“معارك” المعلِمة السورية أحلام
رسوم: سوسن نورالله

ألمى حسون/ بي بي سي عربي-كانت “أحلام” تركن سيارتها الفضية الصغيرة قرب خيمتها في منطقة نائية قرب الحدود السورية ـ التركية أصبحت تعرف فيما بعد بـ “مخيم قاح للنازحين السوريين”.

من بين نساء المخيم، “أحلام” هي المرأة الوحيدة التي تقود سيارتها مجتازة طرقات المخيم الترابية الوعرة شمال محافظة إدلب، مارَة بين عربات يقودها رجال نزحوا من مناطق مختلفة، ومسلحين منتشرين في كل مكان.

مع اشتداد القتال نهاية عام ٢٠١٢، نزحت المعلمة السورية “أحلام الرشيد” وعائلتها من منزلهم في معرة النعمان في محافظة إدلب ـ إحدى أكثر الأماكن عنفا في سورية. وبدأت استخدام سيارتها لتصل إلى مدرسة القرية أسفل الجبل بعد أن عملت على افتتاح أحد صفوفها لتدرس طلاب المخيم.

“أول مرة ركبت فيها السيارة في المخيم، لم يبق رجل ولا امرأة ولا ولد إلا وقالوا ‘حرمة عم تسوق’. كنت المرأة التي تحدت الواقع والفصائل ومشايخ المخيم. كنت أقود بثقة وكأنهم غير موجودين”، تقول أحلام في حديث مع بي بي سي عبر “واتساب”.

أثناء عملها كمدرسة منذ عام ٢٠٠٦ وحتى نزوحها من بيتها عام ٢٠١٢ كانت أحلام قد درست معظم طلاب المنطقة مادة اللغة العربية. وعندما وصلت المخيم ساعدها طلابها في نصب خيمتها.

“استقبلنا من وصل قبلنا إلى المخيم. كان البرد لا يوصف. وكان الوضع صعبا، لا صرف صحي، ولا كهرباء، وكان نقل الماء صعبا”.

مع اقتراب أول امتحانات للطلاب منذ نزوحهم، بدأت أحلام تراجع لهم قواعد اللغة العربية في خيمتها، وكان ابنها واحدا من هؤلاء الطلاب. وبسبب “نظرة المجتمع” كان من الصعب تدريس الفتيات والشبان معا في خيمتها الصغيرة لذا سعت أحلام إلى إعادة افتتاح أحد صفوف مدرسة القرية.

تتذكر أحلام كيف أقنعت هي وبعض أهالي المخيم زوجها ليسمح لها باستئجار حافلة تنقلها مع عدد من طلاب المخيم الواقع في منطقة خاضعة لفصائل المعارضة المسلحة إلى مدينة إدلب التي كانت لاتزال بيد القوات الحكومية، لأداء الامتحانات التي كانت تجري فقط وسط المدينة.

“كان قلبي مع الطلاب، لذا أردت الذهاب معهم؛ أعرف أن بعضهم لم يكن معه بطاقات امتحانية، والبعض يخشى الاعتقال في المدينة، وآخرون كانوا صغارا لم يمشوا وحدهم في شوارع المدينة”.

ونظرا لكون أحلام شخصا “له مكانته” كمعلمة وكمديرة سابقة لمراكز امتحانية، استطاعت أن تتواصل مع زملائها السابقين في مديرية التربية التابعة لوزارة التعليم طوال “فترة المفاوضات” لإدخال الطلاب، حتى تلقت اتصالا يسمح لها بإدخالهم إلى المدينة.

قبل هذه الحروب والمعارك العسكرية وتفاصيل الحياة فيها، كانت أحلام قد خاضت كثيرا من المعارك العائلية “سلميا”؛ فوالدها “المحافظ اجتماعيا” كان يرى أن لا جدوى من تعليم الفتيات، وعائلة زوجها كانت ترفض أن تعمل المرأة أو حتى أن تقود سيارة.

لكن أحلام حصلت على شهادة في الأدب العربي من جامعة حلب، وأصبحت معلمة مرحلة ثانوية، واشترت سيارتها ذات اللون الفضي.

“ما عنا بنات تتعلم”

كانت أحلام، وهي الابنة الكبرى لعائلتها، تنتقل كلما انتقل مكان عمل والدها؛ وتغير مدارسها كلما تغير عمله؛ فدرست في قريتها في ريف إدلب، ثم في تل منين في ريف دمشق، ومدينة البترون شمال لبنان، ثم عادت مرة أخرى إلى قريتها في المرحلة الثانوية.

تقول أحلام إن والدها الأميً كان يكرر دائما “لهون وبكفي، ما عنا بنات تكمل دراسة”، حتى أنه اغتنم فرصة منع حجاب الفتيات في مدراس سورية في الثمانينات (أثناء فترة الصدام بين البعث الحاكم والأخوان المسلمين) ليحاول منعها ـ هي المحجبة ـ من متابعة الدراسة الإعدادية.

