتبر العلاقات العاطفية مهرباً من قيود المجتمعات المغلقة وذات التركيبة الهرمية القائمة على سلطة الرجال المتناهية، والثالث يعتبر العلاقات العاطفية منتجاً ثقافياً غربياً وارداً من أوروبا وأميركا، ولا علاقة له بالعالم العربي من قريب أو بعيد.

وبعيداً عما يودّ العالم العربي أن يظنّه عن طبيعة العلاقات بين الجنسين، وأنها تقتصر على الزيجات الشرعية الموثَّقة رسمياً ودينياً؛ فإنّ الكوكب، من دون استثناء، عامرٌ بالعلاقات العاطفية المحليّة أو عابرة الحدود، الفعليّة أو الافتراضيّة، المُبارَكَة من المجتمع أو الحائزة على لعناته، المسموح لها بالعبور إلى داخل الدانمارك أو الممنوعة بحكم الجنسية أو الافتراضية، أو عدم مرور ستة أشهر عليها.

يُشار إلى أنّ القواعد التي أعلنتها الدانمارك قبل أيام للمّ شمل العشاق المرتبطين بعلاقات عاطفية، لا تقتصر على العلاقات بين الإناث والذكور، لكنها تمتدّ إلى العلاقات المثلية وغيرها.

أعلنت الدانمارك عن فتح حدودها أمام الأحبّاء والعشّاق الذين فرّقت كورونا بينهم وبين محبيهم

أعلنت الدانمارك عن فتح حدودها أمام الأحبّاء والعشّاق الذين فرّقت كورونا بينهم وبين محبيهم 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015