والد أحلام كان يجد الأسباب لمنعها من أن تدرس، وهي كانت تحاول إيجاد “الحيل” لتبقى في المدرسة مع رفيقاتها.

عام ١٩٨٧، تقول أحلام إنها كانت من الأوائل في الثانوية العامة في محافظتها إدلب لكن والدها رفض السماح لها السفر لدراسة علم النفس في جامعة دمشق.

“لم أشأ أن أكسر كلمة والدي، فهناك عادات وتقاليد احترام الوالدين، لكن بنفس الوقت لم أشأ أن أخسر مستقبلي. توجهت إلى مدير المدرسة ولعدد من أولاد أعمامي المتعلمين ليقنعوا والدي. الكل وقف جانبي.. وجه المدير دعوة إلى والدي وكرموه في المدرسة باعتباره أب طالبة متفوقة.. وعندنا عاد إلى القرية وافق أن أدرس ولكن بجامعة حلب القريبة..وليس في دمشق”.

عندما نزحت أحلام وعائلتها إلى شمال سورية قبل نحو خمس سنوات، توفي والدها بعيدا في تركيا.

و”لروح والدها” قررت أحلام أن تبدأ بتعليم نساء المخيم مبادئ القراءة والكتابة بعد أن لاحظت أثناء العزاء أن كثيرا من النساء لم يكن يجيد القراءة.

“يومها خطر على بالي أن أعلمهن، من أجل روح والدي، ولو شيئا بسيطا ليتمكنوا من قراءة بعض الكلمات، وظلت النساء يأتين إلى خيمتي نحو أربعة أشهر ليتعلمن، وبعدها انتشرت هذه الجلسات في أكثر من خيمة”.

“ما عنا بنات تشتغل”

اتسع عدد من يستطيع التدخل بحياة أحلام بعد زواجها بداية التسعينات.

“عشت في بيت أهل زوجي، وكنت محرومة من كل الحريات حتى حرية إبداء الرأي. كانت حماتي مثلا تقول لي ما عنا بنات تشتغل.. علقي شهادتك على باب المطبخ. لكنني استطعت أن أعمل كمعلمة”.

حتى عندما أرادت أحلام شراء سيارة لتتنقل بسرعة بين المدرسة والمعاهد الخمسة التي كانت تدرس فيها اضطرت لخوض جدال طويل مع كل العائلة. “لكن عندما بدأت أقود سيارتي في القرية، كنت أحس اني ملكت الدنيا. كانت الصبايا والمعلمات ينظرن لي نظرة إعجاب”.

منذ نحو سنتين ونصف بدأت أحلام العمل مع منظمة دولية معنية بالتوعية حول العنف ضد المرأة وتلقت تدريبا علىGender based violence (GBV) أي العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي وخاصة زمن الحرب.

“هنا في المخيم كنت أسمع صراخ نساء يتعرضن للضرب، ففوق معاناتهن من ضغوط الحرب ونقل المياه كن يتعرضن للضرب. ولم أكن أستطيع التدخل بسبب تقاليد المجتمع. هذه أمور كانت تحز في نفسي. لكن قبل الحرب أيضا، كان هناك عنف لكنه كان مخفيا، اليوم الناس يعيشون في المخيم فظهر هذا العنف تلقائيا”.

أكثر ما يقلقها هو حالات العنف الجنسي والجسدي والزواج المبكر التي تصلها بحكم عملها، خاصة بسبب التكتم على هذه الحالات “التي لا تعد ولا تحصى”.

تشعر أحلام اليوم أنها في “موقع قوة”، حتى أن لا أحد يوقفها عندما تقود سيارتها في المخيم “حيث الفلتان الأمني، والفقر” منتشران، بسبب “ثقتها بنفسها”.

هي قادرة أن تقول الآن إنها تعرضت طوال حياتها لـ “تسلط أسري” بدءا من محاولة أهلها إخراجها من المدرسة، و منعها من السفر إلى دمشق للدراسة، وإجبارها على الزواج من ابن عمها “الذي تحترمه لكنها تشعر أنها سلبت حريتها كفتاة بأن تختار حياتها كما تشاء”.

“اليوم، كامرأة ناضجة، عندما أعود بذاكرتي أشعر أني كنت أتعرض للعنف، ولكني لم أدرك أنني تعرضت لهذا العنف فقط لكوني امرأة”.

حتى اليوم، دربت أحلام “نحو 700 شخصا” للتعامل مع حالات زواج الفتيات المبكر، وما “يزيد عن ألفي شخص” لنشر ثقافة مضادة للعنف ضد المرأة في ريف إدلب ـ المحافظة التي تتوافد عليها الآن حشود عسكرية استعدادا لمعركة جديدة محتملة.

يأتي هذا التقرير في إطار موسم 100 امرأة الذي تروي من خلاله بي بي سي قصص نساء وإنجازاتهن.

رسوم: سوسن نورالله
رسوم: سوسن نورالله

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015